يبدو العنوان مراوغا، وعكس المتوقع من الكتاب المغاربة الفرنكوفونيين، الذين يركزون في مجملهم على الطابع الفولكلوري للمآسي المغربية، ليس المغرب هو المقصود هنا. أو على الأقل ليس هو المعني وحده هنا بتهمة أنه مقبرة مواطنيه. فهناك الجزائر أيضا، وهناك إيران، وأما المصب الأكبر، المقبرة التي تلتهم لحم ضحاياها من كل مكان دون شبع: باريس الموسومة خداعا بمدينة الأنوار. كنت أضع نفسي، منذ سنوات، على مسافة غير قصيرة من كتابات عبد الله الطايع. لم أحاول أن أقرأ له يوما، بسبب الضجة التي يثيرها حوله وتركيزه الكبير على سيرته الذاتية عن ميوله الجنسية. كنتُ إلى أن وجدت نفسي أمام روايته هاته، بلد للموت، التي صدرت في فرنسا سنة 2015 وصدرت بالعربية في المغرب سنة 2017. قررت تجربة قرائتها، ولم أندم. الرواية رائعة، وبدا من الصفحات الأولى أن عبد الله الطايع كاتب محترف، متمكن من أدواته الفنية. يعرف جيدا كيف يعرض أفكاره وقضاياه، وكيف ينتقد نفاق المجتمع دون أن يكون هو نفسه منافقا، ودون أن يسقط في فخ النظرة الدونية نحو وطنه الأم إرضاء للقارئ الفرنسي المسكون، ما يزال، بالنظرة الاستشراقية المتعالية. بل إن الطايع في ثنايا روايته هذه يهاجم هاته النظرة الفرنسية الفوقية ذاتها والنفاق المزمن لدى الفرنسيين المتحذلقين بالحديث عن الحريات. باريس.. مدينة الضَلال تغوص الرواية في تجارب شخصيات تعيش على الهامش، رحلت من وطنها نحو أوروبا بحثا عن الحرية وحياة أفضل، لكنها لم تجد هناك سوى المعاناة والعنصرية والنظرة الدونية والأحكام المسبقة. أشار الكاتب متحدثا في إحدى ندوات الترويج للرواية، مفسرا العنوان، إلى أن بلدان الأصل، أوطان شخصيات الرواية، هي الدول التي يموت فيها الشخص المثلي أو ممتهن الدعارة، ببطء، ما يدفعه للهجرة نحو عالم آخر باحثا عن حياة أفضل، عن التحرر والحرية وأن يكون كما هو، لا كما يراد له أن يكون. غير أنه يجد نفسه هناك في قبر آخر، محاطا بالعنصرية والنظرة الدونية لمجتمع يدعي الانفتاح لكنه يحصر تلك الحرية وذاك الانفتاح على نفسه حصرا. تلك طبيعة فرنسا، "البلد الأكثر من الجاحد معهم" (ص: 97). مع المهاجرين كما مع رجال المستعمرات الذين زجت بهم فرنسا في حروبها، التحررية والاستعمارية على حد سواء، ثم حين نالت مبتغاها تخلت عنهم. "أنت مشغولة بأن تصيري سيدة. سيدة مثل كل العاهرات التي نلتقي في مدينة الخراء هذه!" (ص: 101) يقول عزيز، أحد أبطال الرواية، مخاطبا زنوبة، ذاته الأخرى. وتقول له زنوبة في ختام مونولوجهما المتوحد: "عزيز.. لا ترحل... لا تتركني. باريس صارت باردة، صماء، حزينة، متلبدة المشاعر. عنصرية. باريس تقتلني. أنا بحاجة إليك. إلى يدك التي لصبي غير مكترث يرقص ويغني. أنا في حاجة إلى روحك الحرة دوما." (ص: 