نشرة انذارية: حرارة ورياح وغبار بعدد من مناطق المملكة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    التعادل يحسم ديربي الدار البيضاء بين الرجاء والوداد    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة        بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    الرئيس الصيني يغادر المغرب في ختام زيارة قصيرة للمملكة    يوم دراسي حول تدبير مياه السقي وأفاق تطوير الإنتاج الحيواني    MP INDUSTRY تدشن مصنعا بطنجة    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    تعيينات جديدة في المناصب الأمنية بعدد من المدن المغربية منها سلا وسيدي يحيى الغرب    حكيمي في باريس سان جيرمان حتى 2029    بينهم من ينشطون بتطوان والفنيدق.. تفكيك خلية إرهابية بالساحل في عملية أمنية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جمهورية بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع 'الجمهورية الصحراوية' الوهمية    أمريكا تجدد الدعم للحكم الذاتي بالصحراء    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصيد: مشكلة حميش مع الأمازيغية تنغمس في "المواقف الشخصية" (2)
نشر في هسبريس يوم 21 - 07 - 2020


ثالوث الغلو القومي: سعدي العرباوي وخشيم
في الوقت الذي تشيع فيه على شبكات التواصل الاجتماعي مواقف وآراء صادرة عن مواطنين من بلدان الخليج العربية ينكرون فيها أن يكون الأمازيغ عربا ويدعونهم إلى الكفّ عن انتحال هوية غير هويتهم، وفي الوقت الذي اكتشف فيه علماء الآثار بقايا أقدم إنسان عاقل بالمغرب سنة 2017، في جبل "إغود" تحديدا، والذي يعود إلى 315000 سنة ، ما يؤكد مرة أخرى بأن إفريقيا هي مهد البشرية و"أم الدنيا"، وفي الوقت الذي يطلع علينا بين الفينة والأخرى مواطن مغربي أو مواطنة يُعبر أو تعبر في فيديو مصوّر عن اندهاشه من نتائج تحليل حمضه النووي، والتي يعتبرها غير متوقعة بالنظر على ما تعلمه في المدرسة وما قيل له في عائلته، حيث يكتشف أن لا علاقة له بجزيرة العرب وأن تركيبته الجينية موزعة بين شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية بل وأعماق إفريقيا السوداء أحيانا، بل هناك من يعثر على الدم التركي والروماني ولا يجد له أصلا في اليمن أو لدى الكنعانيين، إلا من نسبة ضئيلة أو منعدمة، في الوقت الذي يحدث فيه كل هذا عاد بنا السيد حميش إلى أخبار "نسب البربر" و"أصولهم" اليمينة، وهو لا ينتبه إلى أن هذا النقاش القديم لم يكن قط نقاشا علميا، بقدر ما كان صداما إيديولوجيا سببه عدم الاعتراف بواقع موجود، والسعي إلى تكريس سياسة الاستيعاب، وهكذا اهتم المستعمر بالنسب الأوروبي الشمالي للأمازيغ ، بينما اعتبرهم القوميون العرب والوطنيون (تماما كما اعتبروا الكرد والأقباط والأشوريين والزنوج إلخ..) عربا أقحاحا، ونظروا إليهم بوصفهم مشكلة مؤرقة للدولة المركزية الحديثة، التي اختارت "العروبة والإسلام" عقيدة سياسية للتنميط، في الوقت الذي يعكس واقعها هوية مختلفة، وكان لا بد من البحث عن حلول لتذويب تلك الأقوام واستيعابها، كان التذويب يتم عبر الهجرة نحو المدن وعبر التعليم والإعلام، وكذلك عبر تزوير التاريخ، وهو ما قام به أستاذنا عندما عمد إلى تحريف مواقف ابن خلدون وكابرييل كامب Gabriel Camps ومحمد شفيق وليون الإفريقي بشكل غريب، ليجعلهم جميعا يقولون بالنسب العربي اليمني الخالص للأمازيغ، بل إنه قام بالتشويش على آراء "باسي" André Basset و"غالان" Lionel Galant وجعلهما يكرسان أطروحة القومية العربية، بينما مجموعة اللغات الحامية السامية (أو الأفرو أسيوية التي منها الفرعونية القديمة والقبطية حاليا والأمازيغية والكوشية) لا علاقة لها بإثبات نسب عربي خالص للأمازيغ، إن هذا النوع من الخلط هو الذي يفقد بعض المرافعات الإيديولوجية كل مصداقية. فالعلماء المتخصصون الذين نحتوا هذه المصطلحات أرادوا منها الدراسة العلمية لهذه اللغات وليس خدمة أجندة سياسية معينة تهدف إلى تصفية لغات لصالح أخرى، من أجل إثبات عروبة البشر والحجر والشجر. وإن استعمال أسماء باحثين لتقويلهم ما لم يقولوه هو أمر غير محمود، وإذا أعوز المرء الدليل فما ذلك إلا لضعف في أطروحته.
لكن رغم ذلك نهنئ الأستاذ حميش على قبوله تصنيف الأمازيغية ضمن اللغات الأفرو - أسيوية بعد أن كان القوميون العرب يعتبرون هذا التصنيف "استعماريا"، ويضعون الأمازيغية ضمن مجموعة "اللغات السامية" معتبرين إياها مجرد "عربية قديمة"، وهذا تقدم ملموس وصحوة محمودة، وعليه اتخاذ الخطوة الموالية بأن يدرك بأن الجذور البعيدة إن وُجدت فهي لا تعني وحدة اللغات، ذلك لأن لكل لغة مسار تاريخي تطوري مختلف، حسب الجغرافيا والوقائع التاريخية والتأثيرات الحضارية المجاورة والتجارب الإنسانية، ولا يوجد عاقل يقول إن هذه العوامل كلها متطابقة متجانسة بين شمال إفريقيا وجزيرة العرب.
وقد نسب الأستاذ للحسن الوزان المعروف ب"ليون الإفريقي" استعماله لعبارة "أقوال أمازيغ" للدلالة على اللغة الأمازيغية نقلا عن علي فهمي خشيم، والحقيقة أنه لا أحد من أمازيغ شمال إفريقيا ينطق أوال ب"أقوال"، ونحن نجد حتى لدى فقهاء سوس من الذين تركوا منظومات فقهية منذ قرون يستعملون كلمة "أوال" أي اللغة، والدليل على ذلك ما ورد في كتاب "وصف إفريقيا" نفسه والذي أخفاه الأستاذ حميش وسكت عنه أو أنه لم يقرأ الكتاب، حيث يقول الحسن الوزان في كتابه المذكور متحدثا عن اللغة الأمازيغية: "وهي اللغة الافريقية الأصيلة الممتازة والمختلفة عن غيرها من اللغات" وهذه شهادة واضحة لا تدعُ مجالا لأي لبس.
