أوردت بعض الجرائد الورقية و الإلكترونية المغربية مقالات إخبارية و أخرى تحليلية حول مواضيع متعلقة بتعنيف الوزراء المغاربة و غيرهم من المسؤولين. و لعل آخرها كان بمدينة آسا، حيث تعرض الأمين العام لحزب التقدم و الاشتراكية لرشق بالحجارة نقل على إثره إلى المستشفى. و من خلال هذا المقال، سأحاول المشاركة في تحليل هذه الظاهرة. سأدندن هنا حول فكرة قد لا أحسن تقديمها أو التعبير عنها، فكرة لا يحق أن نفهم منها أنها تأييدا أو تحريضا على رجم المسؤولين بالحجارة أو بالبيض و الطماطم. فكرة نريدها تحليلا عاما و مجردا، خاليا من أي تحامل على مسؤول ما أو هيئة بعينها. من وجهة نظري المتواضعة الرجم المادي بالأشياء الصلبة مدان، و لا يجوز الرشق بالحجارة إلا ضد الصهاينة، و راشيقهم هم من يسمون بأطفال الحجارة"، أما أغلب المواطنين و باعتبارهم من أولاد "مطيشة" و أطفال البيض، فلا يجوز في حق خصومهم الفاسدين الرجم إلا بها (حشا نعمة الله)، خصوصا إذا كانت فاسدة. عندما يشكوا الناس و يحتجون ثم لا يستجاب لهم ينتقلون مباشرة إلى مستوى أعلى من الإحتجاج و لكنه أدنى من الثورة؛ إنها ثورات محدودة مطالبا و زمانا و مكانا تسمى بالإنتفاضات. كيف نعبر أحلام الحجارة؟ العجيب في أمر المتحكمين أنهم ليسوا لآيات الرجم بفاهمين، لأنهم عندما يرجمون بالبيض و الطماطم يقولون: "هاد الناس شبعوا... هاد الناس يكفرون النعمة و الوطن". و لا يستوعبون أن المنتفضين، في حالة الرجم هاته، يضحون بقوت أيامهم و لياليهم، و مطلبهم الأساسي تحسين مستوى معيشتهم؛ يريدون أن يستبدلونهم الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولكن الحصيلة في الغالب الأعم تكون عكسية و كارثية... فالمرجومون لا يعاقبون خصومهم المواطنين برجم متكافئ من حيث القوة و الوسيلة... أي أن يردوا عليهم بشئ يؤكل كما يأكل البيض و الطماطم، مثلا بأطباق البيتزا و الشوارما أو شكلاطة "دجيف-دو-بريتش" و "برالينور" أو... ولكن بالهراوات و التنكيل. لذلك يقولون في أنفسهم "ما دامت الهراوات هي مصيرنا فلماذا نضحي ببيضنا و طماطمنا؟". الحل في نظرهم يكمن في ذخيرة غير غذائية للرجم؛ إنها الحجارة، "صعيدا مجانيا طاهرا أو نجسا" رجوما للمسؤولين. اللهم لا شماتة في الرجم. فمن جهة، المرجومون يدعون تحقيق شرط ضروري وغير كافي للكرامة ألا و هو التنمية المستدامة. و إذا ما استحضرنا قاعدة أساسية مفادها أن الحواضر المتبعة لسياسة المدينة و للتنمية لن تجد بها أزبالا و لا غبارا و من المستحيل أن تجد بها أحجارا يمكن أن يستعملها جانح لرجم مسؤول... فالواقع واضح يعرفه الكل هو ضعف التنمية، و مدنا لا تصلح إلا لتمثيل أفلام الخراب و تصلح لكل شيء إلا السكن، و في هذه الفضاءات يغيب قدر كبير من الكرامة. و في مدينة كبلدية آسا، يزرع المسؤولون الريح ليحصدوا العاصفة؛ يزرعون "الريح" من التنمية ليحصدوا "عاصفة" من الحجارة. و من جهة أخرى، نحن نعرف أنه في أوربا و الدول المتقدمة يستطيع الفرد أن يقتني بمتوسط دخل الطبقة الأقل دخلا كمية هائلة من البيض و الطماطم. لذلك فهم لا يبخلون أحيانا بحبات من هذا الخير في وجوه مسؤوليهم ممن -في وجهة نظرهم- لا يستحقون الورود. و حسب موقع "أميزين مابس"، المتخصص في الخرائط الإحصائية، يعاني