ما يجري هذه الأيام من اندلاع حركة تضامن شعبية واسعة مع حراك الريف، وانطلاق شرارة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية، في عدد من المناطق المهمشة والمقصية، يؤشر إلى أن النموذج المغربي في الإصلاحات، الذي انطلق مع حراك 20 فبراير، لم يعد يمتلك القدرة على تعبئة كل شرائح المجتمع، وأن أعطابا ما قد أصابت مفاصله، وأحيت من جديد الحركات الاحتجاجية، وأضفت عليها مواصفات أكثر حدة من حراك 20 فبراير. بعض السمات لم تختلف في حراك اليوم عن حراك الأمس، ومنها تجاوز النخب السياسية والمدنية والهيئات المنتخبة، والسعي إلى المخاطبة المباشرة لمركز القرار السياسي، ومنها عدم انفصال المطلب الاجتماعي عن المطلب السياسي، وتصدر الحرية والكرامة عناوين الحراك. لكن، اللافت جدا في حراك اليوم، أنه اخترق المجال الذي ظل يسمى في أدبيات علم السياسة المقارب للنسق السياسي المغربي، بالمجال المحفوظ للسلطة (الأرياف)، حيث تضاءلت بشكل ملحوظ الفروق في مستوى الوعي بالحراك بين النخب الحضرية ونخب الأرياف، واستمرت ظاهرة انفلات «الاجتماعي» من دائرة تحكم السلطة، وأخذت في بعض الأحيان صور التمرد على الشرعية. إلى جانب هذه الملاحظات التي تخص الحراك، تم تسجيل ثلاث سمات أساسية في تعاطي السلطة السياسة معه: العجز عن الاختراق الاستباقي، كما حدث في السابق (خاصة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف وسائل الإعلام المؤثرة). واضطراب الموقف في تحديد نوع الجواب عن هذا الحراك: الأمني أم السياسي. وأزمة الشرعية التي تعانيها الوسائط السياسية والمدنية، التي يمكن الاعتماد عليها للتعاطي السياسي مع الحراك. هذه الملاحظات المسجلة، تشير إلى تجدد أزمة النسق السياسي المغربي ودخولها منعطفا حادا. ذلك أن هذا الحراك جاء بعد استنفاد أغراض صيغة في الإصلاح تم تجريبها في الخمس سنوات الأخيرة، وتحمل حزب العدالة والتنمية مسؤولية تجسير الفجوة الديمقراطية، ووضع ثقله مصداقيته وشرعيته الشعبية كضمانة لإنجاح هذا المسار. هذه الصيغة التي كانت تمثل – بالمعنى السياسي والتاريخي – التعاقد السياسي بين الدولة والقوة الديمقراطية التي حملت تطلعات جزء مهم من الشرائح الاجتماعية، ظهرت معالم الرغبة في التضحية بها في انتخابات 2015 ثم 2016، رغم الممانعة التي عبر عنها المجتمع، حينما قاوم تدخل السلطة السياسية في العملية الانتخابية، بهدف منع سيناريو تصدر حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى، ثم جاءت لحظة البلوكاج الحكومي، ولحظة إعفاء بنكيران وتشكيل حكومة سعد الدين العثماني، لتضع التعاقد السياسي التاريخي على المحك. أي، أن حراك اليوم – بعد حالة الصمت التي دخل فيها حزب العدالة والتنمية – جاء في لحظة سياسية لا توجد فيها قوى سياسية قادرة على تجسير الفجوة، كما أتى في سياق لا توجد فيه وسائط سياسية ومدنية قادرة على أن تنوب عن السلطة السياسية، في التجاوب مع قضايا الحراك، فوزارة الداخلية منذ قرابة 7 أشهر، وهي تدير وحدها ملف الحراك في الريف، والحكومة – طيلة هذه المدةء اكتفت بتقديم الغطاء السياسي لمقاربة الداخلية، وحتى الاضطراب في الموقف الذي انعكس على سلوكها السياسي اتجاه الحراك، كان في حقيقته تعبيرا عن اضطراب القرار المركزي نفسه. هل يعني ذلك أن إمكانية التعاطي مع الحراك أصبحت جد محدودة؟ وأن صيغة احتوائه أصبحت تشترط فعلا إصلاحيا أكبر مما شكله خطاب 9 مارس؟ حسب المحددات السابقة، فالتعاطي مع الحراك الاجتماعي الذي اندلع في بعض المدن، أو الذي يتوقع اندلاعه في مدن أخرى، يتطلب مقاربة سياسية تطرح سؤال التوازن الاجتماعي، وسؤال الثروة بين الامتيازات التي يحظى بها أصحاب «الفوق»، والحرمان والإقصاء الذي يقبع فيه أصحاب «التحت» بحسب تعبير رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، وهو بالمناسبة سؤال مركزي لا يمكن الجواب عنه بعيدا عن إصلاح سياسي شامل، تصل آفاقه إلى ما هو أبعد مما تحقق في صيغة بنكيران، وتؤطر بإصلاح دستوري جديد بأفق ديمقراطي أكثر جرأة. لكن، عدم حصول هذا الإصلاح الشامل لا يعني أن الإمكانية للتعاطي مع الحراك في ظل الشروط الحالية صارت معدومة، فلا تزال هناك مساحات للمناورة السياسية، التي يمكن من خلالها إعادة تجديد الصيغة السابقة، وإعادة الاعتبار للتعاقد السياسي التاريخي، الذي توجه خطاب 9 مارس، وإجراأت منهجية في تدبير مشكلة الثروة وتوزيع ثمرات النمو الاقتصادي في المغرب على الفئات المتضررة. كان الجميع ينتظر من سياسات الأوراش الكبرى، وكذا مخرجات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أن تضطلع بجزء من حل هذه المعضلة، واضطرت شرائح عديدة وثقت بخطاب رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران للتحمل، حتى تخرج الدولة من أزمتها الاقتصادية والمالية، وتؤهل نسيجها الاقتصادي لتكون في مستوى معالجة معضلة البطالة، لكن لا حصيلة هذه الأوراش ولا مخرجات هذه المبادرة، ولا عافية الاقتصاد الوطني أحدث النقلة الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتلافي مسببات الحراج الاحتجاجي. اليوم، ورغم بروز أطروحة الامتداد في العمق الإفريقي والعائدات الضخمة التي يمكن أن يجنيها المغرب من تحوله إلى مستثمر مركزي في هذه القارة، وإمكان انعكاس ذلك على نسيجه الاقتصادي والاجتماعي، فالثقة بهذه الحصيلة لا تزال متدنية، فالسوابق الماضية تثبت أن عائدات النمو لا يستفيد منها إلا أصحاب الحظوة، ولذلك فالإمكانية التي يمكن الاستثمار فيها للتعاطي مع الحراك، وتكريس النموذج المغربي في المنطقة العربية، هو أن يتم، إلى جانب تجديد التعاقد السياسي السابق، وكف السلطة السياسة عن التدخل في المشهد السياسي، والمس باستقلالية القرار الحزبي، هو أن يتم التفكير بعمق في إنتاج تعاقد آخر عمقه اقتصادي اجتماعي، يتم من خلاله تدبير التوافق حول سؤال الثروة، بالشكل الذي يحفظ التوازن المجتمعي في هذه الظرفية السياسية الدقيقة، ويوفر الآلية لاستفادة الشرائح الضعيفة والمتوسطة من عائدات النمو.