حرص خبراء سياسيون واقتصاديون أكاديميون على تحليل وقع أزمة كورونا في المغرب، متطرقين إلى الظرفية الاقتصادية والسياسية بين مشروع قانون المالية المعدل لسنة 2020 وزمن مشروع قانون المالية لسنة 2021، في ندوة عن بُعد من تنظيم مختبر الدراسات والأبحاث في القانون العام والعلوم السياسية بمعية مختبر المالية والمقاولاتية والتنمية، التابعين لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في سلا، بشراكة إعلامية مع جريدة هسبريس الإلكترونية. وصيغت خلاصات الموعد البحثي من مداخلات الدكتور سعيد التونسي، أستاذ باحث بكلية الحقوق أكدال في الرباط، والدكتور المنتصر السويني الباحث في المالية العامة والعلوم السياسية، والدكتور كريم محمد بصفته أستاذا باحثا بكلية الحقوق في سلا، والدكتورة جميلة دليمي الأستاذة الباحثة في المرفق الجامعي ذاته، التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، بينما أدار النقاش الدكتور خالد حمص، الخبير الاقتصادي والمالي عميد كلية سلا للعلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. تشخيص واقعي يعتبر الدكتور منتصر السويني أن تدبير مرحلة الزمن المالي أصعب من تدبير مرحلة الزمن السياسي، لأنها تفرض تأدية فاتورة الاختيارات المرسخة في مرحلة تدبير الزمن السياسي وتقتضي البحث عن تعاقد اجتماعي صعب الترسيخ في مرحلة الأزمات الصعبة، وبالتالي فإن الحكم على كيفية تدبير المغرب لأزمة "كوفيد-19" سيبقى رهينا بالنجاح في التدبير المالي والاقتصادي والاجتماعي، ويرى أيضا أن العودة إلى الزمن المالي العادي أو المعدل يفرض كذلك تهييء المراحل الأربع المرتبطة بالزمن المالي، المرحلة المرتبطة بالزمن المالي العادي وتخص وضع إستراتيجية ميزانياتية متناسقة في زمن متعدد السنوات، أخذا بعين الاعتبار مالية السنة أو مالية السنة المعدلة، وهو ما تم إنجازه من خلال صدور منشور رئيس الحكومة، وزمن تحديد منهجية ميزاناتية تصورية في إطار الحوار والعمل الجماعي المؤسساتي، وزمن تجاوز الخلافات من خلال التحكيم السياسي، وفي الأخير زمن وضع اللمسات الأخيرة لمشروع القانون المالي. المعطى الثاني يبقى مرتبطا، وفق مقاربة الباحث في المالية العامة والعلوم السياسية، بالنجاح في الاستفادة من الانفتاح على الخارج لأنه مبدأ أساسي في اقتصاديات السوق الحديثة، وبالتالي فإن الأنظمة المالية للدول لا تشتغل في إطار مغلق. أما المعطى الثالث فيتمثل في قدرة الحكومة الحالية على تحديث إطارها المرتبط بالأفكار والنظريات؛ والتي تساهم في التأثير على التصرفات السياسية والاجتماعية. أما المعطى الرابع فيقترن بالبنيات المؤسساتية المرتبطة بالمركزية المفرطة ودور وزارة الاقتصاد والمالية والإصلاح الإداري. ويقول السويني إنه من الواجب الاعتراف بأن نهضة الاقتصاد الوطني والاستفادة من المحيط الدولي قدر الإمكان تبقى مرتبطة بالقدرة على النهل من الأفكار الإبداعية والخلاقة والنظريات التي أثبتت نجاحها في التجارب الدولية. ويسترسل: "الملاحظ في المغرب أن الاستفادة من مستوى الأفكار والنظريات الحديثة في بناء أسس مالية عمومية قوية لا يزال بعيد المنال، لأن