أكثر من ثلاثة ملايين مغربي من سوء التغذية ونقص في توفرها، و يعيش أكثر من سبعة ملايين منا بأقل من عشرين درهما في اليوم، و نسبة أخرى هامة تعيش على دخل قريب من مستوى الفقر أو في هشاشة مزمنة (Précarité chronique). وبالكاد إذن يستطيع المواطن البسيط أن يجلب بضع حبات من البيض و بضع كيلوغرامات من الطماطم. هنا وكأن لسان الحال نطق ليقول: "أيها المرجومون إذا فضلتم رجما بالبيض فما عليكم إلا توزيع كميات كبيرة منه على الناس، إذا أحبوكم أكلوه و إذا كرهوكم أكلتموه، و إلا فما عليكم إلا بتنقية المدن من أكوام الحجارة قبل تنقية المشهد السياسي و الحزبي من كل أشكال الإرتزاق...". هل تستفيد الطبقة سياسية من هذا الدرس؟ ما الذي يجعل الطبقة السياسية المغربية تغرد في واد و عموم المواطنين في واد آخر؟ السبب يكمن في كون غالب هذه الطبقة لا تمثل منخرطي أحزابها فكيف لها أن تمثل عموم المواطنين و تعكس آلامهم و آمالهم. و حتى المجتمع المدني قد تجيد الكثير منه فعالياته مصطنعة و ضعيفة و مسترزقة، أي ما يمكن أن نسميه بالمجتمع المدني الإداري. الكثير من الكيانات و الكائنات السياسية لم تنجح في تكريس الديمقراطية الداخلية فكيف لها أن تفلح في تحقيق دولة الحق و القانون، دولة لا مسؤولية فيها بدون محاسبة. و لأن العنف يمارس بين أقطاب داخل هذه الهيئات، فلكي تحصن نفسها منه فما عليها إلا بالديمقراطية الداخلية أولا و أخيرا. و يومئذ ستجد الطبقة السياسية المغربية نفسها تتكلم لغة غير لغة الخشب، و سيفهمها عموم المواطنين، و ستتلاشى وديان الحجارة الفاصلة بينها و بينهم. من وجهة نظري، أي إداري أو سياسي ليس بمنأى عن مثل هذه الحوادث، و هي في غالبها ليست حوادث معزولة كما يدعي البعض. أما ما تعلق منها باستهداف الوزراء ففيه رسالة إلى من يهمه الأمر، أي إلى السيد عبد الإله بن كيران، رسالة واضحة يقول له فيها المواطن المحروم"يا رئيس الحكومة أياك أن تداوني بالتي كانت هي الداء". لتكون هذه الحوادث عنفا مضاد لعنف الدولة، و رد فعل مباشر على تماطلها عن إحقاق الحقوق الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية للمواطنين. كما قد تكون الحكومة ضحية لسخط الشباب على النخب المحلية، سخط واضح في الأقاليم الجنوبية و في غيرها. المهم أن في هذه الحوادث عبرة، و الضربة التي لا تقتلك تقويك، و بتعبير آخر "لي دازت على الراس تنفع". ما أكثر الإنتفاضات حين تعدها؟ ما أكثر الإنتفاضات حين تعدها، و لكن تزامنها قليل. لقد حدثت إنتفاضات كثيرة في المغرب؛ في صفرو و تازة و إفني و مراكش و خريبكة و طنجة و طاطا و تازة... إلخ. و لكن أخطرالإحتجاجات كانت بالعيون في ماسمي بمخيم كديم إزيك و كانت مطالب المواطنين في بادئ الأمر إجتماعية صرفة، قبل أن يعكر صفوها تطاولا سياسيا و أمنا على مغربية الصحراء. تطاولا وجد المجال سهلا للإختراق خصوصا بسبب الصراعات الحزبية التي تشهدها الصحراء و عدم التزام الإدارة الحياد الإيجابي الواجب بين أقطاب النخبة السياسية. المشكل إذن يكمن في تعامل الدولة مع هذه الأحداث. لنتصور طبيبا وصف لمريضه دواءا ليخفض به درجة حرارة جسمه بدل أن يصف له دواءا يعالج مرضه من أصله. هكذا حال الدولة في غالب الحال، فرد فعلها تجاه الإنتفاضات يكون