"سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطق" المعتمد بن عباد "سكينة، اطمئنان، وعلى الوجه قناع مبتسم لا يتحرك، أمّا ما يجري وراء القناع فهذا من شأننا" عن رواية "زوربا" ها قد أصبح العالم كله مقنعا.. أينما وليت وجهك ثمة أقنعة صحية تحجب الجزء الأكبر من وجهنا، تحولت الكمامات إلى هوية كونية لعصرنا ملتصقة بجلد وجهنا، وليست مادة معزولة عنا نشهد على ميلادها وموتها بحياد، في عز احتفاء الإنسان ب"الأنا" يضطر لإخفاء ذاته؛ وهو ما يعني أن الفيروس التاجي قد وشم جسدنا ونفوسنا، فيما يشبه الجرح النرجسي.. واقتضاء بما أورده الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس في كتابه "طريق الأقنعة"، فإن الكمامات ستغدو أسطورة عصرنا الجديد، ستخفي تحت طياتها طبقات كثيفة من الحكايات والأسرار والتمثلات التي سيأتي بعدنا من يشرح عبرها زمننا، وما يخفيه القناع الصحي الذي نرتديه اليوم بسبب فيروس "كوفيد 19" من خوف ورعب وقلق وتمويه، وكيف انتصبت الحواجز بين البشر بسبب رهاب عدوى فيروس غامض ومخاتل هزمنا أكثر مما فعل الموت الطبيعي والزلازل والبراكين.. كائن مجهري يستقر على الأسطح الصلبة، ينتقل عبر الهواء مع رذاذ الأفراد المصابين، لا نعرف عنه الكثير سوى أنه جعلنا نكف عن الثرثرة ونرتدي أقنعة مثل المهرجين وسرّاق المنازل ولصوص البنوك، والمشاركين في الحفلات التنكرية الباذخة، والممثلين القدامى والمحاربين الذين كانوا يرتدون أقنعة حيوانات شرسة لإرهاب عدوهم.. الكمامة.. ال"بيرسونا" المزدوج لكل وجه منا هذه المستطيلات القماشية البيضاء والزرقاء، والتي ستصبح بألوان زاهية مع انتهازية شركات الموضة، جعلتنا مثل طائر البجع المتكتم كما في الثقافة الإنجليزية أو الكلاب الشرسة أو الدواب المكممة كما في الثقافة العربية، أصبحت لصيقة بنا، هي وشم عصرنا الكوروني.. بعد أن أغرقنا العالم بثرثرتنا الزائدة عن اللزوم، ها هو فيروس مجهول المنشأ وغير مرئي يخرس البشرية.. كأن الكون كله يخاطب الإنسان اليوم: اصمت لأراك! لقد أصبحنا بوجه مركب، الوجه المزيف "بيرسونا" الذي نظّر له كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي على اعتبار أن كل شخص يرتدي قناعا مخاتلا يبرز به أمام المجتمع لإخفاء وجهه الحقيقي وشخصيته الطبيعية، وأن عدم التوافق بين القناع الفردي والمجتمع هو مصدر كل الاختلالات النفسية، وها نحن نرتدي قناعا قماشيا فوق قناع نفسي وعلينا تصور حرب ضروس بين القناعين! أصبحنا "بيرسونا" مركبة أو مزدوجة.. نسير في الساحات العامة بقناعين: القناع النفسي الذي وصفه بدقة العالم كارل يونغ، وكمامة الوجه التي صهرها فيروس كورونا المستجد وصاغها على مقاسات وجوهنا؛ غير أن الوجه الأول طبيعي وجزء من ذاتنا، نقدم نسخة مبالغ فيها عن أنفسنا ونأمل أن يكون لها انطباع جيد عند الآخرين.. الشخصية التي نعرضها في مهنتنا ليست هي نفسها في المنزل.. في الأماكن العامة نرتدي قناعًا نفسيا، حتى نتمكن من فرض صورة مرغوبة لأنفسنا عند الآخرين.. ومن ثم، فإن الغرض المميز للشخص هو إخضاع كل الحوافز والاندفاعات والعواطف البدائية التي لا تعتبر مقبولة اجتماعيًا، والتي إذا خضعنا لها سنصبح مثل حمقى، وكل منا يشارك في التظاهر بأن كل هذا حقيقي ليستمر المجتمع على وجه عاديّ.. فيما الوجه الثاني، الكمامة أو القناع الصحي هو إجباري لا حرية في اختيار هذا الوجه المزيف، القلق، المرتاب.. هكذا غدونا بقناع مزدوج أو مركب، من سيتضخم على حساب الآخر: القناع النفسي أم القناع الصحي الذي أخذ يبدو اليوم أنه جزء من جسدنا الاجتماعي؟ رمز مشحون بالدلالات والإيماءات، قطعة لا مندوحة عنها مضافة إلى باقي أكسيسوارات لباسنا.. كلنا اليوم أشبه ببطلي "بيرسونا"(Persona) الفيلم السويدي للمخرج إنغمار برغمان، حيث زيف الأقنعة التي نرتديها لكي نُسعد من حولنا، ونظهر بمظهر اجتماعي مميز حتى يرضى الجميع عن كينونتنا، اليوم ستقيم الكمامات حواجز بيننا وبين الآخرين، وسوف نضطر لتغيير الكثير من سلوكاتنا وقيمنا وفق ما يفرضه القناع الجديد لوجهنا. سقط القناع عن القناع، سقط القناع القناع هوية مضللة، كما في المسرح والحروب لدى الفرسان الملثمين أو اللصوص وزوار الليل من البوليس السري في الدول القمعية، الذي يختطف المعارضين قبل صعود الفجر، "بوخنشة" الذي كانت ترهبنا به أمهاتنا لننام ونكف عن شغب الطفولة، القناع دفن لهوية واستنبات لأخرى جديدة، غامضة، مثيرة وكاذبة، يخلق اليوم التشابه والتماثل بين جميع الممثلين في العالم؛ لكنه يثير القلق والفزع والارتياب، حتى ولو ارتبط بالقناع الصحي لدى الأطباء في قاعات الجراحة.. يزرع فينا خوفا ملتبسا، ينشر من حولنا الرعب ورائحة الموت، لأنه رديف المجهول والغامض فينا. منذ انتشار فيروس كورونا المستجد في آسيا وانتقاله إلى باقي أرجاء المعمور، أصبحت الكمامة نوعا من السلاح الضروري لمواجهة انتقال العدوى، منصوص على إلزامية ارتدائها قانونيا ويتعرض المخالفون إلى العقاب، بالغرامة أو السجن.. كيف يصبح التجلي والوضوح والبروز بوجه مكشوف رمزا للتهديد وتعريض الذات والآخرين إلى خطر الإصابة بالفيروس التاجي؟ في الأعراس والحفلات، في المآدب والمآتم، في الصالونات وفي المنتزهات، في المطاعم والمقاهي، في المتاجر والأسواق، في المسابح والشواطئ، في مكاتب العمل وفي الشوارع العامة... هناك سطوة كبرى لأقنعة الوجه الصحية، حتى لنبدو كممثلين جدد على خشبة مسرح الحياة، كل له دور في هذه المسرحية التراجيكوميدية من تأليف فيروس مجهري وإخراج صنّاع السياسات العمومية.. في الصحف السيارة كما في التلفزيونات ومواقع التواصل لا صور مجردة من القناع الصحي، صور تحاكي الواقع وتقول زمنها، الكل يبرز في صور مكممة.. تلك عدالة فيروس إمبراطوري فرض شروطه على البشرية التي أصبحت تتخفى وراء الأقنعة؛ ففيروس غير مرئي لا يبرز إلا من خلال أثر عدواه يستلزم الأقنعة المكشوفة لحماية المرء من مرض لا نعلم إن كنا مصابين به أم لا إلا بعد حين.. لا شيء يعلو على رمزية الكمامة التي تختزل الرغبة في الحفاظ على الحياة ونزعها مغامرة ومخاطرة وجهل مبين.. نحن الذين كنا بالأمس "نخرج أعيننا" بوقاحة زائدة في العالم، لنؤكد تفوق الجنس البشري وإخضاعه للطبيعة التي كيّفها وفق حاجاته من أجل إسعاده، فإذا بفيروس هشّ، مجهوله أكثر من