السياسيين في البلد لا يتقنون الخوض في الأسس النظرية لبناء أسس مالية عمومية قوية، وبالتالي تبقى المالية العمومية لصيقة بالمدبرين والسياسات الظرفية، في غياب الأفكار والنظريات الخلاقة والمبدعة". كما أتى ضمن المداخلة عينها أن العقل المركزي للدولة في المغرب عمل على تعزيز الإطار المؤسساتي المرتبط بصنع القرار المالي، خاصة وزارة الاقتصاد والمالية والإصلاح الإداري، ورغم أن الوقائع تمنح للوزير أولوية واقعية على باقي زملائه الوزراء وإن لم يكن ذلك مرسخا في النص الدستوري. و"الدستور المالي" لم يؤطر بشكل صحيح وكاف مسألة قوانين المالية المعدلة، فلم يؤطر الشكل التمهيدي المتعلق بتبرير اللجوء إلى القانون المالي المعدل، كما لو أن مشروع القانون المالي المعدل هو كذلك له توجهات عامة، بينما هو يعمل فقط على تعديل جزئي في التوقعات وفي الترخيص، كما أن المادة 46 من القانون التنظيمي للمالية اعتبرت أن قوانين التصفية لها توجهات عامة ومن المفروض مرورها بالمجلس الوزاري، بينما قوانين التصفية هي قوانين محاسباتية محضة ولا تمر بالمجلس الوزاري، كما أن القانون التنظيمي للمالية لم يؤطر طبيعة الوثائق المصاحبة لقوانين المالية المعدل، إلا أن أزمة "كوفيد-19" نبهت الطبقة السياسية المغربية إلى أن اللاّيقين والتعقيد الذي يميز الشأن المالي يفرض ترسيخ قاعدة القوانين المالية المعدلة إلى جانب قوانين المالية السنوية، مما يعني أن قاعدة القوانين المالية المعدلة تفرض إدخال تعديلات على القانون التنظيمي للمالية. "اللايقين والتعقيد لا يفرضان فقط بقوة الواقع اللجوء إلى قوانين المالية المعدلة، بل يجبران الإدارة والحكومة والبرلمان بالقدرة على التوقع واحترام المهل الزمنية الخاصة بقوانين المالية المعدلة، والتي من المفروض أن يتم تبنيها ونشرها قبل 30 يونيو، من أجل إفساح المجال للطبقة السياسية لإعداد قانون مالية السنة المقبلة، لأن النجاح في امتحان قانون المالية مرتبط بالقدرة على النجاح في تدبير الزمن المالي الخاص بقانون المالية المعدل، أو الزمن الخاص بقانون المالية للسنة المقبلة. أما عدم القدرة على التحكم في اللايقين والارتباك جعلت الطبقة السياسية المغربية تواجه الآن تحديين: تحدي القانون المالي المعدل، وتحدي القانون المالي للسنة المقبلة من داخل زمن القانون المالي للسنة المقبلة. وإذا كان تحدي الزمن المالي المعدل تمليه ضرورة تصحيح التوقعات ووجوب تغيير محتوى الترخيص البرلماني، كما أن التعطيل في إصدار القانون المالي المعدل لا يهدد استمرارية الحياة الوطنية لأن هناك قانونا ماليا للسنة لا يزال ساري المفعول إلا أنه يؤثر على الحياة الوطنية لأنه لا يعجل في شرعنة الحلول الظرفية"، يردف السويني. الخبير السياسي والمالي يؤكد، من جهة أخرى، أن تحدي الزمن المالي الخاص بالسنة المقبلة يبقى التحدي الكبير؛ لأنه مرتبط باستمرارية الحياة الوطنية وبالآجال الملزمة والمحطات المتتالية والمترابطة، وبمستوى ميزان القوى ما بين الحكومة والبرلمان، وهذا الارتباك هو دليل كذلك على أن الحكومة فشلت في تدبير الزمن بالنسبة للشأن المالي وأنها غير متعودة على السرعة في العمل