دائما تعاملا أمنيا و في أحسن الأحوال تنتهج سياسة ما سريعا ما نكتشف أنها ترقيعية. على الفاعلين السياسيين و الإداريين أن يتعاملوا مع الإنتفاضات باعتبارها أعراضا لأسقام خفية و علل بنيوية((structurelle. و بالمناسبة يمكننا أن ندعوا الفاعلين أن يحمدوا الله، في جملة ما يستحق الحمد، على ثلاثة أمور. أولا أن يحمدوا الله على هذه الإنتفاضات/الأعراض لأنها تساعدهم على معرفة مدى نجاعة السياسات المتبعة، ثانيا أن يحمدوا الله على عدم تزامن هذه الإنتفاضات، ثالثا أن يحمدوا الله على كون هذه الإنتفاضات لا تستغلها دائما جهات معادية للمغرب من أجل المس بالوحدة الترابية و الأمن العام. العنف بالعنف و البادئ أظلم؟ لا يمكن أن ننكر إمكانية أن تكون بعض حوادث تعنيف المسؤولين حالات معزولة أو قليلة أو نادرة. وهناك بعض التعنيف ناتج عن الصراع الضيق بين الأحزاب. و الأخطر منه هو ذاك الصراع الحزبي الداخلي الذي بات ينخر بعض الأحزاب المغربية و يجعلها غير قادرة على تأطير مناضليها و بالأحرى أن تأطر مجتمعا أو تسير دولة، أحزاب تشهد انحرافات مذهبية و تطاحنات محلية و تقاطبات داخلية أو انقلابات و لما لا؟ ما سمي بالربيع أو الخريف العربي تميز في نسخته المغربية بضعف الحلقة الحزبية/النقابية من بين باقي المكونات، مكون شكل نقطة ضعف الإستثناء المغربي بدون منازع. ليس المشكل هنا في تشرذم المشهد الحزبي و لكن الإلتزام المذهبي. فالأحزاب أضحت متشابهة، واليمين و اليسار أصبحا وجهان لعملة واحدة إسمها "المخزن". و في أقاليمنا الجنوبية و عندما يتحالف الفاعل المخزني(الإدارة العميقة) مع الفاعل الأهلي(المجتمع القبلي)، يخفت صوت المكونات الحزبية و ينحصر دور المجتمع المدني إلا من التأثيث ثم تندحر الإيديولوجية و تتوارى عن الأنظار لأنها تأبى الطمس التشويه. يظهر لنا هنا و كأن الفاعل الإداري خصما للمكون الحزبي و المجتمع القبلي عدوا للمجتمع المدني. و لا أدل على ذلك المجلس الملكي الإستشاري للشؤون الصحراوية؛ هيئة وطنية بمحاصصة قبلية تذكرنا بمجالس الصحوات بمحافظة الأنبار بالعراق الجريح. موضوع الصحراء من الآن فصاعدا بات من مسؤولية كل المكونات، و على الكل أن يتحمل مسؤوليته. ما أشبه البارحة باليوم! مواقف الناس متباينة بين من يرى أن تعنيف المسؤولين شيء وارد و طبيعي خصوصا أنه يحدث أحيانا في الدول الديموقراطية، و بين من يتحصر على زمن إدريس البصري، وكأن في تلك الفترة لم يتعرض مسؤولون كبار للتعنف. مهما كانت تلك الفئة أو المجموعة التي ينتمون إليها، فمعنفوا المسؤولين يستحقون المتابعة القضائية، خصوصا أنهم قد يكونون مرتزقة تصفى بهم حسابات ضيقة. لكن الطامة الكبرى أننا نتابع هؤلاء الصغار و ننسى ما يمكن أن نسميه "الماكرو-ارتزاق"، إنه إرتزاق فاحش دلائل وجوده كثيرة و منها حالات فساد تزكم الأنوف، بعضها يرد في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، و ما خفي أعظم. إرتزاق ستعجز-لا قدر الله- النسخة القادمة من هيئة الإنصاف و المصالحة إذا ما قدر لها الخروج إلى الوجود، عن تصفية تركتها و جبر ضررها. بعض المتتبعين يرون أن رجم بعض الوزراء غير بعيد عن محاولة تنبيه هده الحكومة من طرف لوبيات اقتصادية للكف عن نبش مواقع الفساد، خصوصا بسبب أن