بل إن هذا المؤرخ لم يغفل ما كان في عصره من نقاش حول اللغة الأمازيغية ومعجمها، إذ أشار الى أن هناك من اعتبر المفردات العربية الموجودة في الأمازيغية قد تسربت إليها في الفترة الإسلامية فقط .
إننا في لغتنا الأمازيغية نستعمل كلمة "أكوال" Agwal للدلالة على الطرب والرقص والغناء، كما أن كلمة "إكوالن" Igwalen تعني أيضا الآلات الموسيقية الإيقاعية، ولكن لا أحد ينطق "أقوال" على أنها أصل "أوال" إلا في كتابات القوميين العرب المتشدّدين.
ويقع أستاذنا في تناقض كبير وهو ينسب أطروحة الأصل اليمني لكابرييل كامب Gabriel Camps ثم يعود فيأتي بنص لعبد الله العروي يستند إلى كامب ليقول: "إن المغرب فقدَ وحدته الأصيلة منذ العهد الحجري الصقيل، أثناء الألف الثاني ق.م. تحت تأثير حضارات غازية مختلفة: الحضارة الإيبيرية في القسم الغربي، والإيطالية الجنوبية في القسم الشرقي، والصحراوية المصرية في الجنوب، وبقي المغرب الأوسط منطقة مرور بلا ضفاف» (مجمل تاريخ المغرب، ص 41). وهو كلام لا يعني بأية حال وجود أصل مشرقي خالص، لأن البقعة الجغرافية التي خضعت لكل تلك التأثيرات لا يجوز نسبتها إلى الشرق حصرا، خاصة بعد أن أثبتت الدراسات العلمية وجود استمرارية لإرث العصور القديمة كما سنبين.
ولأنه لا يمكن إثبات الأصل اليمني للأمازيغ باعتماد نصوص العلماء الحقيقيين، فإن أستاذنا لم يتورع عن اللجوء إلى آراء بعض القوميين الغلاة الذين ليست لهم مصداقية علمية مشهود بها، بل تعرضوا للكثير من السخرية ومنهم الثلاثة المعروفون عثمان سعدي بالجزائر ومحمد العرباوي من تونس وعلي فهمي خشيم من ليبيا، وليسمح لي القارئ الكريم قبل أن أعرض لنصوص المؤرخين أن أنيره في ما يخصّ مصير هؤلاء الثلاثة:
فبالنسبة لعثمان سعدي فهو أمازيغي جزائري انخرط في إيديولوجيا القومية العربية وأنشأ جمعية للدفاع عن العربية بالجزائر، وهو هدف نبيل لم يعمل من أجله، حيث قاده غلوه القومي إلى السقوط في صراع مرير ضدّ الأمازيغية والأمازيغ، إذ صوّر له العمى الإيديولوجي بأن لا نهضة للعربية إلا بموت الأمازيغية وتحقيق التعريب المطلق، لكن حظه العاثر شاء أن تشرع الدولة الجزائرية في الاعتراف بمكونها الأمازيغي خلال سنوات التسعينيات، فبدأ في شنّ هجومات عنيفة ضدّ الأمازيغية انتهت إلى إنشاء الدولة الجزائرية ل"المحافظة السامية للأمازيغية"، فاشتدّ لغطه وقوي شغبه إلى حدّ إخراج كل من يعمل في حقل الأمازيغية من دائرة الوطنية وتصنيفه ضمن القوى الاستعمارية الساعية إلى تقسيم البلاد، فكان أن دخلت الجزائر في العشرية الدموية ليس بسبب الأمازيغ أو الأمازيغية بل بسبب الإسلام السياسي الذي صنعه وغذاه الاستبداد العسكري، وعندما شرع الجزائريون في المصالحة الوطنية أعلنت الدولة الجزائرية انطلاق النقاش حول الاعتراف الدستوري بالأمازيغية فخرج سعدي عن طور التعقل وبلغ غاية الخبل عندما قام سنة 2002 بالاتصال بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يرجوه التدخل لدى الرئيس الجزائري للحيلولة دون دسترة الأمازيغية، وهو خطأ قاتل يمسّ بسيادة الدولة الجزائرية، ولذلك خاب ظنه عندما تم إقرارها لغة وطنية فنادى بالويل والثبور وعظائم الأمور وحذر من تقسيم الجزائر التي كانت ما تزال تئن تحت خناجر الغدر الإسلاموي. ثم ما لبث أن كانت صدمته كبيرة مرة أخرى عندما تقرر سنة 2009 إقامة تمثال عظيم للملكة الأمازيغية "ديهيا" (التي سمّاها العرب "الكاهنة")، اعترافا بها بطلة وطنية محرّرة ومدافعة عن أرض الجزائر ضدّ الغزاة الأمويين، ما جعل صاحبنا يصدر تصريحا هذيانيا للصحافة قال فيه إنّ " تمثال الكاهنة التذكاري في باغاي ب"خنشلة" سُوي في إسرائيل بطلب من "البربريست"، وبقي ستة أشهر بروما ينتظر من الدولة الجزائرية إذن الدخول"، وقد وقع في شر أفعاله عندما طالب المواطنون الدولة الجزائرية بالتحقيق في الموضوع ليتبين بأنّ التمثال مصنوع بالجزائر العاصمة وبالمال العام، وقد أشرف عليه الأستاذ بوخالفة علي، مدرس بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة وتحت الرعاية السامية للسيد والي ولاية "خنشلة" آنذاك؛ وتحت إشراف مديرية الثقافة الممثلة في الأستاذ غندور عبد القادر، بل تمّ تنصيب التمثال بحضور رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.
وقد استمر السيد عثمان سعدي على نهجه يعيش على تكرار نفس عباراته القديمة حول "عروبة الجزائر" ومعتمدا نظرية المؤامرة، إلى أن كانت صدمته الكبرى بإقرار اللغة الأمازيغية لغة رسمية في دستور الجزائر سنة 2014.
ولعل حُب الأستاذ حميش وإعجابه بعثمان سعدي يعود إلى سنوات طويلة خلت، فما زلت أذكر أنه في سنة 1996 التقيت بالإعلامي الراحل عبد الكبير العلوي الاسماعيلي الذي كان يصدر جريدة "الزمن" آنذاك، فسألته عن نشر جريدته لمقال غريب للسيد عثمان سعدي عن "الأصول العربية للبربر والبربرية" واتهام الحركات الأمازيغية بالعمالة للاستعمار وغير ذلك من المواقف المضطربة التي لا ترسو على أساس، وقلت له إن المقال نُشر في جريدة "الشرق الأوسط" ثم أعيد نشره في جريدة "أنوال" اليسارية المغربية، وأن نشر جريدة "الزمن" له أمر مستغرب مع ما فيه من تحامل مجاني وبُعد عن الموضوعية العلمية، فقال لي: " لا علم لي بأن المقال نُشر عدة مرات، وإنما طرق بابي في وقت متأخر من الليل جاري السيد بنسالم حميش وأمدّني به مطالبا بنشره، وإذا كان لديك تعقيب عليه فمرحبا"، وهكذا كان، فقد كتبتُ مقالا مطولا بهوامش ومراجع نشرته جريدة "الزمن" في العددين 53 و54 في شهر أبريل من سنة 1996، تحت عنوان "الأمازيغية ، العروبة والاستعمار : عن شطحات عثمان سعدي".
