وضعت أزمة "كورونا" شركات الطّيران العالمية في قلب أزمة اقتصادية "غير مسبوقة"، بالنّظر إلى حالة التوقف التي شهدها هذا القطاع الحيويّ مع نهج الدول سياسة "الإغلاق" في وجه الرّحلات الخارجية لتفادي انتشار الوباء على أراضيها. وعلى الرّغم من عودة الاقتصاد العالمي بشكل تدريجي بعد رفع إجراءات المنع، كما تؤكّد ورقة بحثية منشورة في الموقع الإلكتروني لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إلا أن "هناك العديد من الأنشطة التي مازالت لم تتمكن من العودة، سواء بشكل كلي أو حتى بشكل جزئي يساعدها على تغطية تكاليفها". وقالت الورقة البحثية إن قطاع الطيران يعدّ أحد هذه القطاعات التي مازالت تعاني توقفاً شبه كامل، ومازال أمامها الكثير من الوقت للعودة إلى مستويات نشاطها الطبيعي، الذي كانت عليه قبل الأزمة، وربما ستبقى بعض الآثار المستدامة للأزمة عليها، وخاصة في ظل التغيرات التي يمكن أن تطرأ على عادات السفر لدى البشر حول العالم. مسار غامض وأضافت الورقة البحثية التي تعالج مستقبل شركات الطيران بعد الخروج من أزمة "كورونا" أن "هذا الأمر من شأنه أن يغير من هيكل قطاع الطيران العالمي، وأن يدفع بشركات طيران نحو الإفلاس والخروج من السوق. كما أنه قد يدفع الشركات الكبرى القادرة على الاستمرار إلى تقليص حجم أساطيلها، وتغيير خططها التوسعية المستقبلية". وفي هذا الإطار، توقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا) أن تؤدي أزمة فيروس كورونا إلى خسائر قياسية لقطاع الطيران في عام 2020، بما يقدر بنحو 84 مليار دولار. ووصف الاتحاد هذا العام بأنه "أسوأ عام في تاريخ الطيران". وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التقديرات التي يشير إليها الاتحاد الدولي للطيران هي تقديرات أولية، وتعتمد كذلك على افتراض اتجاه القطاع نحو التعافي التدريجي، وأنه لن يتعرض لانتكاسة شديدة في الأداء خلال الفترة المقبلة. لذلك، فإن توقع أداء قطاع الطيران العالمي للعام المقبل، والعام الذي يليه، يظل عملية محفوفة بالكثير من المخاطر والصعوبات. ورغم أن الاتحاد الدولي للطيران المدني يتوقع أن ترتفع حركة السفر الجوي بنسبة 55% في عام 2021، مقارنة بعام 2020، إلا أن ذلك المستوى من التشغيل قد يكون من الصعب التوصل إليه، كما أنه وبافتراض تحققه، فإنه لن يكفي لاستعادة القطاع نشاطه بمستويات ما قبل الأزمة، بل إنه سيكون أقل بنسبة تقدر بنحو 29% عن مستواه في عام 2019. وبشكل عام، وفي ظل المعطيات الراهنة، فإن إجمالي خسائر قطاع الطيران العالمي بسبب أزمة كورونا، من المتوقع أن يصل إلى 100 مليار دولار على الأقل. ومن أجل تعويض هذه الخسائر، فقد عملت العديد من شركات الطيران العالمية على تخفيض أسعار خدماتها للجمهور، لكن التي فعلت ذلك هي الشركات الكبيرة التي تمتلك هوامش كبيرة للحركة، ولديها قدرات مالية تساعدها على تحمل ضغوط الأزمة، إلى جانب اتخاذ إجراءات تعويضية، كتخفيض عدد الموظفين أو خفض الرواتب، وتخفيض أحجام أساطيل الطائرات، وإلغاء خطط التوسع، بالإضافة غلى تحفيض أسعار خدماتها. ضرورة التحرك أبرزت الورقة البحثية المنشورة في الموقع الإلكتروني لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن "ليست كل شركات الطيران قادرة على فعل ذلك، لا سيما الشركات الصغيرة ذات الانتشار العالمي المحدود، التي ليس لديها الملاءة المالية الكبيرة والكافية للمناورة". وفي هذا السياق، فقد اضطرت شركات طيران بالفعل إلى إعلان الإفلاس بسبب ذلك، منها شركة "فلاي بي" البريطانية، وشركة ي"وروونجز"، و"فيرجن أستراليا"، وشركة الطيران الوطنية في جنوب أفريقيا، وشركة "أفيانكا" في أمريكاالجنوبية، وغيرها. كما أن هناك شركات عدة تواجه المصير ذاته، وفي حال استمرت الأزمة أو تفاقمت أكثر مما هي عليه الآن، فإن الوضع مرشح للمزيد من التأزم. وقد طالبت 3 أكبر تحالفات شركات طيران عالمية، وهي "وان وورلد" و"سكاي تيم" و"ستار ألاينس"، تمثل أكثر من 58 شركة طيران في العالم، الحكومات بتقييم جميع الوسائل الممكنة لمساعدة الصناعة، وهو ما حدا بالعديد من الحكومات إلى إقرار تقديم دعم لشركات الطيران لديها بأشكال مختلفة. وكمثال على ذلك، فقد قدمت الحكومة الفرنسية قرضاً بقيمة 7 مليارات يورو لمنع خطر إفلاس شركة "إير فرانس". كما أعلنت شركة طيران هونج كونج "كاثاي باسيفيك" عن خطة إنقاذ حكومية بقيمة 5 مليارات دولار. وفي السياق نفسه، سعت بعض شركات الطيران الكبيرة للحصول على قروض، أو زيادة الرساميل، أو طلب صفقات إنقاذ في الأسابيع الماضية، ومن بينها خطوط سنغافورة، والخطوط الكورية، والشركات الثلاث الأمريكية الكبرى، و"لوفتهانزا". وفي هذا الصدد، شددت الورقة البحثية على أن "صناعة النقل الجوي العالمية تمر بمأزق كبير الآن، لكن المشكلة الأكبر هي أن هذا المأزق لن تقتصر آثاره على تلك الصناعة فقط، بل إنه سوف ينعكس على صناعات أخرى مصاحبة له أو معتمدة على شركات النقل الجوي، مثل محطات تكرير وقود الطائرات والسياحة وأعمال المطارات والأمن والوظائف الإدارية. ولذلك، فإن هناك حاجة ماسة لتجنب هذا الأمر من خلال إيجاد آليات مساعدة للقطاع على التعافي أو على الأقل المحافظة على الاستقرار في الأداء، بما يجنب الاقتصاد العالمي المزيد من الصعاب هنا وهناك". ويمكن القول إن هناك ضرورة وحاجة ملحة لقيام الحكومات بدعم شركات الطيران. ورغم أن هناك الكثير من الانتقادات التي توجه لذلك النوع من الدعم، باعتباره "يشوه السوق"، وفق ما يراه المنتقدون، لكن بعد أن أصبحت شركات الطيران في حاجة ماسة للدعم والتدخل من أجل تجنيب القطاع بالكامل خطر الانهيار، ومن ثم تفاقم تبعات ذلك على باقي القطاعات الاقتصادية، فإنه يمكن اتباع آلية الدعم ضمن إطار عالمي، وتحرك منسق ومتزامن، بما يقلص سلبيات التدخل الحكومي على اقتصاديات القطاع، ويساعد في الوقت ذاته على تمكين القطاع من الاستمرار في أداء دوره المباشر، ومساعدة باقي القطاعات المرتبطة به على الاستمرار أيضاً.