في 17 يوليوز 1976 توفي محمد بن عرفة بفرنسا وهو في التسعين من عمره، حاملا معه أسرار حقبة سريعة، "حكم" فيها المغرب مدة سنتين، من 1953 إلى 1955، ولم يسمح بدفن جثمانه في فاس مع أسلافه إلا في الثمانينات. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تم فيها البحث من قبل الإقامة العامة الفرنسية عن سلطان آخر غير محمد بن يوسف؛ فقد سبق أن تم اختيار الشخص نفسه ليوضع مكان السلطان المغربي منذ 1951، لكن تلك المحاولة باءت بالفشل، بحسب ما أورده بنمصور، مؤرخ المملكة، في كتابه عن "الحسن الثاني". وقد التمس الرجل العفو متذرعا بأنه "لم يتصل بالمتآمرين وأن لا صحة لما يروج بشأن ترشيحه للجلوس على العرش، فرد عليه محمد الخامس: آ الشريف، أما وقد حلفت لي في المصحف، فقد آمنا بالله"، كما نقل بن منصور في كتابه. سليل السلاطين لم تمض سوى سنتين على تلك الواقعة التي هندسها الجنيرال ألفونس جوان، الذي كان مقيما عاما بالرباط من ماي 1947 إلى يوليوز 1951، حتى تمت المناداة من جديد على هذا الشيخ السبعيني الذي ينحدر هو أيضا من سلالة العلويين. فمحمد ابن عرفة ليس سوى ابن مولاي عرفة الذي كان أخ المولى الحسن الأول، وجده هو السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان. مع ذلك، فإن هذا السلطان الذي نصبته السلطات الفرنسية في عهد المقيم العام الجنيرال أوڭستان ڭيوم قَبِلَ مرة أخرى ليجلس على عرش ابن عمومته بمباركة من بعض الفقهاء مثل عبد الحي الكتاني وبوركبة، وغيرهما، بإعلانه "إماما للمسلمين" أولا ثم بعد ذلك "سلطانا". بن عرفة والڭلاوي تسميه بعض المصادر ب"السلطان الدمية"، وتربط اسمه بالباشا الڭلاوي، الرجل الثري والقوي في التاريخ المغربي، لارتباط تنصيبه بالخلاف الذي كان بين الڭلاوي والسلطان محمد بن يوسف، لكن عبد الصادق الڭلاوي، ابن الباشا الشهير، في كتابه "الأوبة" الذي خصصه لوالده، كتب أن الباشا الڭلاوي لم يتدخل في أي وقت من الأوقات لاختيار السلطان البديل، وأن الأمر انحصر فقط بين الكتاني والإقامة العامة، فقد "اكتفى منذ البداية بالمصادقة من غير أي اعتراض على قرارات الكتاني". وأضاف عبد الصادق أن "أول تدخل للڭلاوي كان يوم 10 غشت 1953 حين بعث بسيارة من مراكش إلى فاس لنقل المرشح للسلطنة رفقة زوجته لالة هنية وعبد صغير يبلس الخرق البالية". بين "النفحة" و"الكيف" يحكي عبد الصادق الڭلاوي في كتابه "الأوبة"، وهو الذي عاصر هذه الأحداث، قائلا: "حين علمت بمجيء ابن عرفة إلينا وأهدافه ما كان رد فعلي ليحترم الحدث، فأنا لم أتصور الرجل ضعيف الشخصية في مرتبة الملوكية، فقد استعدته في ذاكرتي جالسا على نمرقة الدوم (الفرتالة) في مدخل بيته الصغير وفي يده منديل أحمر كبير وعلبة نشوق"، يعني "النفحة". ثم زاد في هذا الكتاب الذي خصصه عن والده الباشا الڭلاوي: "تذكرت كيف كنت أحيي بن عرفة عند مروري به، كما تعودنا أن نقوم بذلك أمام الشرفاء العجزة الذين لا ننتظر منهم غير الدعاء، ولم أخف دهشتي من المصير الذي اختير له اليوم". صاحب "الأوبة" أكد