أما علي فهمي خشيم فكان مُنظر القذافي في "عروبة البربر"، ألف كتاب "سفر العرب الأمازيغ" الذي حاول فيه بشيء غير قليل من المبالغة المثيرة إعادة مفردات اللغة الأمازيغية إلى العربية، هو الذي ألهم الزعيم الليبي الكثير من الأفكار العدوانية التي أدّت بالحاكم المجنون إلى إلقاء خطاب دعا فيه علانية إلى "إبادة البربر" في حالة ما إذا استمروا في المطالبة بحقوقهم، وقد تزايدت تحركات "خشيم" في اتجاه المغرب والجزائر بعد أن لاحظ المعسكر القومي تصاعد النقاش حول الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية، وما زلت أذكر النقاش الفكري الذي أجريناه معه بمقر "المجلس القومي للثقافة العربية" التابع للقذافي، وهو نقاش صدر ضمن منشورات المجلس الذي كان مقره بحي "أكدال" بالرباط، والذي كان يؤدي مبالغ مالية لكل مغربي كتب عن اللغة العربية أو التعريب أو عن "المؤامرة الأمازيغية" وخطرها على وحدة البلاد.
ومن الطرائف التي نذكرها أنّ قناة "الجزيرة" قبل أن ينكشف مشروعها الإخواني كانت سباقة إلى بث لقاء متلفز حول القضية الأمازيغية في التسعينيات عند بداية انطلاقها، ودُعي للتحاور الدكتور خشيم والمحامي المغربي الرئيس المؤسس لأكبر منظمة أمازيغية بالمغرب، وهو حسن إذ بلقاسم، وفي مستهل الحلقة شرع الأستاذ إذ بلقاسم يتكلم بالأمازيغية فنظر إليه خشيم مشدوها ثم طالب مُقدم البرنامج بإيقافه لأنه لا يفهم ما يقول، فكان ردّ الأستاذ إذ بلقاسم: بما أن الأمازيغية "عربية قديمة" فلماذا لا نتحاور بها ونتفاهم ؟.
كانت نتيجة مساعي الراحل خشيم بالمغرب أن ألقى الملك محمد السادس خطاب "أجدير" التاريخي في 17 أكتوبر 2001، الذي أنصف فيه الأمازيغية بوصفها "مسؤولية وطنية لجميع المغاربة"، وقد اختلطت أوراق خشيم وزعيمه القذافي عند إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ثمّ إدراج اللغة الأمازيغية في المدرسة سنة 2003، ثم في الإعلام سنة 2006، ثم ترسميها في الدستور سنة 2011، وكانت قاصمة الظهر بالنسبة له سقوط نظام القذافي ونهايته المأساوية في نفس السنة.
وقد كان من سوء حظه وهو الذي آمن حتى النخاع ب"دولة العرب الواحدة" وب"وطن عربي من المحيط إلى الخليج" أن شهد بأم عينه قبل وفاته وطنه ليبيا وهو يتعرض للتخريب والتمزيق على يد مليشيات السلفيين والإخوان مدعومين من قطر وتركيا، وعصابات العسكري الفاشل "حفتر" مدعوما من مصر والإمارات، وهو الذي ما فتئ يقول إن الأمازيغية تشكل خطرا على وحدة البلاد. أما الأمازيغ ففي ظل الفتنة المستعرة، عمدوا إلى حماية مناطقهم ب"جبل نفوسة" و"زوارة"، وأدرجوا لغتهم الأمازيغية في التعليم، وكما أحدثوا وسائل إعلامهم بلغتهم بعد طول حصار واضطهاد، في انتظار قيام الدولة الليبية الموحدة، التي يأملون أن يعترف بهم دستورها ومؤسساتها.
أما محمد العرباوي فهو قومي عربي تونسي ألف كتابا عنوانه "البربر عرب قدامى"، وقامت هيئات القومية العربية بالدعاية له بأموال كثيرة، لكنه بدوره سرعان ما صُدم عندما برز الصوت الأمازيغي قويا لدى الشباب التونسي، كما أنّ تطور البحث المختبري أدى إلى إعلان نتائج تحليل تسلسل الحمض النووي للتوانسة، والتي أثبتت بأن 88 في المائة من جينات سكان تونس لا علاقة لها بجزيرة العرب مطلقا، كما أن نسبة جينات الانتماء إلى روما وشمال المتوسط أكثر من نسبة الانتماء إلى الشرق الذي لم يتعدّ 4 في المائة. والغريب أننا لم نسمع صوت السيد العرباوي آنذاك، حتى يشرح لنا علميا كيف يمكن لسكان قدموا من الشرق ألا يحمل حمضهم النووي من جينات جزيرة العرب إلا النزر اليسير جدا أو المنعدم أحيانا.
سوف لن أتحدث عن طيب الذكر أستاذنا الجليل محمد عابد الجابري، والذي كان بدوره منخرطا في نفس التوجه المتشدد للقومية العربية، والذي دعا في كتابه "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب" الصادر سنة 1973 إلى "إماتة اللهجات البربرية " لكي يتحقق تعميم التعريب، والسبب في استثنائي له أن له فضل تأليف كتب أخرى في تخصصه الفلسفي الأكاديمي كان لها إشعاع ودور كبيران في فهم إشكالات التراث الفكري الإسلامي وأسباب التخلف الفكري والاجتماعي الذي ما زلنا نتخبط فيه. فإذا لم يخلف القوميون الآخرون إلا رمادا من الكتب الميتة في مهدها، فإن للأمازيغي ابن فكيك ما يَخلد به ذكره لقرون طويلة. يجمع بين هؤلاء الغلاة الثلاثة أنهم لم يقبلوا واقع بلدانهم ولا تطوراتها الديمقراطية، وحاولوا تكريس سياسات الإقصاء والقهر وشرعنتها باعتبارها سياسة القبضة الحديدية للدولة المركزية ضدّ التنوع الثقافي واللغوي. فاختاروا في تبرير ذلك الاجتهاد وأي اجتهاد بإرجاع الأمازيغية من حيث معجمها وبناها الصرفية والنحوية إلى العربية بنوع من التعميم أوقعهم في أخطاء فادحة، وقد لاحظ ذلك أحد الكتاب المشارقة من فلسطين وهو عز الدين المناصرة في كتابه "المسألة الأمازيغية في المغرب والجزائر" حين كتب يقول عن كتابات خشيم: "لكن علي فهمي خشيم بذل جهدا زائدا عن حدّه في دحض أفكار محمد شفيق"، كما انتقد محاولات ما سماه ب"التجسير" اللغوي " أي مدّ الجسور بشكل متعسف بين كلمات أمازيغية وأصول عربية متوهّمة حيث يقول:"يبقى أن نشير إلى أهمية "سفر العرب الأمازيغ" من زاوية جهد المقارنة اللغوية التي تترك الاحتمالات مفتوحة (... ) مع تحفظنا أحيانا على بعض أساليب "التجسير اللغوي" خلال عملية المقارنة" .