معلومه، يكشر عن أنيابه ليعيدنا إلى زمن الأقنعة الدينية والطقوس الأسطورية، ويدفعنا إلى الاختباء والتنكر وسط قطعة قماش.. فيروس غير مرئي يبرز عدم قدرتنا على حماية أنفسنا، حيث أصبح العالم مصدر تهديد مستمر لنا، لذلك اختبأنا طويلا في جحورنا أثناء الحجر الصحي لحوالي ثلاثة أشهر.. والآخر حتى من المقربين، متى اتصل بالعالم الخارجي أصبح بدوره مصدر تهديد لنا يثير الفزع والخوف ونشم فيه رائحة الموت.. مما يدفعنا إلى إقامة الحواجز بيننا وبينه عبر الكمامات! قناع الوجه كهوية إبداعية وطقوس دينية.. من التضليل إلى الخوف هناك العديد من الأقنعة الشائعة حول العالم التي يمكن تصنيفها حسب معايير مختلفة.. يمكن استخدام الأقنعة في الطقوس والاحتفالات والصيد والأعياد والحروب والكرنفالات والمواسم والمسارح والأزياء والرياضة والأفلام، وكذلك في الأغراض الطبية أو الوقائية أو المهنية.. يمكن أيضًا استخدام الأقنعة كنوع من الزخرفة... هناك العديد من الأقنعة حول العالم تختلف بحسب وظائفها. يحيل النص الديني إلى أن نبي الله يوسف وضع قناعا فرعونيا مذهبا على وجهه حين تنكر كي لا يتعرف عليه إخوته إذ جاء في "سفر التكوين": "ولما نظر يوسف إخوته عرفهم، فتنكر لهم وقال لهم: من أين جئتم؟".. وورد في القرآن الكريم: "وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون".. أي أنه نتيجة لقناع الوجه الذي كان يرتديه متنكرا لم يتمكنوا من التعرف عليه، الوظيفة الأولى لقناع الوجه هي التنكر، التخفي، الغموض والتمويه والالتباس.. وقد ازدهرت الأقنعة مع الطقوس الدينية/الطوطمية ومع المحاربين الذين كانوا يرتدون جلود ورؤوس حيوانات شرسة لبث الرعب في صفوف أعدائهم، وأصبح لها صناع وحرفيون.. كان القناع رسالة محملة بالإيحاءات الدينية كرمز للأسلاف وتقديسهم، في كتاب "الموتى" الفرعوني يوجد فصل خاص اسمه "القناع" (الفصل 151) يتحدث عن القناع الجنائزى الذي ترتبط وظيفته بفكرة الكا (القرين) والبا (الروح) أي قرين الروح وصنوها. لذلك، ارتبط القناع بالبعث والخلود، وظل المصريون القدامى يعتقدون أن القناع يوفر الحماية لرأس الميت، وكان صناع الأقنعة يجتهدون في إبداع أيقونة القناع التي يجب أن تكون شبيهة بوجه المتوفى حتى يسهل على روحه التعرف عليه في العالم الآخر حيث الخلود الأبدي، لتتعرف الروح على جسد صاحبها من خلال تحري ملامحه المتفردة، ومن خلال المومياءات التي تم اكتشافها وجدنا الأقنعة التي كانت ترتديها الجثث المحنطة مناسبة للوضع الطبقي الذي كان عليه الميت في الحياة.. ها هنا لا يحمل القناع وظيفة حماية رأس الميت فقط بل يحافظ على وضعه الطبقي أيضا، وفي حالات أخرى كان يتم صنع أقنعة مضللة عبر تحويل وجه الميت وشخصيته الحقيقية إلى شخصية مناسبة للقناع الحيواني الذي يتم صنعه؛ وذلك بغية طرد الأرواح الشريرة، حيث يمنح القناع حياة أخرى أو شخصية ثانية لوجه الجثة، تسمح بإقامة حواجز مع العالم الخارجي، تخفي حقيقتها حتى لا تتمكن الأرواح الشريرة والكائنات الغريبة من التعرف عليه، القناع هنا حافظ للشخص الحقيقي حتى وهو ميت من أي عبث، مضلل ومراوغ يخفي حقيقة الميت وشخصية جثته الحقيقية.. في الحضارات القديمة بأمريكا الشمالية هناك عمال خشب ماهرون أبدعوا في صناعة أقنعة معقدة من الخشب والجلد والعظام والريش... كما تم استخدام الأقنعة في الطقوس الشامانية التي تمثل الوحدة بين الإنسان وأجداده والحيوانات التي يصطادها، كما أنها تستخدم في طرد الأرواح الشريرة من المرضى.. في أمريكا اللاتينية، كانت الأقنعة تجسيدا للأسلاف واستجداء حضورهم من قلب الماضي أو تستعمل للحماية من الأرواح الشريرة.. ووظف الأزتيك القدامى أقنعة لتغطية وجوه الموتى، صنعوها من الجلد في البداية ثم من النحاس والذهب. إننا اليوم على طريق صنع أسطورتنا الخاصة، سيأتي بعدنا من يكشف الرمز المشحون بالدلالات للقناع الصحي في عصرنا الكوروني وما يخفيه من طبقات كثيفة من الأساطير الحديثة.. كل منا أصبح أورفيوس عاشق حورية الغابة الفاتنة يوريدس التي ماتت من لدغة أفعى، ننزل إلى العالم السفلي، متخفين بأقنعتنا عن وجه الموت، بحثا عما فقدناه في مسارنا عبورنا الطويل للحياة: صدقنا، حبنا، براءتنا وهويتنا التي توارت تحت أقنعة عديدة، وحين نجدها نفقدها، كما فقد أورفيوس معشوقته يوريدس وهو يعبر الأدراج الأخيرة لعالم الموتى، كما أضاع جلجامش عشبة الخلود.. ها هو الفناء يطاردنا ونحن نتقنّع بالكمامات لمراوغته وتضليله وسيكون علينا فيما بعد أن نعاني من تصدعات القناع الجديد الذي فرضه فيروس كورونا، وأن يكشف علم النفس وعلم الاجتماع جراح القناع الصحي على هويتنا وروحنا، والعزلة العميقة التي ستدخلنا قوقعة نفسنا بسبب التباعد الاجتماعي والكمامات التي تقوم حاجزا بيننا في التعرف على بعضنا وقراءة انفعالات بعضنا من خلال قسمات وجوههم وإيماءاتهم. الوجه والأنف من التجميل إلى التكميم! حازت العين مركز التعبير الإنساني في جل الثقافات الإنسانية، وأحيطت جارحة العين بدلالات الرؤية والبصيرة والعلم والمنبع الأصيل وإردافها كصفة كان يمنح الشيء هويته الخاصة المميزة، به يعرف ويحدد.. الشيء عينه والشخص عينه، وظلت المجتمعات القديمة تعلي من شأن العين باعتبارها مركز ثقل التعبير الوجداني، حتى اختزلت تاريخا باذخا من التعبيرات والرموز والمشاعر المتناقضة: من حب وكراهية، خوف وشجاعة، فرح وحزن، دعوة وصد، استهجان واستحسان.. كان ابن جني يردد: "أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة"، لأن الكلام في غياب مشاهدة الوجوه مضلل، لا يقود إلى ما في النفس حقيقة، ويشرح مهدي عرار في كتابه "مقدمة حول البيان بلا لسان: دراسة في لغة الجسد" هذا الأمر قائلا: "يأبى ابن جني أن يكون استماع الأذن مغنيا عن مقابلة العين، مجزئا عنه"، وفي الحياة الجارية حين نريد التحقق من صدق أو كذب محدثنا، نقول له: "انظر إلي بعينيك وأنت تخاطبني"، وقال الشاعر العراقي أبو الفوارس: العَيْنُ تُبْدي الذي في قَلْبِ صاحبِها ** مِن الشَّناءَةِ أوْ حُبٍّ إذا كانا إنَّ البَغيضَ لهُ عينٌ تُكَشِّفُهُ ** لا تَسْتطيعُ لما في القلْبِ كِتْمانا فالعينُ تَنْطِقُ والأفْواهُ صامِتَةٌ ** حتى تَرى منْ ضَميرِ القلبِ تِبْيانا للعين دلالة الحضور، الهوية، الرؤية، الحقيقة... فليس من سمع كمن رأى وليس المخبر كالمعاين، هي مجال للسحر والحسد وفتنة للناظرين لم تستطيع جل الأقنعة حجبها، لأن بها نكون، هي مركز سهام العشق والجنون والحياة والموت.. لكن مع ظهور الصورة الفوتوغرافية وبعد هيمنة المرئي على الثقافة الكونية، عاد للوجه والأنف جماليتهما الخاصة، لقد بدل الإغراء مجاله، من الجزء الأعلى- العين والحاجب إلى الجزء السفلي- الفم والأنف، وازدهرت الجراحة التجميلية في إضفاء لمسات إبداعية على المظهر الطبيعي للفم والأنف، لكن فيروس كورونا المستجد سيفرض على البشرية الكمامة لإخفاء مجال السحر المعاصر، تقول الصحافية البريطانية فانيسا فريدمان في مقال لها بجريدة "نايتايمز" في 17 مارس 2020: "إننا نعزو الكثير من المعنى إلى الوجه البشري وتعابيره، لتغطية وإخفاء الجزء الأكثر عراقة.. دائمًا يتم الحديث عن العيون بكونها نافذة على الروح والكثير من الثرثرة في هذا الموضوع، لكن الفم هو دليل مهم للعواطف.. إنه جزء من كيفية قراءة مشاعر بعضنا البعض. إخفاء ذلك يمكن أن يبدو وكأنه توبيخ... القناع يخلق حاجزًا بينك وبين العالم، إنه يحميك ولكنه يعني أيضًا أنه لا يمكنك الاقتراب من شخص ما"، ويقول دانيال ماكنيل في كتابه "الوجه": "إن بريق أفكارنا يشرق على وجوهنا تماما مثل الفراشات وهي فوق الزهور.. فذلك البريق على الوجوه يمدنا بتدفق من المعلومات عن شخصياتنا لا يكاد يقدر بثمن". حين ظهرت الكمامة كقناع إلزامي للوجه، واجهت المشاهير والنجوم ومن اهتموا بصرف الملايين على تزيين هذا الجزء السفلي من الوجه، سخرية لاذعة من طرف الجمهور، على اعتبار أن الكمامة البخسة الثمن ستخفي الفم والأنف والخدود الذين صرفت في سبيل تزيينهم الملايين.. لتعود إلى العيون سلطتها وسيادتها، وتستعيد إيحاءاتها الباذخة.. وقد اكتشفنا لحظة الحجر الصحي، مع إغلاق محلات التجميل والصالونات، أن العديد من النساء كن لا يحببن الظهور عبر الفيديو في العديد من الندوات الرقمية، لقد افتقدن لقناع الماكياج الذي كان يجعلهن أكثر ثقة بأنفسهن، وجاذبية وإغراء في نظر المجتمع. كلما استوطن الفيروس التاجي كوكبنا، انتقل الفم والأنف من التجميل إلى التكميم، وأصبحا معا دليل انفصال لا اتصال مع الآخرين والعالم؛ فالكمامة هنا تخفي، تحمي وتحجبنا عن بعضنا البعض، بدونها نبدو كما الآخرين مصدر تهديد قائم، لم يعد الأنف والفم مجالا للزينة، وإظهار المشاعر مهما اجتهدت دور الموضة في تزيين الكمامات وترصيعها، لأنها في نهاية المطاف قناع يقف حاجزا بيننا وبين الآخرين وبين العالم، وستصبح العين مرة أخرى مركز الإشارات والعواطف وقطب تعبيرات الوجه، بوصفها الجارحة التي لا يمكن حجبها حتى وسط التشادور والنقاب. الكمامة هوية حيوانية: الصمت والمسوخ والإذاية في المتخيل العربي، تشكل الكمامة التي تغطي الأنف والفم خاصة رمزا للنجاة.. لكي لا تدخل فمك "جمرة" بدل "الثمرة"، تجسيد لبعد حيواني، علاّفة البغال والحمير، كمامة الكلاب الشرسة، وقد صادفت شيوخا يلجون محلات تجارية رفضوا أن يرتدوا الكمامة بالشكل السليم على فمهم ووجههم، وكانوا يردون على العاملين المكلفين بمداخل المتاجر: "أنا ماشي بهيمة، ندير الكمامة"، وبعضهم فضل عدم دخول المحل التجاري على ارتداء الكمامة التي كانت تحيط عنقه. لقد أصبحنا "بيتبولا" بشريا، بهائم غير مروضة ما أن تفتح فمها حتى تعض، تؤذي.. من خلال الرداد المتطاير الناقل للفيروس المعدي، كيف نقل الفيروس التاجي الكمامة من الحيواني إلى الإنسي؟ من جهة أخرى، أضحت الكمامة أداة السلطة لترويض غير المنصاعين لتعليمات التدابير الاحترازية. لذلك، فإن الكثيرين لا يرتدون الكمامة بشكل سليم إلا حين يرون رجال السلطة وأمام الحواجز الأمنية وفي الإدارات الرسمية، "البوليس، البوليس، ديروا الكمامة"، ينبه الناس بعضهم البعض، وما أن يجتازوا الحواجز وتختفي السلطة حتى يُعيدوا القناع الصحي إلى سابق وضعه. إن الكمامة هنا مثل اللجام أو كمامة الدواب والكلاب الشرسة، محاولة لتطويع الأشخاص غير الخاضعين لسلطة القانون تحت مبرر الحماية الصحية، لا مجال هنا كما في إنجلتراوأمريكا للحديث عن الحريات الشخصية، لا، أبدا.. فعدم ارتداء الكمامة يوازي الخروج عن الجموع، التمرد وعدم الانصياع.. إنه خروج الآدمي إلى الحيواني الذي يجب ترويضه ليعود إلى حالة الطبيعة الاجتماعية. الكمامة كرمز للاحتجاج وثورية الوجه المقنع انطلق القناع مع المسرح ومع الطقوس الدينية والطوطمية، كانت الأقنعة وسيلة الممثلين للخروج من ذواتهم وتجسيد الأدوار التي يتقمصونها أمام الجمهور. وبتأمل لباس المحاربين القدامى والملوك وأقنعة الحفلات التنكرية وأقنعة مبسطي البلاطات ومهرجي العامة، والماسكات التي كان يرتديها الاستعراضيون في الكرنفالات والمواسم الدينية، وتلك التي ارتبطت بشخصيات مشهورة مثل الفارس زورو، الكونتيسة عائشة أو الرجل ذي القناع الحديدي كما في رواية ألكسندر دوماس، نجد الأقنعة تجسيدا لأدوار مجتمعية تحمل معاني: البطولة، التمثيل، التهريج والبسط، العبودية والسلطة.. ظل القناع يمثل هوية مغايرة للذات، إنه غير معمم، شخصي ومؤقت يرتبط بدور محدد في الحرب، على خشبة المسرح، في المعابد القديمة... يحيل على تجربة إبداعية أو مهنية: فارس، ممثل، مهرج أو طبيب.. حيث يُخرج القناع من يرتديه من هويته الذاتية ليتقمص روح الشخصية التي يحيل عليها القناع في لحظة محددة. في بعض المدن المغربية.. يرتدي الناس أقنعة، جلود حيوانات، أقنعة مصنوعة لهذا الغرض بمناسبة حفل عاشوراء، أو ما يسمى "إيداون عاشور" أو "بوجلود" ويستعرضون على إيقاع الموسيقى الشخوص التي يمثلونها، حيث يسمح القناع بحرية أكبر لنقد بعض مظاهر الانحراف الاجتماعي أو رفض سلطة وصايا الكبار وجرأة على الانفلات من رقابة المجتمع، إن القناع هنا لحظي مرتبط باحتفال كرنفالي للعشيرة يسمح بتحرر نقدي وبتنفيس الاحتقانات داخل المجتمع ويوسع مجال الحرية.. حيث يخفي القناع وجه المعترض والناقد، وهو ما لا يترتب عنه أي عقاب؛ ولكنه في الآن نفسه يتيح للجمهور التعرف على الرسالة التي يحملها الممثل المقنع. بعد ذلك، سيصبح القناع وسيلة ثورية للاحتجاج، يحمل معاني الرفض، تحول إلى وجه رافض للوصايا ومناهض للسلطة، وجه ثوري، غاضب، يعبر عن سخطه بوضع كمامة على وجهه تحمل رسالة سياسية كدليل على رفض تكميم الأفواه.. لذلك، عبّر المغاربة عن سخطهم على قانون الرقابة على المنصات الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي بوصمه بقانون "تكميم الأفواه" وفي هونغ كونغ كانت الثوار يرتدون كمامات "هيلو وكيتي" للاحتجاج حتى أضحت موضة.. إننا حين نرتدي كمامات الاحتجاج للتنديد بالقمع ورفض تقييد حقنا في التعبير نقوم بإخافة الغير، الآخر غير المرئي أو لتضليل الأرواح الشريرة والكائنات الغريبة كما في الأساطير الإفريقية، أجهزة القمع المتلصصة عبر الكاميرات وعيون الجواسيس، حتى لا تتعرف على هويتنا، نضلل أجهزة الرصد والتتبع ونراوغ خوفا من المنع والاعتقال، نعتبر أن الكمامة هي قناع للتخفي يشل قدرة هذه الأرواح الشريرة على التعرف علينا، نوع من طقوس التنكر. وإذا كان الماكياج قناع بطبقة كثيفة تخفي شخصية المهرج والممثل، فإن السياسي يعمق هذه الدلالة من خلال وضع الكمامة على فمه كصرخة احتجاج، إقفال الفم كملمح ضد تقييد الحق في حرية التعبير، ضد المنع ورفض الحرمان من الحق في الكلام.. في سيمياء الكمامة البحث في سيمياء الكمامة يقود إلى تعدد معانيها بحسب السياقات والأنساق الثقافية التي تعبر عنها، فالقناع الصحي الذي يرتديه الأطباء له وظيفة حمائية؛ لكنه يرمز في الآن ذاته إلى التميز العلمي لحامله، طبيب مختص، طبيب جراح.. القناع يميز، يصنف الوظيفة الاجتماعية والقيمة العلمية لمن يرتديه، وقناع اللحام وأقنعة الغاز تحدد الوظيفة الاجتماعية والمهنية لمرتديها.. والقناع الحربي ستنتقل وظيفته من ترهيب وترويع العدو إلى حماية المحارب من نصل السيوف ووقع السهام.. وإذا كان اللثام والنقاب وحجب الوجه خصيصة نسائية في العديد من المجتمعات الإسلامية كرمز لحجب الفتنة وستر العورة ودليل على النقاء والطهارة، الوقار والحشمة، فإنه لدى الطوارق خصيصة رجالية، رمز للفحولة، وغير الملثم كمن يبرز بلا قضيب بلا رجولة، عند الملثمين الطوارق يبدو الشخص غير الملثم كما لو أنه لم يستر عورته، في شرق وجنوب آسيا، إذا لم ترتد القناع الصحي وسعلت في الشارع العام، تعتبر غير مهذب.. أما لدى المرابطين الذين أطلق عليهم الملثمون لاشتهارهم بارتداء لثام الوجه، فيرمز إلى هوية حربية لسلالة حاكمة وأيضا كان وسيلة لتضليل العدو من خلال جعل النساء يرتدين لثام الرجال حتى لا يغار عليهن أثناء رحلات الرجال في الصيد أو الغارات الحربية على باقي القبائل. في آسيا، لا تعتبر الكمامة مجرد واقي لجسد الإنسان من عدوى الأمراض المنتشرة في الهواء؛ بل تحمل هوية جماعية، تشعر مرتدي القناع الصحي بالانتماء إلى جماعة موحدة، وأيضا تهدم الفروق الطبقية والتمايزات الاجتماعية، يقول جون.ل. سبونر، في مقال له "تاريخ أقنعة الوجه الجراحية.. الأساطير والرجال والنساء خلفها"، إن ارتداء الصينيين للقناع الصحي لم يكن فقط بهدف الحماية من عدوى الفيروسات والجراثيم؛ بل أيضا يحمل سمة "تحويل الناس إلى مواطنين ذوي عقلية علمية"، حتى أصبح القناع الطبي جزءا من الحياة الصينية وعموم شرق وجنوب آسيا، كتعبير عن الرعاية المجتمعية والوعي المدني، لا معنى للخوف هنا في ارتداء الكمامة التي تحيل على القاسم المشترك داخل جماعة لها هوية موحدة بلا تمايز أو اختلاف.