طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    حموشي يخاطب مجتمع "أنتربول" بالعربية    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    النصيري يزور شباك ألكمار الهولندي    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطَّفْرَةُ الإبداعيّة للواقعيّة السحريّة في الأدب الأمريكي اللاّتينيّ
نشر في هسبريس يوم 27 - 09 - 2020

الكُتَّابُ والنُقّاد المعاصرون كيف يرون اليوم ما يطلق عليه ب "البّووم الأدبي الأمريكي اللاّتيني المعاصر" El boom latinoamericano الذي رفع الإبداعَ الأدبي إلى أعلى مراتبه على امتداد ما ينيف على نصف قرن، والذي ارتبط بظاهرة الواقعيّة السحريّة في الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر في هذا الشقّ النائي من العالم..؟ ومعروف عن هذه الحركة أنّ أسماء لامعة قد اشتهرت، وتألّقت فيها في مختلف أغراض الخَلْق، والعَطاء من الإبداع الرّفيع في الشّعر، والرّواية، والقصّة، وسواها من أشكال التعبير الأدبي، والفنيّ، والسّردي على اختلاف مجالاته، وذاعت أعمالهم وانتشرت في مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، وفي سائر أنحاء العالم أمثال: غابرييل غارسّيا ماركيز، والفارُو موتيس، في كولومبيا، وأليخو كاربنتيير في كوبا، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس في المكسيك، ونيكانور بارّا، وبابلو نيرودا، وإيزابيل أيّيندي في شيلي، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيُّو كاساريس في الأرجنتين، وماريو بارغاس يُوسَا في البيرو، وميغيل أنخيل أستورياس في غواتيمالا وسواهم .هذه الحركة الإبداعية الكبرى التي انطلقت في الستّينيّات من القرن المنصرم، والتي شكّلت حدثاً أدبيّاً هامّاً، ونقلةً نوعية فريدة في بابها خاصّة في عالم الخَلْق، والإبداع في الأدب المكتوب في فضاء اللغة الإسبانية، وعلى وجه الخصوص في بلدان أمريكا اللاّتينية.. كيف تراها اليوم ثلّة من الكتّاب، ومن النقّاد المعاصرين المعروفين على تباين جنسياتهم، ومشاربهم في مختلف أنحاء العالم..؟
بنجلّون والخيال المُجنّح
كان الكاتب المغربي باللغة الفرنسية المتألّق الطاهر بن جلّون، قد أدلى ضمن استطلاعٍ كانت قد أجرته جريدة "البّايس" الإسبانية الواسعة الانتشار حول هذا الموضوع إلى جانب نخبة من الكتّاب والنقّاد الآخرين، حيث كان الكاتب العربي الوحيد المشارك في هذا التقييم النقدي لهذه الحركة الأدبية، يقول في هذا القبيل: عندما كنت ما زلت أتابع دراستي في المعهد الفرنسي بطنجة، كنت أستمع، وأتابع بشغف كبير الكاتب الكوبي أليخُو كاربنتيير وهو يحدّثنا عن الزّخرفة في الأدب، كان رجلاً أنيقاً، وطيّباً، وقد تركتْ الزيارة التي قام بها للمعهد في ذلك الإبّان أثرا عميقا في نفسي، ثم بعد ذلك أهداني الكاتب الإسباني إميليو سانث - الذي كان يقضي وقتاً طويلاً في طنجة - كتاب مئة سنة من العزلة للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مترجَماً إلى اللغة الفرنسية فانغمستُ بسرعة في قراءة هذا الكتاب، إلاّ انّه لم يشدّني أو يجذبني إليه في البداية بما فيه الكفاية، كان هناك شيء مّا في هذا العالم يمنعني من الدخول بكلّ مجامعي في هذه الرّواية التي لم تكن تشبه في شيء ما كنت مُعتاداً على قراءته من قبل، ولكنّني عدتُ إلى قراءة هذه الرّواية من جديد في ما بعد، بخاصّة بعدما اكتشفتُ العمل الأدبي الاستثنائي والفريد للكاتب المكسيكي خوان رولفو، وبفضل عمله الإبداعي الرّائع بيدرُو بارامُو دلفتُ في غابة الأدب الأميركي اللاّتيني المثيرة. واكتشفتُ أنّ خوان رولفو كان له تأثيّر كبير على غابرييل غارسيا ماركيز، كما كان له تأثير في بعض الكتّاب الآخرين من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية من جيله، وألفيتُ بعضَ الأواصر الأسرية الوثقى بين عوالم هؤلاء الكتّاب، وبين بعض المُبدعين في العالم العربي، حيث كنت أقرأ لكارلوس فوينتيس، وماريو بارغاس يُوسا وكأنّهما كاتبان من بلدي.