111). باريس اللامبالية بأحد، التي تلتهم كل من يأتي إليها. تحيطهم بالبرود والخواء. "أحسني في الخواء. كل شيء فارغ. حتى باريس فارغة." يقول موجتابا الثائر الإيراني الهارب من القمع السياسي الباحث عن حرية عيش اختلافه الجنسي. يكشف الطايع في روايته عن الجانب الآخر من أوروبا، ليهدم الأسطورة التي ترسخت في عقول الشباب الطامعين في العبور إلى الضفة الأخرى، نحو أوروبا الجنة. كم من مغربي، أو مغاربي لو شئنا الدقة، يذهب إلى هناك حتى يكدح ويشقى ليصرف على عائلته، على الأفواه الجائعة والأجساد العارية، التي تركها خلفه في الوطن. حين تراه في إحدى إجازاته الصيفية، وترى مظاهر النعمة عليه، تحسبه يعيش هناك ملكا. لكنه قد يكون هناك غاسل صحون يكدح طيلة النهار والليل، أو نادلا في حانة، أو عاهرا. أو، عاهرة. "عمل نعيمة كنادلة في الحانة، لم يكن يكفي لأداء كل شيء: الكراء، الهاتف، الفواتير، الضرائب، دراسة أبناء وبنات إخوانها في المغرب... كانت تحتاج مالا أكثر لإرضاء كل هؤلاء الذين يحتاجونها، الذين لم يكن بإمكانهم الاستمرار في العيش من دون مساعدتها... هم عديدون [...] الذين يوجدون مثلها على الحال نفسها. إنه قدرهم، قدرنا: أن ندفع من جسدنا لأجل مستقبل الآخرين." (ص: 80-81) أو، هكذا يرون أنفسهم/أنفسهن يضحون لأجل الآخرين، ووحدها الظروف هي التي دفعتهم نحو تلك المسارات. إلا أنهم، من جهة أخرى، صادقون مع أنفسهم لا يدعون فضيلة ليست فيهم. "لست نبية ولا شاعرة،" تقول نعيمة، وتضيف: "أنا عاهرة مثلك. لم أعد كذلك، لكني لا أنكر شيئا من ماضي." (ص: 79) وكذلك يقول موجتابا، المتصالح مع خطيئته: "لا يمكن أن يكون الله في ملكهم وحدهم. زهيرة، المرأة في باريس، تعرفه أكثر منهم. بالنسبة إلي، لأنها تؤمن به، ستذهب إلى الجنة بعد موتها. مثلك، أمي. معك. سميح وأنا: دون شك لا." (ص: 141) لعنة الترحال "الترحال. يكون الحياةَ من الآن فصاعدا." (ص: 137) يقول موجتابا في رسالته إلى أمه. الترحال قدر شخصيات الرواية. زهيرة المغربية، المومس التي تقترب من نهاية عمرها الوظيفي، المسكونة بفاجعة رحيل والدها. عزيز الجزائري الباحث عن هويته بعد عملية التحول إلى امرأة. موجتابا الإيراني الهارب من سلطة القمع الديني. وأيضا هي حكاية زينب، عمة زهيرة، التي اختفت طفلة ووجدت نفسها مذاك سجينة الرغبات الجنسية للمستعمر الفرنسي في المغرب. تعيش زهيرة، طيلة سنواتها في باريس تحت هاجس فقد والدها الذي تعتبر نفسها مشاركة في قتله، إلى دفعه نحو الانتحار شنقا، بسبب التجاهل والتخلي. "هناك وضعناه. الأب، الذي شيئا فشيئا نسيناه، تجاهلناه." (ص: 12) الأب الذي لم يملك الوقت ليعيش. "أبي العزيز الحنون والحانق، لم يملك الوقت لأي شيء. لا من أجل العيش جيدا ولا للموت جيدا." (ص: 11) خرجت