تحلّ الذكرى الخامسة والسبعون لإنشاء الأممالمتحدة بعد أيام، والتي تصادف تاريخ 24 أكتوبر، الذي يقترن بدخول الميثاق الأممي حيز النفاذ منذ عام 1945. وتمثل هذه المناسبة محطة لتقييم أدام الهيئة الدولية، ولرصد إنجازاتها وإكراهاتها، ومناسبة للوقوف أيضا على التحديات المختلفة التي باتت تواجهها في عالم اليوم، وطرح السبل الكفيلة بتطوير أدائها، انسجاما مع المتغيرات الدولية الراهنة، والتحديات الكبرى التي تواجه دول العالم قاطبة. جعلت المنظّمة من تحقيق السلم والأمن الدوليين، أحد أهمّ أولوياتها إلى جانب تعزيز العلاقات الودية والتعاون بين الدول، وحماية حقوق الإنسان.. وسعت إلى إرساء السلام والأمن من خلال مدخلين أساسيين، الأول وقائي، يقوم على وضع مجموعة من المبادئ لضبط العلاقات الدولية في إطار من التعاون، ومواجهة مجموعة من التحديات والإشكالات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤرق عددا من دول الجنوب..، والثاني، علاجي، يرتبط بالتدخل بشكل سلمي أو قهري في إطار الحدّ من الحروب والنزاعات المختلفة التي قد تنشب بين الدول.. أثّرت ظروف الحرب الباردة بشكل واضح على مهام المنظّمة، وجمدّت أداء مجلس الأمن باعتباره المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين، بفعل الإقبال المكثف على استخدام حق الاعتراض (الفيتو)، فيما ظلت الكثير من الأزمات والنزاعات الدولية تدار خارج نطاق الهيئة، في سياق توافقات وترتيبات ثنائية بين قطبي الصراع (الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي سابقا)، ما جعل العالم يحبس أنفاسه في الكثير من الأوقات العصيبة التي كاد فيها هذا الصراع أن يتحوّل إلى مواجهة عسكرية مباشرة، وهو ما عكسته الحرب الكورية، وأزمة برلين، وأزمة الصواريخ الكوبية.. ساد نوع من التفاؤل الحذر في بداية التّسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، والتّرويج لنظام دولي جديد تلعب فيه الأممالمتحدة دورا مركزيا، حيث بدأت هذه الأخيرة في التركيز على عدد من المخاطر الدولية العابرة للحدود، ضمن رؤية منفتحة ومتطورة للسلم والأمن، فتم الإشراف على عقد عدد من المؤتمرات بصدد مكافحة الإرهاب وتلوث البيئة وقضايا الفقر والسكان، والمرأة وحقوق الإنسان.. وخلال هذه المرحلة من تطور العلاقات الدولية، بدا وكأن مجلس الأمن قد تحرّر من قيود موضوعية شلّت أداءه على امتداد أكثر من أربعة عقود ماضية، فصار يصدر قرارات مكثّفة وغير مسبوقة، تتعلق بحماية حقوق الإنسان، ودعم الإصلاحات الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب.. لم تكد تمض سوى بضع سنوات على هذه الدينامية غير المعهودة في أداء المنظمة، حتى استفاق الكثير من المتفائلين على حقيقة وضع دولي مأزوم، لم تتحمّل فيه المنظمة مسؤولياتها، وهو ما تجسّده الكثير من بؤر التوتر المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، والتي تحتل فيها "المنطقة العربية" موقعا متقدّما، ويندرج في هذا السياق تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.. في سوريا واليمن وليبيا.. أما فيما يتعلّق بالمخاطر والتهديدات العابرة للحدود، فالبيئة ما زالت تتعرض للتدمير رغم التحذيرات التي ما فتئ العلماء والمنظمات الدولية ذات الصلة، يطلقونها كل حين حول الموضوع، وما زال الإرهاب يتمدّد، ويشكّل أحد التهديدات الحقيقية التي تواجه استقرار وأمن الدول، في غياب تعريف عالمي للظاهرة، وعدم بلورة استراتيجية دولية شمولية ومتكاملة تقاربها في إطار من التعاون التنسيق. وتؤكّد الإحصائيات الواردة بشأن الهجرة السّرية أن هذه الأخيرة في تزايد مستمر، بسبب التّباين التّنموي الصارخ، الحاصل بين دول الجنوب من جهة ودول الشمال من جهة أخرى، وانتشار عدد من الأزمات والصراعات في مناطق عدة، تغذّي الظاهرة التي ما زال التعاطي معها يغلّب الهواجس الأمنية على حساب المعاناة الإنسانية، وهو ما يؤكده غرق عدد من الضحايا في عرض مياه المتوسط.. ورغم التقارير والقرارات المتعدّدة الصادرة على الأممالمتحدة بكلّ أجهزتها الرئيسية ووكالاتها المتخصصة، والتي تؤكد فيها استيعابها للتحولات التي طرأت على مفهوم السلم والأمن الدوليين، فإن محكّ الواقع يبرز أن الهيئة لم تتمكن بعد بلورة آليات ناجعة قادرة على مواجهة هذه التحديات بقدر من النجاعة والاستدامة على المستويين الوقائي والعلاجي. وتحلّ الذكرى الخامسة والسبعون في ظرفية صحّية عصيبة يمرّ منها العالم، بسبب تفشّي فيروس "كوفيد 19"، وهي المحطّة التي بدا فيها قصور واضح على مستوى أداء الهيئة، بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية متأخّرة أن الأمر يتعلق بجائحة، ما أربك كل الجهود الدولية لمحاصرة الوباء، وكلّف الدول خسائر اقتصادية واجتماعية..، وفتح العالم على مستقبل قاتم، بتداعيات يبدو أنه لن يتعافى منها قريبا. يشار إلى أن الأممالمتحدة تعرضت قبل بضع سنوات إلى انتقادات شديدة من قبل عدد من المنظمات الدولية غير الحكومية، بسبب عدم التعاطي بشكل فاعل ومسؤول مع تفشي فيروس "إيبولا"، الذي أودى بحياة أكثر من 2200 شخص إلى حدود الساعة، في عدد من البلدان الإفريقية. إن إعادة المصداقية إلى المنظمة بعد عدد من الانتكاسات، والفشل على مستوى إرساء أمن إنساني شامل ومستدام، يتطلّب بذل الكثير من الجهد على طريق بناء الثقة في أدائها، وتطوير جهودها، انسجاما مع حجم التهديدات الخطيرة التي باتت تواجه الإنسانية جمعاء، كما يقتضي الأمر منها تعزيز التعاون والتضامن الدولي في هذا الخصوص. وهو الأمر الذي يظلّ متوقف في جزء كبير منه على إصلاح المنظمة، وانتشالها من التبعية للدول الكبرى، عبر تقوية أجهزتها وعقلنة قراراتها، وإحداث آليات، واستراتيجيات ناجعة لمواجهة المخاطر والأزمات العابرة للحدود، بقدر من الجاهزية والمسؤولية. *مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات