يختلف مفكرون مغاربة في رؤاهم الخاصة لقضية الحرية ومفهومها ومجالات تحققها، فمنهم من تناولها من منظور تاريخي واقعي مثل المفكر الدكتور عبد الله العروي (الصورة)، ومفكرون نسبوا نموها إلى بيئة تتسم بالليبرالية القوية وبآليات الديمقراطية مثل الدكتور علي أومليل، وآخرون ربطوا مفهوم الحرية بمسألة التعبد لله وفق معين الصوفية وفكرها مثل الفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمان. وجعل بعض المفكرين الحرية قضية اجتماعية وحضارية سامية مثل ما يعبر عن ذلك الدكتور المهدي المنجرة في بعض مؤلفاته ومحاضراته قبل أن يقعده المرض في الآونة الأخيرة، في حين أن البعض الآخر يربط بين الحرية وقضية الأخلاق والالتزام الديني مثل المفكر الإسلامي المقرئ الإدريسي أبو زيد. وهذه الاختلافات في طروحات هؤلاء المفكرين، والتي جاءت في كتبهم ومقالاتهم، تهم تعريف مفهوم الحرية وتقييمها وتناول سياقاتها وطرق تفعيلها وتطبيقها والعراقيل التي تنقص من فعاليتها. لكنها بالرغم من ذلك، كل هذه الرؤى المتنوعة تلتقي حول حيوية الحرية كمفهوم وأهميتها كتطبيق وتجربة، وحول قيمتها العالية وتبوئها لصدارة انشغالات هؤلاء المفكرين المغاربة.. الحرية حاجة داخلية وشكلت قضية الحرية إحدى أبرز انشغالات المفكر المغربي عبد الله العروي حتى أنه خصص لها حيزا كبيرا ضمنه أحد كتبه التي نشرها قبل سنوات بعنوان: مفهوم الحرية، وفيه انطلق للتعاطي مع مفهوم الحرية من منظور تاريخي وواقعي ينتصر للقطيعة مع التراث العربي والإسلامي، باعتبار أن التحليل التاريخي من خارج التراث مؤشر على وحدة قيم الحداثة لأنها تجسد القيم الإنسانية في أسمى تجلياتها. وبالنسبة للعروي، فإن "الفرد الاجتماعي يعيش الحرية إما كتحرر وانعتاق وإما كخضوع وعبودية، فتدور الحرية في إطار الظهور والضمور"، ويستدل على ذلك بمثال الشخص الذي إذا تعلم القراءة والكتابة ازدادت قدرته على التعامل مع الغير، وإذا مرض وعجز عن أداء ثمن الدواء نقصت حريته؛ وبالتالي يعيش كل واحد منا تجربته اليومية، وكل منا يعادل الحرية بمجموع الحقوق المخولة له ويفهم من التحرر انخفاض عدد الممنوعات وارتفاع عدد المباحات"، بحسب رؤية العروي التي بسطها في الصفحة التاسعة من كتابه مفهوم الحرية.. ويرى هذا المفكر المغربي أن الدعوة إلى الحرية أمر داخلي وليس شأنا ناتجا عن أي عامل خارجي، فهي حاجة داخلية متولدة في المجتمع العربي، وهي ضعيفة في هذا المجتمع لكونه لم يلج بعد مراحل الترقي التي كشفت عنها تجارب مجتمعات أخرى معاصرة. ويجد العروي أن مفهوم الحرية يتضمن تناقضا وجدلا، لكونها توجد حيثما غابت وتغيب حيثما وجدت، وبالتالي فنظرية الحرية وفق المفكر المغربي لا يمكن أن تنفي ذاتها لتقف موقف الليبرالية وتأخذ الحرية شعارا لها بديهيا، كما أنه ليس في مقدورها أن تضمن وجود الحرية في التاريخ والمجتمع والدولة. ونظرية الحرية عند عبد الله العروي تؤكد على أن "الحرية لكي تُحقق يجب أن تُعقل ولكي تعقل عليها أن تُطلق"، ولهذا فنظرية الحرية تعتبر هامة للغاية لكنها في نفس الوقت تافهة جدا، بحسب تعبير المفكر المغربي. ممارسة الحرية عند العروي وبالنسبة للعروي، فإن الحرية ضرورة حياتية لا تعبر عنها دوما كلمة حرية، حيث لا يوجد دائما تطابق