ومن الطرائف المسلية أن يعلم القارئ بأن السيد "خشيم" كان يعتبر أن كلمة "أغروم" التي تعني الخبز إنما اشتقت من "كرم"Garam وهي كلمة يمنية قديمة تعني الغطاء الذي يوضع على النار، وبما أن الخبز يطبخ فوق النار ف"أغروم" من أصل "كرم"، واعتبر أيضا أن "الساروت" التي هي من "تاساروت" التي نفتح بها الأبواب ونغلقها إنما اشتقت من الجذر العربي "سرر" أي أخفى الشيء (كذا)، ومن فتوحاته العلمية أيضا أن "تاجرومت" أي النحو هي من الجذر العربي "جرم" الذي يعني "نزع وسلب". بل امتد الشغب العروبي لدى السيد خشيم حتى إلى البرتغال التي اعتبرها كلمة عربية من "البرتقال"، ما أثار تحفظ عز الدين المناصرة نفسه . أما كلمة "آيت" التي تبدأ بها أسماء العائلات الأمازيغية فأصلها عند خشيم من "عيلة" و "عائلة". وهكذا....
ومن الأخطاء المعرفية الفادحة التي وقع فيها أستاذنا سي حميش بسبب ثقته العمياء في المقدُرات "العلمية" لمنظري القومية العربية، وبسبب عدم إلمامه بجذر الكلمات الأمازيغية وإصراره رغم ذلك على الإفتاء فيها، أنه بدأ يستشهد بآراء هؤلاء في المعجم الأمازيغي على أنها حقائق علمية، وقد ذكرني بعدد من النكات والطرائف التي يُتندّر بها في المجالس والتي تُروى عن بعض فقهاء سوس الذين انخرطوا من باب المزاح في هذا اللغو كقول بعضهم: "ويقولون أغروم وهو من الغرام لشدة حُبهم له" أو قول بعضهم "ويقولون إغرضم أي العقرب، وهي كلمة مركبة من "غار" و"دم" لأنها تسكن الغيران وتسيل الدماء". ويمكننا أن نضيف إليها ما تبناه سي حميش من أنّ "تامطوطت" هي من "الطمث" ليكتمل المشهد الهزلي.
ومن الطرائف التي نذكرها من ماضينا الدراسي ما كان معلمونا يقولونه عن جهل تام باللغة الأمازيغية وجذر الكلمات وأصولها، مثل أن مراكش تعني "مُرّ - كش" بالعربية، وكمثل أن إسم مدينة أسفي آتية من وقوف عقبة بن نافع القائد العسكري الأموي إزاء البحر المحيط وقوله "وا أسفي لو كان هذا البحر برا لغزوته" ما يجعل الضحك أقرب إلى البكاء كما قال المتنبي: "وكم ذا بمصرَ من المضحكات ولكنه ضحكٌ كالبُكا".
لا شك أن التفاعل العميق بين العربية والأمازيغية لقرون طويلة قد أدّى إلى مرور نسبة هامة من المعجم العربي إلى المعجم الأمازيغي، وهو مسلسل تعريب كان بطيئا وتزايدت وتيرته مع نشأة دولة التعريب الحديثة، ويعرف المختصون في اللسانيات الأمازيغية اليوم الكلمات التي تصنف ضمن الدخيل L'empreint كما يعرفون الكلمات الأصلية، وما لا يصحّ هو اعتبار كل المعجم الأمازيغي عربيا كما زعموا، أو أنّ "الأمازيغية عربية قديمة"، وقد أدى بهم ذلك إلى ارتكاب الحماقات التي وقع في فخها أستاذنا معرضا نفسه لسخرية العادي والبادي.
نفس الشيء يقال عن حرف " تيفيناغ" الذي اجتهد كثيرون وتعبوا في محاولة نسبته إلى أقوام أخرى غير أهله، وإلى خرائط أخرى غير موطنه بشمال إفريقيا، لكن مقارنة دقيقة بين أبجديات أخرى كالبونيقية والفينيقية واليونانية وأبجدية تيفيناغ ستظهر وجود تبادل وتفاعل تاريخي في بعض الحروف، لكنها لن تثبت أبدا بأن حرف "تيفيناغ" هو نفس الحروف الأجنبية، إذ يظهر هذا الحرف العريق فروقا جوهرية في مقابل الحرف الهيروغليفي أو الحرف اليوناني القديم أو الحرف الفينيقي أو البونيقي أو حرف "المسند" اليمني القديم. ويجد القارئ في النص التالي لأحد الباحثين المختصين التاريخ القديم وعلم الآثار ما يفسر ذلك:" ربطت الأسطغرافيا الأوروبية استعمال الكتابة بشمال إفريقيا القديم خلال الفترة البونية بتأثير فينيقي أو بوني، ومفاد تلك الأطروحة - التي كان لها حظ وافر من الرواج بين المختصين في علم الكتابات القديمة - أن سكان شمال إفريقيا قد انتظروا مجيء الفينيقيين لتدوين لغتهم واستعمال الكتابة، غير أن الاهتمام بالكتابة الليبية المنقوشة على اللوحات الصخرية وفر للمهتمين بالموضوع معطيات جديدة في ما يخص تأريخ أقدم آثار الكتابة الليبية، ومكن تدريجيا من إعادة طرح مسألة أصل الكتابة الليبية، وعلاقتها بالكتابتين الفينيقية والبونية" (الكتابتان البونية والليبية بشمال إفريقيا القديم إشكالية الأصل ومسألة التفاعل، عبد اللطيف الركيك، مجلة "أسيناك" العدد 11 ). ويستنتج الباحث في نفس الدراسة بعد استعراض العديد من الوثائق الأثرية القديمة: "وبناء على إفادات نقائش الرسوم والنقوش الصخرية بالصحراء، يمكننا الاستنتاج بأن الكتابة الليبية في الصحراء تتزامن مع أقدم آثار الكتابة الفينيقية في الشرق، والتي لا تتعدى القرن 13 ق م. وهذا يعني بأن الكتابة الليبية قديمة هي الأخرى إذا ما قورنت بالفينيقية، وتبعا لذاك لا يمكن أن تتفرع عنها خصوصا وأن أقدم آثار الكتابة الليبية قد عثر عليها بالصحراء، أي بمجال بعيد عن التأثير الفينيقي الذي اقتصر على السواحل ". ويضيف الباحث مدققا بأن اختلاف الحرف الليبي الأمازيغي عن غيره " لا يعني إلغاء إمكانيات التفاعل والتأثير عندما يتعلق الأمر بتلاقي نوعين من الكتابة في نفس المجال".