أنه يعرف ابن عرفة بشكل جيد رغم فارق العمر، وكتب قائلا: "كنت أعرف جيدا ابن عرفة الذي كان يعيش بفاس في عزلة عن العالم، فخلال الزيارات المتكررة التي كنت أقوم بها لعائلة أمي، وجدته مرارا كما وجدت ابنه مولاي احمد جالسا في نمرقة في عتبة دارهم المتواضعة". وإن كان الڭلاوي الابن قد ذكر أن بن عرفة كان يستهلك النفحة وهو يجلس فوق الفرتالة، فقد كان هو نفسه "السلطان" الذي وقع ظهير منع استعمال "الكيف"، كما نقرأ في الجريدة الرسمية عدد 2167 بتاريخ 7 ماي 1954. هذا الظهير الشريف الذي تم تمريره في عهد ابن عرفة ينص على منع "حرث القنب الهندي أو قنب الكيف وكذا حصده وصناعته وتغيير حالته واستخراج خلاصته وتهيئته ومسكه وعرضه وتوزيعه وسمسرته واشترائه وبيعه ونقله واستيراده وإصداره واستهلاكه على أي وجه كان..."، تحت طائلة عقوبات تم سنها لأول مرة. الظهير الشريف لمنع استهلاك وزرع الكيف في المغرب، بحسب مصادر تاريخية، جاء للرد على حركة اجتماعية كانت سائدة في بعض المدن المغربية تدعو إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية، ومن بينها ما يتم بيعه في "الصاكات" من تبغ وغيره. سنتان من العنف لم يهنأ ابن عرفة فوق "عرش العلويين"، فقد كانت تلك السنتان من أكثر سنوات الحكم اضطرابا في المغرب، قال عنها مصطفى قاديري، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، في تصريح لهسبريس، إن "فترة بن عرفة عرفت اضطرابات كثيرة بالمغرب، بحيث تعرض لمحاولتي اغتيال، واحدة في مسجد بريمة بمراكش والأخرى في المشور". وزاد أن "في تلك الحقبة القصيرة التي تم تنصيبه عرفت بعض المدن بروز أحداث المقاومة، ولا أدلَّ على ذلك كون 1 أكتوبر 1955 تاريخ ذهاب بن عرفة إلى طنجة هو نفسه تاريخ بداية عمليات جيش التحرير بأكنول تيزي أوسلي وإموزار". ابن عرفة يرفض النزول من العرش رغم العنف الذي استشرى في المغرب في الفترة التي تم تنصيبه خلالها من قبل الفرنسيين مكان السلطان محمد بن يوسف بعد نفيه، ورغم محاولات الاغتيال، إلا أن بن عرفة تمسك بالعرش، ولم يكن إنزاله منه سوى بالقوة. يحكي قادري لهسبريس أن "ابن عرفة في مراسلات بينه وبين الرئيس الفرنسي وقتها رينيه كوتي أخبره بأن الله هو الذي أعطاه الحكم ومكنه من الملك، وهو الذي يجب أن ينزعه منه وليس شخصا آخر". وأورد الجامعي المغربي أن "الرئيس الفرنسي كذلك استعمل الخطاب الديني نفسه بحسب ما جاء في كتاب لرولان بارث، وقال لابن عرفة إن مشيئة الله الآن تريد أن تنزع منك الملك والحكم". وزاد أنه "مع ذلك، فابن عرفة لم يستسلم ورفض الخروج من القصر، ولم يخرجه منه سوى أوفقير بالقوة ورافقه حتى المطار ليرسله نحو طنجة مؤقتا، ثم نحو فرنسا بعد ذلك". ولد محمد بن عرفة سنة 1886 بفاس، وعاش منفيا بطنجة عندما كانت تحت الحكم الدولي من فاتح أكتوبر 1955 إلى 29 أكتوبر 1956، حيث انتقل للعيش في مدينة نيس الفرنسية إلى أن توفي في 17 يوليوز 1976، وبقي رفاته عشر سنوات في فرنسا إلى أن تمت إعادة دفنه سنة 1986 في إحدى مقابر مدينة فاس.