الحزب المستهدف في جميع التدخلات الحجرية أو اليدوية هو الحزب الذي تحالف بشكل جدي مع حزب رئيس الحكومة. إضافة إلى ذلك -و من الناحية المبدئية- لا يجوز إنكار التطور الإيجابي و مسلسل الإصلاحات الذي تشهده المملكة. و لو أنكرنا هذا لكنا من الخوارج العدميين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب. و لكن –للأسف الشديد- كل هذه الإنجازات لم تستوعب ما أتاحه دستور 2011، فكيف لها أن ترقى إلى انتظارات الشعب؟ ما أسهل الخندقة! البعض منا لما يرى حجارة متطايرة في سماء أقاليمنا الجنوبية يردها بسهولة إلى أيادي انفصالية. و في هذا تعميما و تمويها. إذن فهل الصخور التي طارت في سماء مدنا كطنجة و خريبكة و مراكش و فاس... هي أيضا بلطجة إنفصاليين؟ هذه الأحكام فيها تعميما؛ و نتيجة مثل هذا التعميم هي أنه في وسط ينقص فيه الوعي و التأطير السياسيين يتخندق الناس بتلقائية بمجرد خندقتهم أو اتهامهم بكونهم انفصاليين. هذه الأحكام أيضا فيها تمويها لأنها تغض الطرف عن وضعية اقتصادية و اجتماعية قاتمة تميز جهات الصحراء دون غيرها. وضعية تحدث عنها بإسهاب تقرير المجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي في سياق "مشروع النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية". وهنا سنرجع إلى مسرح الحادثة؛ مدينة آسا حيث النقطة التي أفاضت كأس تعنيف المسؤولين الحكوميين. قد تكون الحكومة ضحية رد فعل طبيعي على سياسة لا شعبية ترفع شعار إنقاذ البلد في ظل الأزمات، أو قد تكون ضحية نقمة المواطنين على منتخبين بعضهم منتسبين إلى أحزاب مشكلة لذات الائتلاف الحكومي. و لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال التشكيك في وطنية الساكنة، رغم السخط الذي أرخى سدوله على أجواء المنطقة، منذ مدة وجيزة، إثر تزامن وفاة شاب(ر.ش.) مع تدخل أمنى لفض احتجاج على ملكية أراضي جموع. فساكنة آسا و الزاك و عوينة تركز والبيرات... و غيرها من تلك الربوع الغالية النائية، ضحت من أجل استقلال المملكة و لازالت تضحي من أجل وحدتها الترابية. ختاما، ما الحل؟ يرى البعض في هذه الحوادث تخلف المحتجين و عودتهم إلى العصر الحجري... خصوصا بإعتبارنا نعيش عصر الكلمة و الصورة والعولمة... و في هذا حيفا ظاهرا، لأنه من العيب أن نغض الطرف عن الريع السياسي الذي أفسد الطبقة السياسية و جعلها أهلا لكل شيء إلا لثقة الطبقات المسحوقة. الإنحطاط إذن يعيشه الجميع. والحلول الأمنية تجاوزها التاريخ و تجاوزتها الجغرافيا. لذلك إذا أراد المرجومون أن يستبدلوا الحجارة بالبيض فما عليهم إلا أن يتبعوا سياسات ترفع من دخل المجتمع لتحقق التنمية ثم الكرامة، سياسة من أهم مكوناتها الشغل الكريم، وهنا عمق مشكلة!!
المرجومون لديهم مشكلة خطيرة تكمن في كونهم لا يفهمون معنى الشغل لأنهم عبيد لأهوائهم و غرائزهم. و بكل بساطة فالشغل اصطلاحا هو الكرامة و لغة هو أن تشغل الشباب عن مسك ركام الحجارة بمسك زمام الكرامة. و لكي يستوعب المسؤولون مفهوم الشغل أو التشغيل قدمناه هنا بشكل جلي مبسط. و لكن هيهات هيهات أن يفهمه عبيد الحجارة، نقصد شلة المرجومين من جملة المسؤولين. خصوصا و تراثنا المغربي الزاخر بكنوز العبر خلد حكمة للأجداد مفادها: الحر بالإشارة و العبد بالحجارة.