وعلى ذكر الخلط بين "تيفيناغ" و"فينقيا" فمن يجهل الأمازيغية لن يعلم بأن جذر "فنق" موجود في الأمازيغية ومنه "أفنيق" الذي يعني الصندوق، كما يعني الكتابة على الرمل. ولهذا دلالة عميقة.
حول أساطير "أصول البربر" تصحيحات وتدقيقات
اعتبر السيد حميش في تحايل لفظي ظاهر بأن ابن خلدون ينسب صنهاجة وكتامة إلى اليمن، والحقيقة أن ابن خلدون لم يعتبر صنهاجة وكتامة من "البربر" أصلا، حيث يقول في "كتاب العبر" : "وقال الكلبي إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية"، ويضيف قائلا:"وهذه جُماع مذاهب أهل التحقيق فيهم". لكنه بالمقابل اعتبر أن نسبة الأمازيغ إلى اليمن من أكاذيب النسابة العرب، بل وسماها "ترهات"، وأدعو القارئ إلى قراءة النص التالي من "كتاب العبر" الذي يعرض فيه ابن خلدون روايات النسابين العرب قبل أن يقوم بنقدها نقدا شديدا، يقول:"وأما إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا، فقال بعضهم إنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان ابنه (...) وقال آخرون البربر يمنيون (...) وقال المسعودي من غسان ومن غيرهم (...)، وقيل تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب، وقيل من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين (...) وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الأنساب: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت (...) وذكر آخرون ومنهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق (...) وقيل إن البربر من ولد حام بن نوح (...) وقال الصولي هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم".
أما ما نسبه ابن خلدون إلى مالك بن المرحل فهو أشبه ب"الجوطية" التي من حقك أن تختار منها ما تشاء يقول:" وقال مالك بن المرحل البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم "أفريقش" البربر لكثرة كلامهم".
وتبلغ السريالية غايتها في قول ابن خلدون نقلا عن النسابين العرب :" وقيل أيضا إن حام لما اسودّ لونه بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياءً واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة، وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب". يتضح من هذه الروايات الأسطورية أربعة أمور من الناحية العلمية:
عدم إلمام النسابين العرب بأصل كلمة "بربر" اليونانية اللاتينية Barbarausse و Barbari، مما جعلهم يختلقون منها أساطير شتى.
عدم انتباههم إلى أن نسبة الأمازيغ إلى غير موطنهم الجغرافي الأصلي الذي استقبلوا فيه كل الوافدين يطرح عليهم مشكلة إثبات فرضية "الأرض الخلاء". وهو أمر مستحيل لأن جميع المؤرخين الذين درسوا بعمق منطقة شمال إفريقيا شهدوا بكثافة ساكنتها عبر العصور.
أن أساطير الأصول تعتمد دائما وجود جدّ أكبر وشعب متجانس منحدر منه، وهو أمر لا يمكن تصديقه بحال، إذ تكذبه الدراسات الأركيولوجية والأنثروبولوجية والتحليلات الجينية المختبرية.
أن أساطير الأصول تكرس الانتماء إلى الشرق او إلى الشمال الأوروبي، حيث ساد الاعتقاد بأن الغرب تعمه البحار، يقول كابرييل كامب "لقد جرت العادة في النصوص القديمة على العودة بأصول سائر الأقوام إلى المشرق، نظرا للاعتقاد الذي كان لدى القدامى بأن لحضارتهم جذورا في شرق المعمور Œkoumène (أي الأرض المأهولة)".
لقد استعمل ابن خلدون كلمات التشكيك "زعموا" و"يزعمون" وهو يورد كل تلك الأخبار العجيبة، ولكنه كان واضحا تمام الوضوح عندما انبرى إلى نقد تلك الروايات بقوله:"وافريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال ما أكثر بربرتكم، فكيف يكون هو الذي نقلهم وليس بينه وبين أبرهة ذي المنار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك أن قالوا إنه الذي نقلهم" هكذا رصد ابن خلدون بذكائه تناقضات روايات النسابين العرب، وأضاف في نقد الفكرة التي تبناها الأستاذ حميش خطأ وهي الأصل اليمني للأمازيغ: "وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمُنكر من القول". ثم قال وهو يتحدث عن ماذغيس الملقب بالأبتر "وهو أبو الترهات في شأن أوليتهم". أي الذي روج الأكاذيب الباطلة في شأن نسب "البربر". كما كتب في نقد النسابين العرب ورواة الأخبار والمفسرين "ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات".
وحتى يكون واضحا في إنكار الأصل اليمني للأمازيغ أورد ما ذكر في كتاب "الجمهرة" لابن حزم حين قال: "ادعت طائفة من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم يُنسب إلى بر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه، وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا إسمه "بر" أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن".
ويضيف ابن خلدون في نقد ما كتبه ابن قتيبة:" وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب".
بعد هذا النقد تبنى ابن خلدون نسبتهم إلى كنعان، ما يجعل الرغبة في إيجاد نسب يمني خالص للأمازيغ مجرد تهويمات أسطورية.
والغريب أنه إذا كان ابن خلدون قد اهتدى إلى ما في أخبار النسّابين العرب من تلفيق قبل ستة قرون، فإن أستاذ الفلسفة ما زال في القرن الواحد والعشرين يعتمد تلك الأخبار على أنها حقائق، ورواة الأخبار الأسطورية على أنهم مراجع موثوقة.
لكن ابن خلدون سرعان ما يتدارك كل ما قاله في هذه الفقرة البليغة الدلالة، والتي أدعو القراء الأعزاء إلى تأملها: "لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الاسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يُعرف أولها ولا ما قبلها"، وهو كلام واضح يعني بلغة اليوم عراقة العنصر الأمازيغي على أرض شمال إفريقيا منذ "ما لا تعرف بدايته". فكيف لا أحد يعرف حقيقة هؤلاء السكان في ماضيهم البعيد، ثم يُنسبون بإطلاق إلى اليمن أو الكنعانيين أو غيرهم ؟
وقد انتبه ابن خلدون إلى السبب الذي جعل بعض الأمازيغ يصطنعون لهم أنسابا من الشرق وإن لم تكن صحيحة قائلا: "ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك" وهذا كلام واضح يفسر حتى تشدّد بعض الأمازيغ المصابين اليوم بلوثة القومية العربية أو الإسلام السياسي، بل ويفسر جذور اصطناع الأمازيغ لشجرات النسب إلى آل البيت بعد أن صار المرينيون الأمازيغ يُخصصون رواتب وأعطيات لمن اعتبروا "شرفاء" ويمتلكون تلك الشجرات الوهمية.