وأضاف بنجلّون في السّياق نفسه: إنّ الأوج الذي أدركته هذه الحركة الإبداعية ممثّلة للأدب الأمريكي اللاّتيني شكّلت حظّاً سعيداً، وكانت طالعاً حسناً للأدب بشكلٍ عام في النصف الثاني للقرن العشرين، لقد شاء الحظ أن تهيّأ للعديد من الكتّاب فرصة انتمائهم لنفس الجيل، كما هيّأت لهم فرصة تمتّعهم بالموهبة والخيال في الوقت نفسه. لقد شكّل هؤلاء الكتّاب كوكبة من المبدعين في جميع أنحاء قارّة أميركا اللاّتينية، حتى وإن كانت أساليبهم الأدبية متباينة، كما كانت المواضيع التي عالجها هؤلاء الكتّاب موجودة ومتقاربة في إبداعاتهم الأدبية على وجه العموم، ولقد اتّسمت هذه الإبداعات بنوعٍ من الجرأة، وبضربٍ من الزخرفة والتنميق، كانت تظهر في إبداعاتهم بقايا آثار سوريالية، وبصمها نوعٌ من الجنون، والتحليق اللذين يتناقضان مع الواقعية الأوروبية، وعدم التكيّف مع واقع النمط الأمريكي، لقد أطلقت هذه الحركة الأدبية العنانَ لحريّة الخيال، وفتحت عالما طليقاً بدون قيود. وعن تجربته الشخصية في الكتابة والإبداع -يقول بنجلون- بنوعٍ من الوثوق في النفس: إنّه بعد قراءته لأونيتّي، وبورخيس، وغارسّيا ماركيز، ونيرودا وكذلك لكتّاب آخرين من القارة الأمريكية، فإنّ كتاباته حصلت على ترخيص للحُلم والابتكار، وهو يؤكّد أنه مَدين في هذه الحرية، وهذا التطوّر لذلك الخيال المُجنّح الذي ليس له حدود الذي طبع هذه الحركة الأدبية على امتداد ما ينيف على الخمسين سنة الماضية.