وعلى الأجندة المزدحمة، هذا الارتباك والارتجال سيكون لها تأثير على الأدوات والوسائل المبتكرة من أجل مواجهة أزمة كورونا وتبعاتها، خصوصا في الشق المالي، وسينعكس ذلك على نوعية سياسة تدبير الشأن العام للحكومة في المرحلة المقبلة والتي تعتبر حساسة لارتباطها بالأزمة. أما الدكتور سعيد التونسي فيرى أن الأزمة الحالية تمثل تحديا لإيجاد بدائل من أجل ضمان النفقات الاجتماعية الضرورية، والرهان منصب على القانون المالي المعدِّل من أجل حلحلة هذا الإشكال بمؤشرات مرتبطة بشقي التحصيل والإنفاق، خاصة أن الميزانية الحالية لا علاقة لها بنظيراتها المتصلة بسنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بنفقات مستجدة وأخرى أضحت غير مفهومة في الوقت الراهن، إذ إن الظفر بموارد الدولة لا خيارات متاحة ضمنها؛ لأن غالبية قنوات التمويل الخارجي استنفدت، بجانب الخوصصة وأساليب تغطية العجز المالي، وتتبقى الضرائب عموما ومساهمة القطاع غير المهيكل خصوصا. وزاد الأستاذ الباحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط، بخصوص الخلل الاقتصادي الناجم عن الجائحة، أن الوعاء الضريبي الحالي لا يحتاج توسيعا من لدن الفاعل الحكومي، وإنما ينبغي أن يحضر الحرص على جعل من لا يفون بالتزاماتهم الضريبية يعدلون عن هذه الممارسة ويقدمون للدولة الواجبات الملقاة على عاتقهم، أي محاربة التهرب الضريبي والجرائم المالية المتصلة به، لكن هذا لا يعفي النظام الضريبي المغربي من كونه غير عادل إجمالا، وعليه أن يعيد النظر في وجوده بإعمال توصيات هيئات الرقابة المنصبة على الأداء المالي للدولة. التونسي تدخل قائلا إن نظريات المالية العمومية تؤكد أن التقليص من الإنفاق العمومي في مجال ما يبقى صعبا كثيرا، بعدما استفاد من ميزانية سابقة أعلى من تلك المعدّلة، وهذا ما أكده تاريخ الدول في أكثر من محطة، لكن الجائحة التي تضرب العالم، بلا استثناء للمغرب، عملت على إبراز إنفاقات خاصة بالمستقبل، وتبقى في مجملها متصلة بالميدان الاجتماعي. وللانضباط إلى هذا الإيقاع، نحتاج قراءة موحدة لحقيقة العجز في الميزانية العمومية بكل صورها، وذلك يملي عدم بقاء إعداد الميزانيات القائمة على نفس النهج السابق، حيث ينبغي توضيح نفقات التعليم والصحة جيدا لأنها تضم معظم الإنفاق الاجتماعي. الدكتورة جميلة دليمي، بدورها، قالت إن سنة 2020 ستحفظ في الذاكرة وتخلد عند الشعوب والدول واتحاداتها، وخلال السنوات المقبلة ستشكل محطة أساسية لتنمية الأفكار وبلورة الرؤى في شتى المجالات؛ فالجائحة جعلت الجميع يرى العالم متساويا في لحظة من الزمن، لأخذها تجارب متشابهة لدرجة الاستنساخ أحيانا، حماية للأشخاص وفق ما تضمنه الدساتير. واسترسلت دليمي: "بفضل الرؤية المتبصرة للملك محمد السادس، استطاع المغرب تقديم مثل لقي إشادات دولية، ولمواجهة تداعيات هذه الأزمة اتخذت مجموعة من التدابير؛ في مقدمتها إحداث الصندوق الخاص لتدبير جائحة كوفيد-19، ودعم المقاولة لتأجيل الضرائب على سبيل المثال". "التدابير الاستعجالية المتخذة لها دور في إرساء الثقة ومساندة المقاولات والحفاظ على القدرة الشرائية للأسر المتضررة، لكنها أثرت سلبا على المالية العمومية وفق مؤشرات متنوعة؛ بانخفاض كبير في المداخيل الجبائية وغير الجبائية بسبب اضطرابات في الجوانب الاقتصادية، وتسجيل زيادات غير متوقعة في النفقات، من جهة، واستحالة الوفاء بنفقات ضمن الآجال المحددة بقانون المالية، من جهة أخرى، زيادة على التغيير في الفرضيات المعتمدة لإعداد "مالية 2020" بعدما وصل "كوفيد-19" إلى المملكة؛ ومن ذلك توقع نسبة نمو ب3,7% قبل أن تجعله الجائحة قابلا للنقصان ب8 نقط ليعادل 5-%"، تورد الأكاديمية دليمي. المتدخلة سطرت على أن المعطيات الميدانية الحالية تكشف فجوة بين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المنتظرة ونظيراتها لما هو واقع في "زمن كورونا"، وإذا استمر التدبير المخطط له في ظل ما هو كائن الآن نكون أمام المساس بمبدأ المساس بمبدإ الصدقية ما لم تتم مطابقة الترخيص البرلماني مع الظرفية بتغيير وتحيين أحكام قانون مالية 2020؛ أي قانون مالي معدل المنصوص عليه في قانون تنظيمي، رغم أن الحكومات المغربية حريصة على تجنب اللجوء إلى تصحيح قوانين المالية رغم التغيرات الاقتصادية الاجتماعية التي تطرأ على البلاد، وواصلت: "تأخر الحكومة في تعديل قانون المالية الخاص بسنة 2020 يعود إلى امتلاكها أدوات قانونية تمكنها من تدبير حالات الاستعجال دون الرجوع إلى البرلمان، وأيضا كون الحكومات تفضل، عبر تاريخ المغرب، أن تعفى من المراقبة السياسية التي يمليها اللجوء إلى الغرفتين التشريعيتين". الدكتور كريم محمد، على متن مقاربته لموضوع النقاش، قال إن وزارة المالية تأخرت كثيرا، وعبرها الحكومة، في إيداع قانون المالية المعدِّل رغم مطالبة البرلمان به، وقد يمكن اعتبار هذه الخطوة شكلية اليوم، لكن ذلك يبقى مهما مقارنة بممارسات الماضي، خاصة سنة 2000 وإحجام الحكومة عن تقديم قانون مالي مشابه يقلص النفقات بعد تأخر بيع حصة مهمة من شركة "اتصالات المغرب"، مثلا، وبمقدور الإجراء الحالي أن يجنب الدولة تأخر المتأخرات مثلما حدث بداية الألفية الجارية. والآن ينبغي التفكير في التوازن الاقتصادي كاملا بدل الاقتصار على التوازنين المالي والموازناتي. الباحث في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعي في سلا أكد، من جهة أخرى، أن التدبير الحكومي جانب الصواب في تخصيص فائض ضرائب متعددة، من بينها الضريبة على الشركات، لمصاريف لم تتضمنها قوانين مالية في الماضي، دون الرجوع إلى البرلمان لإقرار قانون مالي معدّل، وهذا الاختلال غير مقبول سنة 2020 من منظور أزماتي صرف؛ خاصة أن ميزانيات البرامج المبتغية لتحقيق النجاعة قد تم أخذ مبالغ مهمة منها لضخها في صندوق محاربة جائحة فيروس كورونا المستجد، وبالتالي تحيين مؤشرات الوسائل والإنتاج والنتائج وفق الوضعية المتأزمة السارية، لتجنب الخلط. "البنك الدولي ينتقد اقتصار قانون المالية على رؤية وزارة المالية، وبالتالي عدم الإلمام بكافة الخدمات العمومية التي يتم تقديمها فعليا، وفي المغرب راكمنا قوانين مالية ليس فيها عموما إلا ميزانيات الوزارات، ومعنى ذلك أننا لا نتوفر على كل المعطيات، وحين تثير الحكومة نيتها تثبيت الاستثمار لا