أما ما نسبه السيد حميش لكابرييل كامب Gabriel Camps فهو أيضا لا يخلو من تدليس، ذلك أن كامب في كتابه Les berbères mémoire et identité قد عمد إلى تفنيد الكثير من الأساطير التي تنسب الأمازيغ إلى شعوب أخرى بإطلاق، إذ أن المعروف عن كامب هو تشكيكه في النظريات التي تكثر من الحديث عن الهجرات ودعوته إلى دراسة الآثار المادية للإنسان القديم عوض ترويج الروايات المختلفة، ومن أهم أقواله في هذا الباب قوله "وماذا لو أن البربر لم يأتوا من أي مكان ؟". وحتى عندما يتحدث عن شواهد تثبت علاقة سكان شمال إفريقيا بهجرات سابقة من الشرق، فهو لا يقرأ تلك الشواهد على أنها أدلة على أصل مطلق كما يفعل التعريبيون. بل هي علامات على وجود تأثير من هجرات قديمة، هذه الهجرات التي كانت من جهات مختلفة.
فحسب Gilles Boetsch و Jean Noel Ferrie في « Le paradigme berbère » الشعوب التي ذكرها المؤرخون على أن الأمازيغ انحدروا منها كثيرة جدا ومنها السريان واليهود والعرب والكوشيون والأريان والفينيقيون والكنعانيون والإيبيريون والوندال والإغريق واللاتين والزنوج دون ذكر السلتيين والغاليين وشعوب شمال أوروبا، لكن اللغز المحيّر الذي يضع كل هذه الفرضيات موضع شك هو كيف تجتمع كل هذه الجنسيات في الأمازيغ دون أن يكون ثمة خيط رفيع رابط يجعل منهم "أمازيغ" بالذات وليسوا غيرهم، وكيف لم تسلب منهم هذه الأقوام كلها خصوصيتهم اللغوية التي لا تنتمي إلى أي من الشعوب المذكورة، فإذا كانت ثمة تشابهات في بعض المكونات المعجمية فإنه رغم ذلك لا يجوز مطلقا اعتبار أن هذه اللغة هي نفسها تلك، أو جاءت منها بإطلاق، لأن في ذلك مجازفة غير مقبولة في البحث العلمي. وهذه هي مشكلة المنظرين القوميين العرب ومنظري الحركات الاستعمارية، كمثل العبارة الخرقاء التي نقلها الأستاذ حميش عن أحد غلاة القومية العربية والتي قال فيها "إنه تكاد لا توجد كلمة بالبربرية إلاّ ولها وجود في لسان العرب". وهو كلام لا يقوله عاقل.
لقد تحدث القوميون العرب عن النسابين العرب وعن الأصل اليمني والكنعاني وهم لا يعلمون بأن مؤرخين قدامى قبل ظهور العرب على مسرح التاريخ نسبوا الأمازيغ إلى الأصل الفارسي والميدي والهندي والموسيني، ومنهم سالوست Sallust وبروكوبيوس Procopius وسترابون Strabon وبوليبوس Polypus وغيرهم، وذلك تمشيا مع العادة التي ذكرها كامب وأوردناها سابقا والتي تعتبر الغرب نهاية العالم التي يحدّها البحر وأن كل الحضارات قادمة من الشرق. وقد أورد ستيفان كزيل Stephane Gsell في كتابه الشهير "تاريخ شمال إفريقيا القديم" أخبار تلك الأساطير القديمة باعتباره من أكبر العارفين بذلك التاريخ، حتى أن جُل المؤرخين أخذوا عنه واعتمدوه.
إن من يستعرض النظريات الكثيرة جدا ل"أصول البربر" دون أن ينتبه إلى الخلاصات والتحفظات التي ينتهي إليها الباحثون، سيجد بأن الأمازيغ شعوب قادمة من كل صوب إلا من موطنهم الأصلي الذي عُرفوا به، وهذا يتعارض مع بديهية علمية كونية تقول إن لكل شعب تراب ووطن نشأ فيه، وطور خبراته في التعامل مع محيطه ومع مختلف الأجناس والشعوب المحيطة به أو المجموعات المهاجرة التي تفاعل وتعايش معها مباشرة.
ولقد كان من أفدح عواقب هذه النظرة التي تنسب سكان شمال إفريقيا إلى جهات بعيدة وخليط من الأقوام أن أصبح تاريخنا تاريخ أجانب، وحتى تتضح هذه الفكرة أذكر القراء بالمنهجية التي درسنا بها تاريخ المغرب في المدرسة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي التالية: "جاء الفينيقيون وجاء الرومان ثم جاء الوندال فالبيزنطيون، ثم جاء العرب،، ثم جاء الاستعمار الفرنسي ..."، بل أكثر من ذلك يروي الأستاذ محمد شفيق دائما عن أول كتاب مدرسي لتاريخ المغرب بعد الاستقلال كان مفتتحه درس يحمل عنوان "جزيرة العرب" ( !؟) متسائلا هل يجوز التأريخ لبلد ما انطلاقا من جغرافيا أخرى بعيدة عنه ؟
السؤال الذي نطرحه بعد هذه الجولة في الأصول الأسطورية المختلفة هو: ما هي الخلاصة العلمية التي يمكن أن نخرج بها من الأخبار المتضاربة للهجرات والتبادلات الحضارية التي درسها الدارسون وتحدث عنها المؤرخون ؟
في الواقع لن نجد أفضل من هذه الفقرات التي صيغت بتحفظ علمي رصين، بعيد عن الرغبة في إشباع الجموح الإيديولوجي لهذا الطرف أو ذلك، كما أنها فقرات تستجيب بأمانة للقرائن العلمية المختلفة التي يسوقها الدارسون المعاصرون، ويؤكدها التحليل المختبري الدقيق.
يقدم النص التالي نموذجا للنظرة العلمية المتوازنة والمحايدة في هذا الموضوع: "إن الفينيقيين والرومان والعرب على الخصوص أغنوا كثيرا دون أدنى ريب القاعدة الحضارية لشعوب إفريقيا الشمالية، إلا أن هذا الإسهام لم يكن على ما يبدو كثيفا من الناحية السُلالية، إذ تم التهامه بسرعة حيث أن ظاهرة الاستيعاب تقع في هذا البلد على مستويين اثنين كلما سنحت لها فرصة التكون:
فعلى المستوى السُلالي يؤول مصير المهاجرين الذين يمثلون الأقلية إلى الذوبان في الكيان الأصلي السائد والمهيمن.