مأساة يندىَ لها الجبين
وقال بنجلّون - من جانبٍ آخر- إنّه ينتمي لبلدٍ أربعون في المئة من سكانه لا يقرأون ولا يكتبون، وهذه مأساة وعار يُندى لهما الجبين حقّاً، وقال إنه يعرف أنّ بعض بلدان أمريكا اللاتينية تعاني كذلك من هذه المأساة، وقال في السياق نفسه: إنّ أحد هؤلاء الكتّاب المنتمين لهذا البوم الأدبي الشهير، وهو الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس، طرح عليه ذات مرّة السؤال الآتي: لماذا تكتب لقارّة أميّة لا تقرأ ولا تكتب..؟!. ويقول بنجلون إنه ما زال يتذكّر جيّداً جوابَه حتى اليوم وهو ما سيقوله لنا من الذاكرة، وهو ما يلي: قال فوينتيس إنني أكتب حتى وإن كنتُ على علمٍ أنّ بلديّاتي لا يقرأون لي، وذلك لأنهم حالوا بينهم وبين تعلّم القراءة إنني سأكتب جيّداً، بل جيّداً جدّاً لأنني أريد أن أقدّم لهم ما هو أحسن، لأنه لا بدّ أن يأتي يوم سوف يقرأ فيه هذا الشعب، وإذا لم يتسنّ له القراءة فسوف يقرأ أبناؤه، وعليه فإنّ نصوصي ينبغي أن تكون خالية من النقائص وبعيدة عن العيوب، هذا ما أقوله عندما أُسْأل هذا السّؤال. بعد ذلك قال بن جلون: إنّ البعض يعتب عليه أن لماذا لا يكتب باللغة العربية؟، فهو يكتب بلغة غير لغة بلاده، بل إنّها لغة المُستعمِر...! إلاّ أنه يردف قائلاً: إنّ الذين يعتبون عليّ أن لماذا أكتب بالفرنسية بدلاً من اللغة العربية، إنّما هم يطلبون منّي بشكلٍ أو بآخر أن أتخلّى عن الكتابة، لانّهم يعرفون أنّني لا أجيد، ولا أتقن بما فيه الكفاية لغة القرآن لأعبّر بها بطلاقة وسلاسة كما أفعل ذلك في اللغة الفرنسية، ثمّ أضاف: إنّ جوابي عن هذا السّؤال المتعلق بالآداب الأمريكية اللاتينية يشجّعني ويدعمني للمضيّ قدماً في طريقي ككاتب، ويَعتبر بن جلون نفسَه شاهداً على عصره، ومشاركاً فيه، وهو لا يرى نفسه كاتباً متخفياً، أو هادئاً، بل إّنه يتدخل ويدلي بدلوه دون انقطاع كمواطن، ولكنّه يرى من جهة أخرى أنه لن يصل في تدخّلاته إلى حدّ مزاولة السياسة مثلما فعل ذات يوم الرّوائي البيروفي ماريُو بارغاس يُوسا.
الواقعيّة السّحريّة
ويرى الكاتب الأمريكي غاي تايليسي من جهته في هذا الموضوع: أنه يشعر بدَيْن نحو هؤلاء الكتّاب المنتمين لجيل البّووم الأدبي الأمريكي اللاّتيني، الذين أخرجوه، وأخرجوا العديدَ من زملائه من الجهل الذي كانوا يتخبّطون فيه حول المنجزات، والانتصارات التي طبعت تاريخ أمريكا اللاّتينية منذ عهود الاكتشاف، كما يرى أنّ: هؤلاء الكتّاب كانوا روائيّين كبارا أنارُوا بفكرهم الثاقب، وبخيالهم الواسع عقولنا، بل وكانوا مصدرَ إلهامٍ لنا بما ألّفوه، وأبدعوه، وقدّموه لنا من قصصٍ، وحكاياتٍ لأناسٍ عاديّين، وعن معاناتهم، وطموحاتهم، وتطلعاتهم وجعلوا من هؤلاء وكأنهم أصبحوا جيراناً أدبيين لنا .وترى الكاتبة الأرجنتينية أنَا ماريا سُووَا أن هذه الطفرة الإبداعية: جعلت الأدبَ يقف ثابتاً على قدمْين، أو بالأحرى يدبُّ على قدمْين وأنزلته من عليائه إلى الناس، كان أصحابه كتّاباً ومبدعين من طراز رفيع دون الخضوع أو الخنوع لأيّ أيديولوجيا سياسية، لقد شكّلت هذه الحركة الأدبية في تاريخ الإبداع الأدبي ثورة حقيقية كان لها تأثير بليغ في الأدب العالمي المعاصر. وأمّا الكاتب الإيرلندي جون بانفيل، فعلى الرّغم من أنّه يجعل من أوروبّا موطناً لانطلاق هذه الحركة، إذ يعزُو للكاتب الألماني الراحل غونتر غراس أنه صاحب أوّل كتاب حول الواقعيّة السحريّة، فإنه يرى أنّ أصحابَ هذه الحركة الأدبية سلّطوا مزيداً من الضّوء على الواقعية السحرية، إنهم شكّلوا بإبداعاتهم ثورة ملموسة في عالم الإبداع، ويضيف بانفيل مازحاً أنه مع ذلك ليس متأكّداً من وجود هذه الثورة، ومع ذلك يظلّ بورخيس أحسنهم جميعا بالنسبة إليه.