يبدو واضحا عمّا تقصده في هذا السياق، وبالتالي لا تصل فكرة واضحة عن السياسة المالية التي يبتغى تطويرها في ما تبقى من هذا العام، والسنة المقبلة أيضا. فالجائحة خلقت صدمة للتنظيمات العمومية وتدفع نحو حلول مبتكرة ناجعة في مجمل الميادين، وتحويل المخاطر إلى فرص منتجة لمحركات نمو؛ وهي المتصلة بالتربية والتكوين والصحة والبحث العلمي، والحكامة والموارد الطبيعية والاندماج الرقمي"، يقول كريم محمد. خارطة الطريق وفق الدكتور سعيد التونسي فإن الحكومة، من خلال انكبابها على تحيين الوثيقة القانونية المالية، عليها أن تتفهم بأن الهبات المالية تتسم بغياب الديمومة، وبذلك يمكنها أن تسوي مشكلا محددا وليس بمقدورها أن تعتمد كأساس لإقامة تدخلات إستراتيجية كبرى، وهذا الوقف تم حسمه مؤخرا من طرف صندوق النقد الدولي، بينما التركيز ينبغي أن ينصب على إلغاء أوجه الصرف غير اللازمة وتوجيه الاعتمادات الخاصة بها إلى الإنفاق الاجتماعي الرصين، ليس فقط ضمن قانون المالية المعدِّل وإنما في جميع القوانين المالية القادمة مستقبلا؛ والتركيز على الخدمات التعليمية والصحية كأولوية ملحّة، مع إعادة تحديد المعنيين بالدعم الذي تقدمه الدولة للفئات الهشة. بخصوص منشور رئيس الحكومة الصادر يوم 1 يوليوز الجاري، يقول التونسي ضمن مداخلته إن مضمونها يشدد على إبقاء النفقات ذات الأولوية وحدها، ومواصلة جهود ضبط صرف المال العام من أجل تحقيق الرجوع إلى التوازن المالي، وهو ما يدل على إعادة استخدام عبارات استخدمت خلال أزمات اقتصادية ومالية سابقة في المملكة، من قبل حكومات العقود الماضية. أما المنتظر فقد كان متعلقا بالسير نحو إعادة ضبط الميزانية العامة بدل الارتهان بألفاظ شمولية، ووضع تصور واضح لا يرتكز على تصريف الأزمة من خلال الاعتماد على تمويلات استثنائية؛ كتلك التي وفرها "صندوق كورونا". وطالب التونسي بالتفكير المعمق ضمن الموارد الجديدة لتحصيل الموارد، خاصة أن التبرعات ل"صندوق كورونا" قد أثبتت وجود طاقات مالية مهمة في المغرب، والحرص على تقوية روح المواطنة الضريبية وعدم التردد في معاقبة اللاجئين إلى التهربات، فالأمر لا يتطلب اجتهادات جبارة بقدر ما يستلزم الحرص على تطبيق القانون على الجميع، والقطع مع العفو الضريبي الذي يبقى تواجده غير مفهوم من الأساس، وبورصة الدارالبيضاء استفادة من تخفيض ضريبي بين 25 و50% منذ 2001 إلى الآن، و90% من الضريبة على الدخل من الرواتب، ما يسائل العدالة الجبائية. المتدخل أكد أن الدولة، رغم كل ما يقال عن أدوارها، تبقى أكبر مستثمر في المغرب، وهذا المعطى عام بالدول المتقدمة مثلما هو كائن في البلدان السائرة على طريق النمو، ما يجعلها القادرة على تحمل تكاليف القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة، ومن بينها تخطي الآثار السلبية التي أفرزتها جائحة كورونا خلال الشهور الماضية، ما يستدعي تدبر الدولة في طرق التمويل اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووضع السير صوب المستقبل على السكة الآمنة. الدكتور كريم محمد يتساءل في هذا الإطار: "هل ينبغي أن يكون القانون واضحا ليخدم مصلحة البلاد أم العكس؟"