وعلى المستوى الحضاري فإن الأمر يختلف إذ تصل المساهمة الجديدة الأكثر فعالية والأشد طاقة إلى فرض نفسها دون أن تستطيع طمس المعالم القديمة، وإن أولائك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم كنعانيين وقرطاجيين أو رومانيين، كما هو الشأن بالنسبة للذين يعتبرون أنفسهم اليوم عربا، يساهمون جميعا في هذه البنية الليبية الإفريقية أو البربرية، التي كان التاريخ قد وجدها مكتملة التكوين في إفريقيا الشمالية الممتدة من خليج سرت إلى المحيط الأطلسي" (مصطفى أوعشي، أصل أهالي شمال إفريقيا، عن موسوعة مذكرات من التراث المغربي ص 103).
ويقول المؤرخ شارل أندري جوليان Charles André Julien في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية " des origines à 1930 Histoire de l'Afrique du nord، في هذا النص الذي هو أفضل جواب ربما على الأستاذ حميش والقوميين العرب:"لا شك أنه منذ أوائل عصور التاريخ استقرت ببلاد المغرب شعوب مختلفة شديد الاختلاف، وإذا نحن استثنينا الشعوب التي لم تمتزج بصفة عامة بالسكان الأصليين أو المندمجين، مثل الأوروبيين الذين استقروا منذ ما يقرب من قرن، أو اليهود الذين أتوا في دفعات متتالية منذ العصور القديمة، فإننا نلاحظ استيطان الساميين (الفينيقيين والعرب) والهنديين الأوروبيين (اللاتين والوندال واليونان) والأتراك والزنوج، غير أن هذه العناصر المختلفة، وإن هي امتزجت بالسكان المستقرين، فقد أتت في عدد ضئيل جدا بحيث تعذر عليها تغيير المقومات الجنسية بإفريقيا الشمالية، فالوندال كانوا ثمانين ألف، وكذلك العرب المستوطنون فعددهم لم يكن كبيرا جدا".
ويضيف جوليان بتعبير أوضح قائلا:"وفي الجملة لا نرى أن واحدا منها (أي من تلك الأجناس) أمكن أن يكون له مفعول قوي فيما يخصّ واقع البلاد الجنسي".
وينتهي الباحث المؤرخ إلى الخلاصة التالية:"هذه الملاحظات تدعونا إلى التفكير في أن السكان الذين يعمّرون بلاد البربر مع اعتبار بعض علميات التوليد هم أنفسهم الذين كانوا يعمرونها في أوائل عصور التاريخ".
ولا يعرف هذا المؤرخ الفرنسي الذي يرقد الآن في قبره، والذي كتب ما كتبه قبل 90 سنة من اليوم، بأن التحليلات الجينية والمختبرية للحمض النووي والشريط الوراثي قد أثبتت في القرن الواحد والعشرين، بما لا يدع مجالا للشك، وبدقة عجيبة، ما ذهب إليه. فقد أكدت نتائج الدراسة المنشورة في دورية "كرنت بايولوجي" في الخامس من نوفمبر2019 بأن الهجرات نحو شمال إفريقيا من مناطق أخرى مثل أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء لم تمحُ أبدا الآثار الجينية لشعوب شمال أفريقيا القديمة.
وجاء في كتاب تاريخ المغرب Histoire du Maroc لهنري تيراس Henri Terrasse:"إن البيربير Les berbères الذين كانوا يقيمون في المغرب في بداية العصور التاريخية والذين يشكلون اليوم أساس سكانه، يمثلون وحدة ثلاثية في السلالة واللغة والحضارة". وهو هنا لا ينفي الهجرات المختلفة بل يتحدث بعمق عن تلك التوليفة الحضارية التي تتحدث عنها النصوص أعلاه، والتي نتجت عن استيعاب السكان الأصليين للوافدين عليهم.
ويقول ج سيليرييه Jean Célérier الذي أتيح له أن يدرس بعمق البنيات السوسيو ثقافية للسكان الأمازيغ في علاقتها بالتأثيرات الجغرافية:"بوساطة اللغة والمؤسسات الاجتماعية يمثل العالم البيربيري Le monde berbère وحدة حقيقية وروحية لكن من الناحية المادية تنقطع هذه الوحدة ويحُل محلها الصراع القبلي واختلاف المصالح المادية".
وقد كتب شارل أندري جوليان في كتابه المشار إليه:" إن مؤرخ العصور القديمة يقيم بناءه الضعيف على أرض لا استقرار لها، مثله في ذلك كمثل منازل اليابان يهدّدها الزلزال دائما". فما يعتبره البعض حقائق ثابتة ونهائية هو مجرد فرضيات تهتز عند كل اكتشاف جديد، ولعل أهم ما نتعلمه من عصرنا هذا هو ميزة "اللايقين" التي بفضلها تطورت المعارف الإنسانية بشكل سريع، لتصبح أكثر دقة.
يتضح مما سلف ذكره أن مكمن العطب في الأطروحات التعميمية للأصل الشرقي أو الأوروبي للأمازيغ، إنما يكمن في طابعها المجازف الذي يرمي إلى جعل عموم السكان من أصل واحد في تجاهل تام للعناصر الأخرى المختلفة. لكنها في الحقيقة مشكلة الشعوب التي لم تكتب تاريخها، وكتبها بدلا عنها الآخرون وفق مصالحهم وأهدافهم، وهي ليست مشكلة الأمازيغ وحدهم بالتأكيد. لكن النظر الثاقب والنزيه سوف يلمس بلا شك بأن البقعة الجغرافية التي انتمى إليها الأمازيغ عبر تاريخهم قد سميت في المصادر العربية نفسها باسمهم "بلاد البربر"، كما سُمي موطن العرب ب"جزيرة العرب" وسمي موطن الشعب الصيني بالصين. وهذا معناه أن ثمة عملية تكثيف حضاري هام حدث عبر القرون الطويلة وانتهى إلى صناعة هذا الكيان الذي نسميه اليوم "أمازيغ"، كما أشارت النصوص أعلاه.