ويشير الكاتب الأمريكي إليوت وينبيرغر في هذا الشأن: أنّ الناس دأبوا على القول بأنّ هذا البّووم هو من إنتاج سوق الأدب الأمريكية الذي انتشر منها إلى مختلف أنحاء العالم، وإن الثوب الذي قدّمت به نفسها هذه المجموعة من الكتّاب الذين لا يجمعهم رابط مشترك سوى أنهم كانوا برمّتهم من أميركا اللاتينية، لم يكن في الواقع حركة جمالية، بقدر ما كان حركة أدبية حظيت بترجمات متوالية في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت الترجمات فيها من قبل قليلة جدّاً لكتّاب ينتمون كلّهم إلى لغة واحدة ومنطقة واحدة من العالم، بخاصّة وأنّ هؤلاء الكتّاب قد أبدعوا في الفنّ الرّوائي بشكلٍ خاص، والذين مهّد لهم من قبل مبدعون آخرون كبار مثل الأرجنتيني بورخيس، والتشيلي نيرودا، والمكسيكي باث، والتشيلي نيكانور بارّا وسواهم .
مئة سنة من العُزلة أكثر الرّوايات تأثيراً
لقد كان لهذا البّوم ميل كبير للخيال، ولهذا اعتُبرت مئة سنة من العُزلة للراحل غابرييل غارسيا ماركيز في هذا السّياق من أكثر الرّوايات تأثيراً في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، إلاَّ أنّ هذا الكاتب الأمريكي يرى أنّ الشّعر كان له تأثير أكبر وأوسع في الولايات المتحدة الأميركية. ولم يتوانَ كبار الشّعراء في هذا البلد في ترجمة الشّعر الأميركي اللاّتيني المعاصر. وقد صادف هذا البّوم الأدبي ظروفاً تاريخية خاصّة حرب الفيتنام، وظهور حركات الحقوق المدنية... إلخ، ونجح هذا البّووم لأنّ الناس كانوا متعطّشين لآفاق ثقافية أخرى آسيوية، وهندية، وإلى تقاليع كانت في بعض الأحيان محظورة، وقد وجدوا ضالتَهم في المخدّرات، أيّ كان الناس عطشى لثقافة مُضادّة للثقافة الأمريكية التي كانت سائدة، ولم يتمثّل ذلك البديل في الواقعية السحرية وحسب، بل في أميركا اللاتينية بأسرها التي كانت تشكّل عالماً جذّاباً جديداً للأمريكيّين، وعليه فالّبووم الأدبي الأمريكي اللاّتيني كان أكثرَ أهميّةً في الشّمال أكثر ممّا هو كان عليه في الجنوب .
وأما الكاتب الأمريكي جون لي أندِرسَن فيرى أنّ أقربَ الكتّاب والرّوائيين إليه في هذه الحركة الأدبية هو الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، إذ منذ أن قرأ روايته مائة سنة من العزلة عالم 1977 فتحت هذه الرواية أمامه آفاقاً جديدة لرؤية العالم، وفهمه بطريقة تختلف عن السّابق، ثم كان لقاؤه بعد ذلك مع كورتاثار، والبرازيلي خورخي أمادو ثم مع ماريو بارغاس يوسا وآخرين، وحسب منظوره فقد تألّق وانتشر هذا الأدب لأنه عُني في المقام الأوّل بالنّاس العاديّين مثل السكّان الأصلييّن، والمُولّدين، والسُّود، وسكان البوادي الذين كانوا مُهمَّشين تماماً، ومن ثمّة اكتسب أهميتَه، وقيمتَه وبُعْدَه الأدبي والإنساني العميق، لقد حققت هذه الحركة الأدبية طفرة نوعية في بابها ليس في أمريكا اللاّتينية وحسب، بل وخارجها كذلك، وأفسحت المجال لعالمٍ أكثرَ شموليةً، وعالميةً، وديمقراطيةً، أكثر مِمَّا كان عليه الأمر من قبل.
