من تداعيات جائحة "كورونا" ومما تضرر منه الناس بسبب هذا الوباء إغلاق المساجد منذ 16 مارس 2020، بمقتضى فتوى "المجلس العلمي الأعلى" الصادرة بتاريخ: 21 رجب 1441. وهي الفتوى التي طمأنت المغاربة بأن هذا الإجراء لن يستمر، وأن الحياة ستعود إلى نصابها لإقامة الصلاة في المساجد. والتخريج الفقهي، وهو سد ذريعة الضرر الصحي المتوقع من فتح المساجد. والتزم المغاربة بمقتضاها بأداء الصلوات في البيوت حتى مع تمديد الحجر لمرتين. ولما تغيرت الحالة الوبائية في العالم وفي بلدنا، اتخذت كل الدول قرار التخفيف من الحجر الصحي، مع أخذ التدابير الكافية والإجراءات المناسبة لإعادة الحياة إلى طبيعيتها بشكل تدريجي، ومنها تنظيم إقامة شعيرة الصلاة في المساجد، ومن ذلك أيضا فتح المعامل والمقاهي والحمامات وقاعات الرياضة، وغيرها من المرافق والأماكن العامة. لكن ومع كامل أسف، فوجئ المغاربة بقرار استثناء المساجد من التخفيف من الحجر. ولم تأخذ السلطات المعنية بعين الاعتبار المعطيات المتجددة وتطورات الحالة الوبائية بالبلد، ولم يستفيدوا من الطرق والوسائل التي فُتحت بها المساجد في مختلف دول العالم. وكان من الأولى أن تفكر الجهات المعنية في كل التدابير الوقائية لإعادة فتح المساجد كما اتخذت التدابير والإجراءات الوقائية لفتح المقاهي والمصانع والأسواق الأسبوعية التي تعرف الاكتظاظ أكثر من المسجد. - وإن قيل إن المرافق التي سمح لها باستئناف أنشطتها بتدرج، كان لتوقيفها أضرار اقتصادية لا يمكن للدولة ولا للمواطنين تحملها، أما فتح المساجد فليس له فوائد اقتصادية. - قلت: يمكن للمسجد أن يؤدي دوره الريادي مرة أخرى في حياة المسلمين، وتربية أفراد المجتمع روحيا ونفسيا وأخلاقيا واجتماعيا؛ إذا عادت للمسجد أهميته وهيبته ومكانته في قلوب الناس. ومن جهة أخرى، أقول: إن للمسجد عبر مختلف مراحل الحضارة الإسلامية دور بارز على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، ومن مساهماته الاقتصادية، أذكر ما يلي: 1- المسجد مصدر الوعظ والإرشاد، والتربية على حسن الخلق. 2- دور المسجد في تحسيس أفراد المجتمع بخطورة الآفات الاجتماعية المختلفة، كالخمر والمخدرات بصفة عامة، وهذا له أثر اقتصادي، وإن كان غير مباشر. 3- يمكن للمسجد أن تكون به خلية لإرشاد التجار إلى فقه المعاملات الإسلامية في المال والتجارة والاقتصاد بشكل عام. 4- يسهم المسجد عن طريق التربية في إصلاح السوق الذي كثر فيه التعامل بالربا، والغش، والتدليس، والغرر، ومن أدواره كذلك توعية التجار بأهمية الجوانب الاقتصادية في حياة الأمة فتتحسن العلاقات التجارية بين الناس وتقل آفات السوق الخطيرة التي كانت سببا في تدمير الأفراد والمجتمعات والدول. 5- للمسجد دور فعّال في محاربة الفساد والرشوة المنتشرة في مختلف الإدارات مع نماذج شاذة ممن تقلدوا المناصب وضيعوا حقوق المواطنين. وأؤكد مرة أخرى أن هذه المساهمات التربوية والاقتصادية –وفي كل المجالات- لا تتأتى إلا إذا عاد للمسجد دوره الحقيقي، وسمحت له المؤسسات الرسمية بالقيام بهذه الأدوار، كما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم. فلماذا لا نفكر في الطرق والوسائل للاحترازات الصحية اللازمة لإعادة فتح المساجد، وهنا أقترح مجموعة من التدابير، والبدائل عن استمرار الإغلاق غير المبرر لبيوت الله، ومنها: - أخذ الاحتياطات الصحية الضرورية، بما يضمن سلامة هؤلاء المصلين وإقامة الشعيرة بشكل مستمر. - إعادة الفتح التدريجي للمساجد، مع ظروف حال كل منطقة، وكل إقليم. - فتح المساجد التي يكون فيها عدد المصلين محدودا، ومنها: * مساجد الأحياء الصغيرة، والبوادي والقرى. * مساجد الإدارات والمعامل والأماكن العمومية. * قاعات الصلاة في محطات استراحة المسافرين. وغيرها. - توجيه أئمة المساجد بحثّ المصلين على ضرورة اتخاذ الإجراءات الاحترازية كإحضار سجادة خاصة، عدم اصطحاب الأطفال داخل المسجد، وعدم التزاحم عند دخول المساجد أو الخروج منها، والوضوء في المنزل. - الموازنة بين مصلحة حفظ صحة وسلامة رواد المساجد ومصلحة الأمن الروحي الجماعي. - التوعية الإعلامية اللازمة لتطبيق هذه الإجراءات. خاتمة: إن المسجد في الواقع هو امتداد طبيعي لبيت الأسرة، وهو أساس المؤسسات التربوية والاجتماعية، وكل مؤسسات الدولة، ومن آداب الإسلام وأخلاقه؛ إشاعة روح الأخوة والمحبة والمساواة بين أفراد المجتمع، وذلك لا يتسنى غالبا إلا في المسجد حيث يتلاق المسلمون يوميا ومرات متكررة؛ يعبدون الله تعالى، ويتزاورون ويتناصحون، ويقفون صفوفا متراصة بين يدي الله عز وجل، يصلون ويذكرون الله تعالى ويتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، فتنزل السكينة وتجتمع القلوب، ويتعلمون معاني المحبة والأخوة والإيثار. لكن تقلص دور المسجد شيئا فشيئا، وغُيبت وظائفه وأدواره اليوم، وقد ظهر الأثر السلبي واضحا على مستوى الفرد والجماعة وفي كل مجالات الحياة، وللأسف لازالت الجهود حثيثة للتضييق على المساجد وشل وظيفتها وتحجيم دورها. فليس هناك أي مسوغ للاستمرار في غلق المساجد إلى أجل غير مسمى، كما لا أدعي فتحها كلُّها دون تريث و بُعد نظر، ولكن أدعو إعادة فتح المسجد بشكل تدريجي؛ لما له من دور فعّال في تحقيق الأمن الروحي الجماعي، وتوفير الطمأنينة الإيمانية للمصلين. والحمد لله رب العالمين.