زهيرة إلى عالم الدعارة مبكرا. ربما وجدت فيه خلاصها من حزنها المقيم على أبيها، ولو أنها كانت تبيع نفسها للرجال من قبل ذلك. في اليوم الذي شنق فيه أبوها نفسه غادرت هي المدرسة رفقة رجل كان يحوم حولها منذ فترة. بعد أن قضى منها وطره رمى إليها مبلغا من النقود، وقال: "أرى أنني لست الأول. أنا مستاء. مستاء جدا." (ص: 25) دخلت بعد ذلك إلى العالم المقنن للدعارة بعد أن سلحتها صديقة/قوادة بالمعرفة اللازمة. ثم رحلت لاحقا إلى فرنسا، غير أنها لم تجد الوضع هناك أفضل. أقنعت نفسها بالفتات وبتقديم الخدمات للمهاجرين العرب المتعبون الأشقياء البؤساء، وبقيت أسيرة ذكرى والدها التي لم تبرحها. "تعيسة أنا. ووحيدة. وحيدة للغاية في باريس. في المركز لكن كما لو أنني في أقصى العالم. أسمع خطواتك، أبي... أنت عليل في الأعالي. نحن في الأسفل، في القبو تقريبا." (ص: 17). غير أن أشباح الماضي تلاحقها في النهاية آتية معها بالموت. "زهيرة يجب أن تموت. إنه قدرها، هكذا هو الأمر." (ص: 150) في المغرب، وهي طفلة مراهقة، كانت زهيرة ترافق رجلا. هل كانت تعتبره أخا؟ هل كانت تشفق عليه ليس إلا؟ ربما. لكن الرجل، علال، أحبها. تقدم لخطبتها، أكثر من مرة. وبعد أن كان الصمت هو الرد الوحيد الذي يلقاه من والدتها قالت له أخير مرة أن ينظر إلى المرآة، ويرى من هو. نظر إلى المرآة وتذكر من هو. "وقفت أمام المرآة. نظرت مطولا. رأيت ما أنا عليه رغما عني. أنا أسود. مغربي وأسود. مغربي، فقير وأسود. أنتم، عائلتك وأنت، كنتم مغاربة، فقراء، وغير سود." (ص: 150) ذلك الرفض يكشف له الحقيقة التي سيكون عليه أن يتعود على التعايش معها. "لم أكن أعرف المغرب. عينا أمك أظهرت لي حقيقته. الكراهية... في كل مكان. بين الجميع... لست سوى عبد... حتى بين أفقر الفقراء، هناك خطوط حمراء أيضا." (ص: 152-153) يقرر علال ترك مهنة البناء وترك المدينة. يعمل في الفلاحة وحراسة الأراضي. تمر السنوات، ويأتي ذات يوم من يهمس في أذنه بأن زهيرة الصبية التي كان يعرفها منذ زمن صارت مومسا عند الفرنسيين. "زهيرة هي التي تدفع مقابل كل شيء هنا... وأيضا لك... هي اشترت الأرض [لأسرتها] بفضل مالها الحرام... وحتى راتبك." (ص: 145) فيجد علال نفسه مدفوعا للانتقام لشرفه. يُسخر الجن (أو يتوهم)، كما تفعل زهيرة نفسها والعاهرات الأخريات، ليأخذوه إلى باريس، إلى شقة زهيرة. "أرى البحر المتوسط. بخطوة أعبره. أكتشف إسبانيا. في لمحة بصر أحلق فوقها. أنا في فرنسا... أعرف شقتك. سجنك. أجتاز بابك. تنامين. لم أعد في رأسك وأحلامك فقط. افتحي عينيك يا زهيرة. افتحيهما! لا تقاومي. لا تبكي. لا تخافي من السكين الضخم. الأمر سهل. إنه سريع. إنه قدرنا." (ص: 160-161) التحول وصراع الهوية صديق زهيرة الأقرب هو عزيز. جاء من الجزائر بحثا عن حرية أن يكون ما يريد أن يكون. بعد سنوات يقرر عبور الخطوة الأصعب. أن يقوم بعملية تحول جنسي. أن يتخلص من بقايا ذكورته نهائيا. أن يصير امرأة كاملة. لكن، هل نجح حقا؟ تيه عزيز بعد العملية لم ينقص، بل زاد. "فكرت في كل شيء. لكن ليس في الأساسي: كيف أكون امرأة؟" (ص: 94) لم يعد عزيز يعرف نفسه. لقد صار الآن زنوبة، لكن: "هل أنا امرأة، امرأة تماما؟ لا. هل ما زلت رجلا؟ لا." (ص: 93) يقول/تقول: "لست نادمة على شيء مما أقدمت عليه. هذه العملية أردتها." (ص: 94) ثم سرعان ما يضيف: "هل كان خطأ؟" لا جواب، ولا أحد يعرف شيئا عما يحدث الآن معه/معها. "لا أحد تجرأ على وصف هذه المنطقة حيث لم نعد نحدد فيها ذواتنا إطلاقا. حيث نوجد خارج كل التصنيفات." (ص: 95) عزيز، الأخ الأصغر وسط سبع أخوات كن يفعلن به ما يشأن. "كان يجب التضحية بي. وكن يعلمن ما يجب فعله. كيف يمكنهن تحويلي... أنا الصبي الوحيد على الأرض. أنا البنت الوحيدة على الأرض... الحدث. التحول. الانبعاث. العودة إلى الأصل." (ص: 51) ثم تزوجت الأخوات واحدة تلو الأخرى، وبقي الصبي وحده لا يعرف من يكون. وجاء التحول، ومعه المونولوج الطويل بين عزيز وزنوبة: "أحبك فعلا. لست سوى صبي صغير. لا ذنب لك، في كل هذه التراجيديا." (ص: 100) ثم يأتي الندم: "لم أعد شيئا. لا طفلا صغيرا يرقص فرحا مع أخواته ولا روحا حرة ما لا تزال تعيش في عدم الاكتراث. لقد دمرت كل شيء مع هذه الرغبة المجنونة في أن تصيري امرأة. قضيت علي. لقد أغلقت أمامي كل الاحتمالات، في الأرض كما في السماء." (ص: 101-102) ويكتمل المونولوج بطلب زنوبة المستميت، والمستحيل، ألا يختفي عزيز، الطفل داخله/داخلها: "هل سترجع عزيز؟ ما الذي سأفعله من دونك؟ عزيز... لا ترحل... لا تتركني. باريس صارت باردة، صماء، حزينة، متلبدة المشاعر. عنصرية. باريس ستقتلني... عد. باريس ثقب أسود. عد لإنقاذي." (ص: 111) العود الأبدي على الجانب الآخر ثمة حكاية زينب، عمة زهيرة، التي وقعت طفلةً ضحية المستعمر الفرنسي. رئيس الشرطة اتخذها جارية له، ثم حين عاد إلى فرنسا مررها إلى صديق له، وهكذا تقرر مصير زينب الذي أخذها في النهاية إلى بيت للدعارة ثم دفعها إلى التطوع لخدمة الجنود الفرنسيين الذاهبين للحرب في لاندوشين. ستبقى هناك يتناوب عليها الجنود وستبقى هناك تحلم بالسفر إلى الهند، لتصير ممثلة. لكن، "لن يتركك الجيش الفرنسي ترحلين أبدا. أنت في ملكيتهم يا زينب. تعملين من أجلهم." (ص: 171). يسألها الجندي الفرنسي الذي يقول إنه يحبها: "-ماذا سيكون اسمك في الهند؟ -زهيرة. -زهيرة، لماذا؟ -له رنين جميل. -نعم. زهيرة. إنه جميل. -اسم جميل لكي أكون ممثلة في الهند." (ص: 190) *كاتب مغربي. صدر له رواية كافكا في طنجة [email protected]