أثارت مشاهد مرفأ بيروت المدمر، لا سيما أهراء القمح التي لم يبق منها سوى جانب واحد بعد الانفجار الذي ألحق دمارا هائلا في أحياء كاملة من العاصمة اللبنانية، موجة تضامن غير مسبوقة في فرنسا، لكن خلف شحنات القمح والطحين التي ترسل إلى لبنان، يشهد حوض المتوسط صراعا آخر بين منتجي الحبوب الأوروبيين والروس. قبل ساعات من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثانية إلى لبنان منذ الانفجار الذي خلف 188 قتيلا وأكثر من 6500 جريح في 4 غشت، حذّرت الأممالمتحدة، الأحد، من أن أكثر من نصف اللبنانيين يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي بحلول نهاية العام. وهناك سببان وراء تلك الأزمة، الأول تدمير جزء كبير من المرفأ حيث مخازن حبوب هذا البلد الذي يعتمد على أكثر من 80 في المئة من الواردات لغذائه الأساسي، والثاني تفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية. في فرنسا، تحرّك فانسان غويو، وهو مزارع حبوب من إين (شمال)، على الفور، خصوصا عندما رأى ماكرون يلتقط بضع حبات ذرة بقيت من انفجار مرفأ بيروت. وفي 6 غشت، دعا غويو مزارعي الحبوب الفرنسيين على "تويتر" إلى أن يقدم كل منهم "طنا من القمح من أجل لبنان". بالنسبة إليه، "كثر يريدون تقديم المساعدة" رغم موسم الحصاد السيّئ هذا العام والصعوبات اللوجستية لنقلها. وأضاف: "علينا أن نكون أكثر تنظيما". وبهدف القيام بذلك، قام أصحاب المطاحن الفرنسيون بذلك بسرعة كبيرة. وخلال نهاية أسبوع واحدة، نقلت حوالي 20 مطحنة، مثل "أكسيريال" "وسوفليه" و"جيراردو" و"جافيلو"، 500 طن من الدقيق إلى تولون. ثم سلمتها البحرية الفرنسية لبيروت لتوزعها لاحقا منظمات محلية غير حكومية. وقالت كارين فوريست، مالكة مطاحن "فوريست" في كلوني، لوكالة فرانس برس: "كانت قضية أمن غذائي وكانت ستؤثر علينا بالطبع". في كتب التاريخ، يوقظ أي نقص في القمح شبح ارتفاع الأسعار والمجاعات والعنف وزعزعة الاستقرار في البلدان. وللبنان تاريخ مع فرنسا وعلاقات وثيقة جدا معها، وهو غارق منذ عام في أزمة اجتماعية صعبة جدا. لكن إذا لم يستقر لبنان، فإن الإرهاب هو الذي قد ينمو حول منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفق ما قال جان فرنسوا لويزو، رئيس جمعية المطاحن في فرنسا. وفرنسا ليست الدولة الوحيدة التي تساعد لبنان. ففي المجموع، خطط برنامج الغذاء العالمي، وهو وكالة تابعة للأمم المتحدة تدير مساعدات الطوارئ، لإرسال 50 ألف طن من الدقيق إلى لبنان. كما هناك حاجة ماسة إلى إعادة بناء أهراء التخزين. سفينة من القمح قال تييري بلاندينيير، رئيس مجموعة تعاونيات "إن فيفو"، لوكالة فرانس برس، إن سفينة محملة ب 25 ألف طن من قمح الخبز من المقرر أن تغادر نانت في أكتوبر. وهذه العملية نتجت من شراكة بين تعاونيات زراعية عدة ووزارتي الزراعة والخارجية. وأوضح بلاندينيير أن "الأمر متروك لنا لإظهار أننا موجودون في الأوقات الصعبة للحفاظ على علاقاتنا مع هذا البلد، ومع بقية بلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط". ويريد منتجو الحبوب الفرنسيون والأوروبيون من خلال حملة التضامن هذه الحفاظ على مكانتهم في البحر الأبيض المتوسط في مواجهة روسيا التي أصبحت في العام 2019 أكبر مصدر للقمح في العالم. وقال الباحث سيباستيان أبي، مؤلف كتاب "جيوبوليتيك دو بليه" (2015): "في لبنان، تصدر روسيا نصف الحبوب التي تستوردها الدولة"، بينما "لم تكن تصدر شيئا على الإطلاق في بداية التسعينات". وأوضح الباحث أنه مع تدهور ظروف الإنتاج المحلي ووصول أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، ازدادت الواردات اللبنانية ثلاث مرات خلال عشر سنوات، لتصل إلى حوالي 1,5 مليون طن مقابل 500 ألف طن في العام 2010. وقد يكون وزع جزء منها في سوريا "في ظل ظروف غامضة بعض الشيء". وأضاف أنه بالنسبة إلى روسيا، "إنها دبلوماسية القمح: تم التركيز على صادرات الأسلحة الروسية إلى المنطقة، لكن الحبوب هي التي جلبت مكسبا للدبلوماسية الروسية في لبنان وفي أنحاء الشرق الأوسط". وتابع الباحث ذاته بأن الروس يضعون نصب أعينهم المغرب العربي، وتحديدا تونس والمغرب، الزبونين التقليديين لفرنسا ودول أوروبية أخرى. *أ.ف.ب