طفرة من المحليّة إلى العالميّة
وترى الكاتبة الإسبانية كريستينا فرنانديز كوباس أنّ أوّلَ مَنْ استرعى انتباهها، وشدّها إلى هذه الحركة وروّادها هو الكاتب المكسيكي خوان رولفو برائعته بيدرو بارامو، ثم جاء في ما بعد الكتاّب الآخرون المنضوون تحت فضاء هذه الحركة الذين أعطوا نفساً قويّاً، وضخّوا دماً جديداً في الرّواية المعاصرة في أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. ويعترف لنا الكاتب التشيلي لويسْ هاسْ بأنّ الرّوائي الأوّل الذي سيطر على مجامعه ضمن هذه الكوكبة من الكتّاب كان هو خوليو كورتاثار. وقد عملت هذه الحركة، أو الطفرة في نظره، على نقل الأدب الأمريكي اللاّتيني من المحليّة إلى العالمية، وعمّمت، وعمّقت المفهومَ البورخياني في عملية الإبداع، وهو أنّ الكاتب الجيّد في العُمق هو كلّ الكتّاب، إذ بواسطة هذا الأدب لم تعد الأسطورة، والمعجزة مجازاً أو استعاراتٍ أو أوهاماً بل أصبحتا حقائقَ كلّ أيامنا المعيشة. ويؤكّد هذا الكاتب أنه لا ينبغي أن يعزبَ عن بالنا الدّور المِحوري الذي لعبته مدينة برشلونة بالذات في نشر، وذيوع هذه الحركة الأدبية، كما لا ينبغي أن ننسى أنّ المترجم الإنجليزي غْريغُورِي رُوبَاسّا الذي عُني بهذه الحركة عناية فائقة وهو إبن مواطن كاتالاني، كما أنّ الناشر الذي عُني بهذا البّووم في الأرجنتين هوبَاكُو بُورْوَا ويرجع أصله إلى منطقة غاليسيا جلّيقة بإسبانيا. وفى رأي الكاتب الإسباني خوان كروز، فإنّ هذه الحركة الأدبية شكّلت نوعاً من الانتشار والتنوّع للإبداع الأدبي ليس لهما نظير، فالبّوم يعني الانفجار الذي قلب موازين الإبداع الأدبي بتلك الهالة الخلاّقة التي تمثّلت في الواقعية السحرية التي انصهرت داخل هذا الحركة نفسها. ويرى الكاتب الأمريكي شَارلزْ باكستر أنّ أوّلَ ما وصل إليه من الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر العائد لهذه الحركة كانت قصص بورخيس، وكورتاثار، ثمّ اكتشفَ فيما بعد الكولومبي ماركيز، إلاّ أنه ما لبث أن مال في ما بعد إلى الأديب التشيلي خُوسِّيه دُونُوسُو خاصّة كتابه طائر الليل الفاحش الذي لم يتمكّن من التخلّص من آثاره، وتأثيره إلى اليوم. ويشير هذا الكاتب أنّ هذه الحركة الأدبية تقتنص اللحظات اليومية المعيشة وتصفها بحماس كبير، وترصد حتى الأوهام، وتلتقط الشّطحات، وتشخِّص الأطيافَ، والكوابيسَ، والشخصيات. هنا تكمن قوّة، وزخم هذه القصص، ويعترف هذا الكاتب صراحة -حسب رأيه- أنّ هذا النّوع من الأدب يبقى ضعيفاً إلى حدّ مّا في الولايات المتحدة الأمريكية.