بين المفهوم والكلمة في حد ذاتها، فهي أكثر من شعار ومفهوم، لكونها سلوك حياتي يجب ترسيخ الوعي بها والاشتغال على جعلها دائما في رأس القضايا الإنسانية فرديا وجماعيا، فالوعي بقضية الحرية يجسد منبع الحرية، وفق حديث العروي نفسه. ويفصل مؤلف كتابي "السنة والإصلاح" و "مفهوم الحرية" في مسألة ممارسة الحرية على أرض الواقع من خلال منهج تاريخي يحبذ العروي استخدام آلياته كثيرا في تحليلاته للمفاهيم المعرفية والظواهر الاجتماعية والسياسية الكبرى. وترتبط الحرية، بحسب العروي، بأربعة حالات تاريخية واقعية، يكون فيها الشعور بالحرية أكثر من غيرها، وهي القبيلة والبداوة والتقوى والصوفية، أما في غيرها فيتضاءل الإحساس بالحرية ويتعثر تجسيدها واقعا. أما القبيلة أو العشيرة، فهي بمثابة صمام الأمان للفرد الذي يعيش في كنفها، وتلعب دور الحارس الأمين له إزاء أوامر السلطة المركزية حيث إنه يجرؤ على رفضها أو الخضوع لها لأن القبيلة تمكنه من التحرر الذاتي لتلك السلطة الخارجية، بالرغم من أن هذا الفرد يخضع لأعراف متعامل بها داخل القبيلة ذاتها. وتعد البداوة رمزا جليا عند العروي للتمرد على قوانين المدينة والحضارة، وعدم الامتثال إلى القواعد التي تحد من انطلاقة الفعل الفردي وبالتالي من اندفاع الحرية وتمثلها، فتكون البادية فضاء يرمز للشعور بالحرية أكثر من الحاضرة. وفي كتابه مفهوم الحرية، يضيف العروي أن التقوى يعتبر أيضا أحد التجليات الرئيسية التي يشعر الفرد من خلالها بحرية أشد، باعتبار أن التقوى تُكسب الشخص حظوة اجتماعية معينة تجعله ذا سلطة رمزية عند الناس ولدى محيطه، ومن ثَم تكون التقوى طريقا يمهد للشعور بالحرية أكثر. أما مؤشر الصوفية فهو أكثر الرموز والمعاني دلالة على التوجه نحو الحرية في الإسلام، لكون الصوفي يرفض في العادة قوانين النفس وأهواءها وأوامر السلطة، ويحاول من خلال تصوفه التحليق لنيل الحرية التي ينشدها من وجهة نظره الخاصة. مرجعيات الحداثة عند أومليل وإذا كانت الحرية وفق تصور العروي تعتبر جزءا رئيسيا من مسألة الحداثة برمتها بالإضافة إلى الفردانية والعلمانية والديمقراطية، فإن المفكر المغربي علي أومليل يستنهض همة هذه الحداثة لتكون القاطرة التي تجر الحرية وتدعمها. وبالنسبة لأومليل، فإن مفهوم الحرية تراثيا ظل مقصورا على ثنائية: العبد والحر، والعبودية والحرية، ولم تتجاوز هذه التضادات كثيرا بحكم السياق التراثي الذي جاءت فيه، لكن تطورا نوعيا ما حصل بعد مرور زمن غير يسير، وذلك عندما أضحى كتاب ومفكرون عرب يتحدثون عن الاستبداد السياسي الذي يناهض الحرية السياسية ويجافي كل مبادرة حرة ويجهضها في المهد لأنه لا صوت يعلو على صوت المستبد سياسيا. لكن أومليل يلقي باللائمة من خلال استقراء مجموعة من مقالاته ومحاضراته على ما أسماه " الليبراليين الجدد" لكونهم اصطفوا مع ليبرالية وحرية الاقتصاد والمال، ولم يقفوا مع تحرر الأفكار وحرية الفكر إلى الحد الذي يتساوق و مفهوم الحرية شعارا وتطبيقا. ويعيب أومليل على الفكر الليبرالي الحداثي ضعفه وعدم نجاعته الشيء الذي أتاح للفكر المنغلق وغير الحر أن يتسيد ويجد له الطريق مفروشة بالورود للتأثير على الأفكار والعقول، خاصة في خضم نسبة أمية عالية داخل المجتمع العربي. ويطرح