إن قراءة متأنية لتاريخ الصحراء وأحداثه المتتالية منذ سنة 1975 يكشف بجلاء عن وجود ثلاثة أعطاب رئيسية: العطب الأول: فقدان الثقة في الهيئات والمؤسسات من طرف غالبية ساكنة الصحراء بينما تظل الأقلية شعارها الارتزاق وهي على طرفي نقيض متأرجحة بين فئة أولى تسترزق باسم الوطنية وفئة أخرى باسم الانفصال، ونكاد نجزم أن حالة الضعف والصمت التي تتسم بها الأغلبية (نخب سياسية وأخرى مدنية وكذلك مثقفة) هي إحدى العوامل والأسباب التي تظهر قوة الأقلية بل إن هذه الأخيرة تتغذى على فتات الارتزاق المتاح لها كلما اشتدت الأزمة وكأننا نتابع مشاهد مسرحية حبكت بسيناريو وإخراج معروف مسبقا. العطب الثاني: يتجلى في الفساد المالي الذي ينخر اقتصاد المنطقة وعلى أنقاضه تكبر وتترعرع لوبيات الفساد، ضاربة عرض الحائط كل القواعد والقوانين والأنظمة المؤسسة لاقتصاد قوي يعود بالنفع والخير على المنطقة بشكل عام (تقليص نسب البطالة، تشجيع الاستثمار وتحقيق الرفاه الاجتماعي...)، فالاستغلال العشوائي لثروات المنطقة (الصيد البحري، الفوسفاط، الرمال...) أو ما يصطلح عليه باقتصاد الريع من طرف أقلية أصبحت تشكل أثرياء ما بعد كل أزمة، ما يسهم في تأزيم الوضع ويدفع إلى ظهور بوادر احتقان اجتماعي غير محسوب العواقب. العطب الثالث: هو الفساد السياسي والاجتماعي ويأتي هذا الأخير كحصيلة حتمية لكل ما سبق، بحيث أنه من راكم الثروة لا بد له أن يمتلك السلطة وأن يتحول إلى مؤثر في صناعة القرار من خلال فرض قناعاته وقراراته لتصبح أولويات في تحديد معالم السياسة الجهوية والمحلية، فأغلب المشاريع المدرجة ضمن المخطط الجهوي تخدم مصالح هذه الفئة دون غيرها، وكنتيجة لذلك تظهر الفجوة عميقة بين طبقات المجتمع، وكأننا أمام هرم قاعدته العريضة فئة تعاني الهشاشة الاجتماعية في حين تتربع على رأسه فئة تملك الثروة والسلطة في غياب كلي للطبقة الوسطى التي يمكنها أن تحدث توازنا داخل المجتمع. وهكذا تستغل بعض الأصوات الفراغ والصمت بالمنطقة لتعلن عن مبادرة جديدة فيها الكثير من الجرأة وان كانت فاقدة للشرعية، فالمبادرة المعلنة من طرف "منتو حيدر" والداعية إلى تأسيس هيئة سياسية تزعم مناهضة الاحتلال المغربي جاءت كرد فعل لاستغلال الظرف السياسي وما تشهده المنطقة من مستجدات على الساحة السياسية الدولية، ويبقى السؤال المطروح لماذا هذا التحول المفاجئ من العمل المدني الحقوقي إلى العمل السياسي؟ هل معنى ذلك أننا أمام مرحلة جديدة قد تتغير بشأنها أدوات النزاع بعد أن أضحت الورقة الحقوقية منتهية الصلاحية؟ وفي الوقت نفسه فإن ما قامت به "منتو حيدر" هو استغلال للصمت والفراغ الذي خيم على المنطقة وأحدث شللا تاما في حركية ودينامية المجتمع بشقيه المدني والسياسي وجعل المواطن يعيش حالة ترقب وانتظار. لقد وجد المغرب نفسه اليوم أمام تحد كبير هو وجود هيئة سياسية بأهداف واضحة ومباشرة تعلن صراحة عن رفضها للتواجد المغربي بإقليم الصحراء المتنازع عليه، لكن السؤال المطروح الآن: هل سعت "منتو حيدر" إلى تأسيس هذه الهيئة بعدما تأكدت أن المنظمات والهيئات السياسية بالصحراء لا أدوار لها في تأطير المواطنين، وعجزت عن تقديم نفسها بديلا ووسيطا بين الدولة والساكنة ولأن النشأة الهجينة للأحزاب وهيئات المجتمع المدني بالمنطقة لم تثمر النتائج المرجوة منها، حيث أفرزت لنا نخبة سياسية ومدنية تلهث وراء المنصب والجاه والريع والجري وراء مراكمة الثروة والتفكير في المنافع والمصالح الشخصية الضيقة، حيث أضحت الأحزاب السياسية مجرد سلاليم للتسلق والترقي الاجتماعي من خلال استقطاب ذوي المال والنفوذ وتلميع صورة أثرياء الحرب والأزمات، في المقابل العمل على إقبار الكفاءات وتهميش وإقصاء النخب الشابة المثقفة وتمييع المشهد السياسي وابتذاله وطغيان الفلكلور والبهرجة وتأثيث المجال الحزبي بكائنات انتخابية فاقدة للمصداقية، هذه المظاهر وغيرها خلقت أزمة ثقة لدى ساكنة المنطقة في العمل السياسي والحزبي، بل فقدوا ثقتهم أيضا في المنتخبين وفي الانتخابات ولا يعلقون آمالا على صناديق الاقتراع، وهي نفس الصناديق التي أفرزت نفس الأشخاص ونفس العائلات ونفس البرلمانيين ونفس المستشارين لعقود وسنوات خلت. إن السياسة في نظر أمثال هؤلاء البسطاء عمقت الفجوة بين الساكنة بالصحراء وجعلت منهم فئة تعيش الثراء الفاحش وحازت شيكات على بياض في البحر والبر، بينما الفئة العريضة من الساكنة بين فئة متوسطة وأخرى غارقة في لأوحال الفقر المدقع، فالأحزاب السياسية تتحمل المسؤولية الكبيرة في هذا الفراغ في التأطير والمواكبة، هي الأحزاب نفسها التي استنزفت ميزانيات ضخمة من المال العام دون أن توظف التوظيف الصحيح للتأطير والتكوين وإعادة الثقة للمواطن، الذي اختار العزوف عن الانتماء للهيئات السياسية بل حتى إلى المنظمات المدنية بسبب غياب آليات الحكامة الجيدة وضعف نخب قادرة على استقطاب المواطنين بخطاب يتسم بالمصداقية والشفافية، ولعل قوارب الهجرة التي أضحينا نراها كل يوم تقل شبابا من أقاليم مدن الصحراء إلى الفردوس الأوروبي المزعوم لخير دليل على منسوب الإحباط وانعدام الثقة لديه وهنا نطرح السؤال: أين هي الأحزاب التي ادعت أن لها لجان وهيئات مختصة تعنى بملف الصحراء ولها نخب وأطر زعمت أن لها القدرة على مواجهة خصوم الوحدة الوطنية بالخارج وأنفقت أموالا طائلة على جولاتهم وسفرياتهم؟ لماذا لم تتصرف الأحزاب السياسية بكل الجدية المطلوبة من خلال إرساء قواعد وأسس الديموقراطية الحقة بل ساهمت في ذبحها من الوريد إلى الوريد، من خلال تزكية ممارسات وسلوكيات بذيئة وبعيدة عن القيم السياسية الخلاقة؟ وبالنتيجة فإن هشاشة الوضع الحزبي بالصحراء ليس إلا إحدى حلقات مسلسل التراجعات والردة السياسية ليفسح المجال لأحزاب بعينها لتفوز بالكامل بالكعكة وتساهم في بلقنة المشهد السياسي. *عضو مستشار بالمجلس الجماعي العيون