الخيال الأمريكي اللاّتيني الجديد
وترى الكاتبة الأمريكية مَارِي أَرَانَا التي يتحدر أصلها من البيرُو، أنّ هذه الحركة الأدبية لم تكن ظاهرة أمريكا اللاّتينية وحسب، بل كانت ظاهرة أمريكيّة بكل المقاييس نظراً لِمَا كان يحدث حولها من مخاض بين قرّاء لم يكونوا على علم أو دراية، بل إنهم لم يعيروا أدنى اهتمام لما كان يجرى في أمريكا اللاّتينية من ثراءٍ أدبيٍّ راقٍ، وإبداعٍ رفيع، وخيالٍ مُجنّح، كما أنهم لم يكونوا على علمٍ بَعْد بالتراث العظيم للأدب الإسباني، وكان هذا البُوم نوعاً من المُوضة، أو ضرباً من البدعة، التي لا يمكن مناقشتها. وطفق الأمريكيون ينظرون من خلال عيون أخرى مختلفة غير عيونهم، ودخلوا في جلد آخر.. وقالت الكاتبة: إنّ هذا البّووم لا يمكن اعتباره حركة موحّدة، مثل حركة الرّومانسيين الفرنسيّين، أو مثل حركة الطلائعيّين الرّوس، كما أنّ هذا البّووم الأدبي لم يكن حركة كتّاب، بقدر ما كان حركة قرّاء، فقد أفضت هذه الحركة إلى زيادة عدد القرّاء بشكل لم يسبق له نظير، وذلك ترحيباً بالخيال الأمريكي اللاّتيني الجديد. وتؤكّد الكاتبة من جانب آخر أنّ أحد الصحافييّن الأمريكيين الكبار، وهو جيمس ريستون، كان مُخطئاً عندما قال إنّ أمريكا بمقدورها أن تفعل أيَّ شيء من أجل أميركا اللاّتينية، ولكنّها لا يمكنها أن تقرأ شيئاً لها أوعنها!.ويؤكّد الكاتب الهولندي سيس نوتيبوم في خضمّ هذه الآراء المُتعدّدة أنّ هذه الطفرة الإبداعية، قد أقنعته أنّ الرّوائي الكولومبي الرّاحل ماركيز قد اكتشف قارّة، ولقّننا كيف نحكي الحكايات، ونقصّ القصص، هذا البّوم الأدبي عرّفنا كذلك بسوداوية، وعمق الكاتب الأورواغوياني أونيتّي، كما أطلعنا على عالم بورخيس المسحور، ووضعَ نصب أعيننا ألمعيةَ، ولمعانَ، وبريقَ بِييُّو كاسَارِيسْ.
وفى معرض هذه التقييمات، والتحليلات لهذه الحركة، نختم بما أشار إليه الكاتب الإسباني خوسّيه ماريا إيفانكُوسْ، حيث يؤكّد أنّ هذه الحركة أسهمت بقسطٍ وافر في عولمة اللغة الإسبانية، وثقافتها، وعرّفت بالأدب المكتوب في هذه اللغة على أوسع نطاق، كما أنّها نقلتْ هذا الأدب وترجمتْه إلى مختلف اللغات العالميّة الحيّة، وكانت أولى قراءاته لهذا البّووم الأدبي رواية المدينة والكلاب ليُوسَا، ومائة سنة من العزلة لماركيز، ورَاجْوِيلاَ لكُورتاثار. فبواسطة رُولفُو أدخِل إلى الأدب العالمي السّرد الهيكلي، مروراً بفولكنر، وقدّم يُوسا السّرد الذي يَرْصُدُ الواقعَ بواسطة الخيال، وتقريب الرّواية من التاريخ الجماعي، واستعاد كاربينتيير أجملَ التقاليد الباروكيّة السّردية في اللغة.
* كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.