الدبلوماسي المغربي فكرة أن الحرية مطلب اجتماعي أساسي، ولن يتأتى الحصول عليه إلا بالانخراط الجدي في الدينامكية العالمية والتحولات المتسارعة التي تجري في العالم، الأمر الذي يستدعي تجاوبا وحضور بديهة عند الجميع خاصة لدى أصحاب القرار والمثقفين وغيرهم من فعاليات المجتمع. ويرى أومليل أن الخطاب العربي الحداثي حول الحرية غير متجانس مع واقع الحرية في الحياة اليومية للناس، وذلك مرده إلى ذلك الخلل الذي يعتري ثنائية الخطاب والممارسة، وهو ما يدفع بالمفكر المغربي إلى أن يعتبر أن الحرية لا يمكن أن تنمو في بيئة غير بيئتها. ويشرح أومليل بأن الحرية نبتة لا تصلح أن تنشأ في بيئة تتسم بالتخلف على مستوى الممارسة، لكونها ستموت حتما لكون عوامل النمو من شمس وماء وهواء غير كافية، وبالتالي فإن الحرية في العالم العربي تستوجب استحضار مرجعيات معينة للحداثة والديمقراطية قبل استخدام وتطبيق آلياتها. بوابة التصوف عند طه وتكاد منهجية فقيه الفلسفة الدكتور طه عبد الرحمان تعارض رؤية عبد الله العروي في ما يخص طريقة تحليلهما المعرفي للمفاهيم الكبرى من قبيل الحرية والحداثة والتراث...الخ، بمعنى أنه إذا كان العروي ينزع نحو القطيعة المنهجية مع التراث العربي الإسلامي ويقوم برصد وتحليل تلك المفاهيم خارج التراث بالتركيز على الحداثة كمفهوم شامل لكل المفاهيم الأخرى مثل الحرية والعقل وغيرهما، فإن طه عبد الرحمان يدعو إلى التجديد واستخدام ما يسميه روح الحداثة من داخل هذا التراث وإعادة نشره من جديد. وهكذا، فإن الدكتور طه عبد الرحمان لا يخفي توجهه ولا يمضغ كلماته كما يقال، بمعنى أنه صريح في مذهبه الفكري الذي يرى فيه أن الحرية سبيلها تحقق الأخلاق الصوفية من داخل منبعها التراثي الصافي وليس خارجه، لكن بطريقة جديدة تناسب الواقع الراهن. ويرى فيلسوف الأخلاق والمتأثر بالطريقة القادرية البوشيشية المعروفة بالمغرب أن الاتصاف بأخلاق المتصوف القح تجعل من الحرية مطلبا يسير المنال ومتجسدا على أرض الواقع، لكون الفعل الصوفي يرمي أول ما يرمي إليه إلى التعبد لله تعالى ورفض استعباد الخلق للإنسان. ويعرف طه عبد الرحمان الحُرَّ بأنه من "لا يملكه أي شيء ولا يملك هو من أمره شيئا"، فهو عبد لله تعالى حق عبوديته له ويسلم له أمره كلية، لكن بالمقابل فهو لا يترك فرصة لاستعباد خلق الله له، وبذلك يجد المرء نفسه حرا بشكل حقيقي، وهذا جوهر الاعتقاد الصوفي. ويتحدث الفيلسوف المغربي دائما في بعض محاضراته عن الحرية من خلال منهجه الاستدلالي الذي عُرف به، فيشدد على أن "الحرية هي أن يتعبدك الحق باختيارك وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك "، فالتحرر الكلي يكون من خلال تعبد الله لعباده والذي لا يعد استعبادا، بحسب طه. وهذا هو السبيل الوحيد الحقيقي لبلوغ الحرية وفق المفكر المغربي، الذي يرى بالمقابل أن الحرية في جميع الإيديولوجيات الوضعية الكبرى تعتريها نواقص عديدة تحيل الحرية إلى ظلم واستبداد؛ ومنها الليبرالية والجمهورية والديمقراطية ثم الاشتراكية. الحرية مطلب اجتماعي وحضاري أما عالم المستقبليات المفكر المغربي الدكتور المهدي المنجرة، شافاه الله، فيرى الحرية بشكل أكثر تبسيطا ووضوحا، ويعتبرها قيمة القيم الإنسانية، والتي أفرد