من جانب آخر فهذه الآراء التي تنسبنا إلى جميع الأقوام القديمة تجعلنا في النهاية "هبة للكونية"، فهل يفسر هذا سبب انفتاحنا على كل الثقافات واللغات والحضارات عبر العصور؟
إن ما أشار إليه الباحثون من وجود هجرات بشرية هو أمر علمي لا شك فيه، ولكنهم تحدثوا عن هجرات من مختلف الاتجاهات، كما أنهم لم يقولوا أبدا إنه لاوجود لبشر في شمال إفريقيا إلى أن جاء أناس من الشرق فعمّروها، والخلاصة التي يمكن أن ينتهي إليها من قام بمقارنة مختلف النظريات في هذا الموضوع، أن شمال إفريقيا كان مسرحا لهجرات سواء من شمال المتوسط وشبه الجزيرة الإيبيرية أو من الشرق الكنعاني واليمني أو من أواسط إفريقيا السوداء جنوب الصحراء، لكن هذه الهجرات لم تحدث في اتجاه "أرض خلاء" بل للتمازج مع تركيبة سكانية أصلية عريضة وكثيفة موجودة في هذه البقعة من الأرض، ولأن الكثافة السكانية الأصلية تنتهي دائما إلى تذويب القادمين، فإنّ هذا ما تثبته اليوم التحليلات المختبرية الجينية في عصرنا.
بين التمازج والعرق الخالص
ليس هناك من تضرّر من هذا النبش في الأصول البعيدة ونسبة تاريخنا إلى الأجانب أكثر من الأمازيغ والأمازيغية، فإذا كان التمازج بين البشر حقيقة تثبتها اليوم مختبرات البحث الجيني بشكل لا يبعث على الريبة والشك، إلا أن المشكل يظلّ في قراءة هذا التاريخ وتأويله، فهناك من يعتبر أن التمازج والتصاهر يعني تذويب الكل في بوتقة "العروبة الخالصة" وجعلهم عربا أقحاحا، فعندما كنا نقول قبل عقود إن للأمازيغية حقها في المؤسسات والمال العام لأننا مواطنون دافعو ضرائب، كان يقال لنا "كفى من العنصرية ! لا توجد أمازيغية عرقية خالصة لأننا "تمازجنا"، وكأن تعليم الأمازيغية في المدارس واستعمالها في التلفزيون والمحاكم كان يحتاج إلى إثبات أصل خالص، وعندما كنا نقول إنه لا يوجد "عرق خالص" وأنّ تمازُجنا لا يحرمنا من حقوقنا اللغوية والثقافية الأساسية، كانوا يجيبون "ما دمنا قد تمازجنا فالعربية تجمعنا"، وهكذا يعيدوننا إلى "الثقافة الخالصة"، حتى أضعنا الكثير من الوقت في نقاش عبثي مع من لم يكن تهمه الحقيقة العلمية أصلا، ما دام الهدف هو المراوغة وتبرير سياسة الاستيعاب.
وكان بعض الظرفاء من الرياضيين يقولون إن معادلة العروبة الخالصة هي على الشكل التالي: أ + ع = ع ، و ع + أ = ع، فالنتيجة هي نفسها. بينما الحقيقة أن أ + ع ينبغي أن تعطي تركيبا لهما معا، وينبغي لهذا التركيب أن يتمظهر في المقررات والبرامج الدراسية وفي وسائل الإعلام وأن يتربّى عليه المواطنون ويتشبعوا به باعتباره هويتهم الوطنية الجامعة.
وعلى ذكر العرقية لنتأمل هذا النص لنفهم مقدار التخبط الفكري الذي عكسته مثل هذه الأطروحات المحض إيديولوجية، وهو نص كتبه الراحل عبد الكريم غلاب بعنوان "عروبة هذا المغرب" ونشره في مجلة خليجية، :يقول النص "إن بلاد المغرب تنتمي إلى العروبة عن طريق السلالة، فقد هاجرت إلى المغرب قبل الميلاد مجموعات من القبائل العربية اليمنية والكنعانية والفينيقية، ومع هؤلاء كثير من أهل الشام، وإذا عدنا إلى النسابين العرب، نجد أن بعضهم يؤكد أن البربر من السلالة الحامية، وبعضهم يؤكد أنهم ساميون، وبعض الباحثين يؤكد أن أصلهم من اليمن، بينما يؤكد آخرون أنهم من فلسطين" (مجلة الدوحة فبراير 1977).
كُتب هذا النص ذو التوجه العرقي الواضح أيام كان النزوع القومي العربي في قمة غليانه وفورته الإيديولوجية، لكن السيد عبد الكريم غلاب صاحب النص نفسه كتب بعد 12 سنة فقط، عكس ما قاله في النص أعلاه، وهو يُعقب على كتاب أصدره الأستاذ محمد شفيق بعنوان "لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين" سنة 1989 مؤاخذا إياه على "نزعته العرقية" التي وجدها في قوله إن الأمازيغ هم أبناء شمال إفريقيا. حيث قال الراحل في عموده بجريدة "العلم بتاريخ الأربعاء 1 نونبر 1989:"أيجوز في عصرنا هذا أن نفكر عرقيا لنبني على أساس هذا التفكير وحدات لغوية عرقية بعد أن أزال الإسلام هذا التفكير من أذهاننا بالقرآن ؟". والسؤال الذي طرحناه آنذاك هو أين كان إسلام الأستاذ غلاب عندما كتب في مجلة الدولة الخليجية قبل 12 سنة بأن الأمازيغ عربٌ بالعرق والسلالة ؟ وأن المغاربة ينتمون جميعا إلى عرق واحد خالص هو العروبة ؟ فأن تعتبر المغاربة عربا بالعرق موقف وطني شريف، بينما أن تعتبر أنهم أبناء موطنهم شمال إفريقيا نزعة عرقية .
لكن من باب الإنصاف أن نشير إلى أن الراحل عبد الكريم غلاب قد صحّح كليا موقفه ذاك بالدعوة في كتابه "اللغة والفكر" إلى تدريس اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية، وأكد على ذلك في الندوة العلمية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب سنة 1992 بالرباط حول "الكتابة بالأمازيغية".
أما الحركة الأمازيغية فلم تهتم في الحقيقة بموضوع أصول السكان لأنها كانت من الذكاء بحيث تجنبت النقاش العرقي نحو خطاب أقوى وأكثر راهنية، وهو خطاب "الحقوق الثقافية واللغوية"، وأعطت الموضوع طابعا علميا بالتركيز على البحوث الجامعية والتآليف وعقد الندوات الفكرية والقيام بالحملات الإعلامية والاتصال المباشر بالمسؤولين وبالنخب الحزبية والترافع الحقوقي وطنيا ودوليا والدعوة إلى إعادة قراءة تاريخ المغرب بنظرة متوازنة، مبتعدة عن أساطير الأعراق والأصول الخالصة، ولهذا نجحت في جعل الأمازيغية مسؤولية وطنية وانتزاع الاعتراف السياسي والدستوري، دون أن تثير الشنآن أو تهدّد السلم الاجتماعي.
أنقر هنا للعودة إلى الجزء الأول
أنقر هنا لقراءة الجزء الثالث من المقال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.