لها مؤلفا خاصا بها قبل سنوات قليلة خلت. ويختلف المنجرة مع العروي في مسألة نسخ مراحل الحرية من مرجعيات أخرى خاصة وفق المنظور الليبرالي الغربي لتجسيد الحرية وتحويلها من النظرية إلى التجربة الواقعية، حيث يرى نسخ أو استنساخ الحرية أمرا غير ذي جوى، لأن لكل مجتمع خصوصيته ولكل حضارة خصوصيتها التي تميزها. وبالنسبة للمنجرة فإن المرجعية الغربية بخصوص الحرية تنهل من الهامش الفلسفي المسيحي أو اليهودي الذي يتضمن خلالا في الممارسة، بخلاف المرجعية الإسلامية التي منحت الحرية للفرد المسلم منذ مولده وخروجه للدنيا، لكن الحرية في العالم الإسلامي اليوم عرفت انحسارا لعدة أسباب أغلبها عوامل حضارية. ويشدد صاحب أطروحة الحروب الحضارية على أن الحرية مطلب اجتماعي وشخصي في آن واحد، لا يمكن أن تتأتى دون توفر عدة عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية مهيئة رئيسية.. ويعتبر المنجرة أن الحرية لا يمكن أن تنغرس في النفوس ولا الشعور بها كقيمة إنسانية ملموسة على أرض الواقع دون تحقق التنمية لكون الجوع يناقض الحرية ويهدم دعائمها هدما؛ وفي هذه النقطة تحديدا يلتقي المنجرة مع طرح علي أومليل الذي يقول إن الحرية لا تصلح أن تنشأ في بيئة تتسم بالتخلف. ولا تتحقق الحرية أيضا لدى الخبير في المستقبليات إلا بمحاربة الجهل والأمية التي تضرب أطنابها في المجتمع العربي والإسلامي بشكل خطير، حيث إن المعرفة نور يبدد خفافيش الظلم وكواسر الظلام، ويخلق هوامش معتبرة من الحرية الذاتية للفرد والجماعة. ولا يتفق المنجرة مع من يروج مقولة إن الحرية تحدها الأخلاق وتعرقل انطلاقتها، فهو يرى أن الأخلاق تعطي زخما إيجابيا ودافعا للحرية باعتبار أن المسلمين تحكمهم ضوابط ووحي إلهي عادل وحكيم، وبالتالي فالتزام تلك القوانين الفوقية ليست قيدا سلبيا بأية حال من الأحوال. للحرية قيود نبيلة والرأي نفسه يبديه المفكر الإسلامي المقرئ الإدريسي أبو زيد في محاضراته ومقالاته التي يدبجها أحيانا حول القضية ذاتها، فهو يسمي تلك القيود إن جاز هذا التعبير على الحرية بمثابة قيود خلاقة ونبيلة تضعها الأخلاق على مسار الحرية حتى لا تصبح هدامة ومدمرة وذات طابع فوضوي. ولأن هذه القيود يتخذها الله تعالى وهو من قررها وفصل فيها، فإن الحرية حينها تنسجم مع ضوابط الالتزام الديني بغية عدم التعدي على المصالح الحيوية الخمسة للإنسان، فيعيش هذا الأخير محفوظا بعناية الله تعالى وسعيدا ومُصان الحرية التي تكون في حدود معقولة ينظمها الشارع الحكيم. ويستدل أبو زيد بخصوص القيود الخلاقة للحرية بموضوع الإشارات المرورية في الشارع، فالضوء الأحمر لا يعني أن هناك تسلطا أو تقييدا لحرية الإنسان وإنما هي لتيسير المرور ولحفظ السائق من حادثة سير قاتلة محتملة من الذين يأتون في الاتجاه المقابل.. ويركز المقرئ على أهمية الإيمان بالوحي الإلهي وتشريع الله للعبد ضوابط حياته والتسليم بأن ما قرره الخالق هو في صالح الإنسان حتما، أما الاعتماد الكلي على العقل في التعاطي مع الحرية فتكون له عواقب وخيمة، لكون الإنسان إذا شرع لنفسه الحرية على مقاساته الخاصة دون ضوابط دينية ولا قيود "نبيلة"، ستصبح تلك الحرية حينئذ " أنانية متمركزة على الذات وملغية للآخر"، بتعبير الإدريسي أبو زيد.