، ويستدرك: "المادة 51 من مشروع قانون المالية المعدّل يحدد الآجال لإخراج التشريع، بينما ما هو جار في دولة مثل النيجر يبقى أكثر ضبطا للأمور، وفي فرنسا تتواجد ثلاث مواد لقانون مالية تعديلي لتحديد المتطلبات، بينما وزارة المالية المغربية يدها مبسوطة للفعل وفق ما تراه مناسبا بداعي القوة والخبرة، في غياب مكتب لتحليل الميزانية في غرفتَي البرلمان"، منتقدا عدم تكافئ الولوج إلى المعلومات بين النواب والمستشارين ووزارة الاقتصاد والمالية. الخبير الاقتصادي أضاف أن لجنة النموذج التنموي، المعينة من طرف الملك محمد السادس قبل شهور، تستفيد من الوضع الوبائي المغربي لتحديد القطاعات القادرة على خلق الثروة في المملكة، حيث بمقدور ذلك أن يطور مستوى العرض، وبذلك تسهم المداخل الاقتصادية في الوصول إلى مخارجها بنتائج جيدة. أما بشأن الطلب فإنه يبتغي اشتغال الحكومة مع البنك الدولي بطريقة وازنة لتخطي "أزمة كوفيد-19"، وما تم منحه من دعم للفقراء لا يراد منه إلى مساعدتهم على العيش وليس تعزيز الطلب الداخلي، بينما التركيز يجب أن يتم على الاستهلاك والاستثمار، وجعل الطبقتين الفقيرة والوسطى في قلب هذا المسعى. "الحكومة تختار تجميد خلق مناصب شغل جديدة في القطاع العام، على أن يسري هذا القرار ثلاث سنوات متتالية، وهذا يزكي ضرورة اشتغال آلية الاستهلاك على نطاق واسع كي ينهض الاقتصاد، أما الاستثمار فلن يهم إلا البنايات وقطاعات ليست ذات مردودية وازنة، لتغيب بذلك القيمة المضافة ويتم المس بالمنافسة"، يذكر محمد، ثم يواصل: "الأزمة تحتاج سياسة توسعية، وعدم المراهنة بشكل كلي على تقليص النفقات، أو عدم الاستفادة من الصدمات الداخلية الناجمة عن التقيد التام بتوجيهات صندوق النقد الدولي؛ مثل اختلالات القطاعين الصحي والتعليمي". كما يقول الدكتور كريم محمد أن لجوء المغرب إلى الاقتراض أوصل المديونية إلى 75% من الناتج الداخلي الخام، حاليا، بزيادة 10% منذ ظهور الفيروس التاجي فوق التراب الوطني شهر مارس الماضي، حيث تم استعمال خط السيولة المتوفر للبلاد مع صندوق النقد الدولي، وبذلك تم تخطي عتبة 70% التي من المفترض عدم تجاوزها، أما الدين العمومي فقد بلغ 93% من الناتج الداخلي الخام، بينما الحكومة عليها الاعتناء بالعدالة الأجرية بين المنتمين إلى 113 نظاما أساسيا للموظفين، والتوفر الجرأة لخلق ضريبة على الثروة وفتح تحقيقات مالية صارمة في ملفات تهم المراكز الاستشفائية و"راميد" والمصحات الخاصة، وعقود البرامج مع المقاولات العمومية التي تستنزف موارد الدول. الدكتورة جميلة دليمي أثارت الانتباه إلى أن القانون التنظيمي للمالية لا يوجد به نص به جزاء مرتبط بعدم تعديل القوانين المالية، وهو ما يقف وراء بقاء القانون المعدِّل، الآن، في طور التشاور، قبل إيداعه في مكتب مجلس النواب، بالأسبقية، بعد الشروع في إعداده رسميا قبل يومين من انتهاء شهر يونيو 2020، وصدور منشور لرئيس الحكومة يدعو الآمرين بالصرف إلى تحيين البرمجة الميزانياتية المتعلقة بسنوات 2021 و2022 و2023، وهي أول مسطرة مستحدثة بموجب القانون التنظيمي التي تتضمن البرمجة والتشاور والإعداد مع التحكيم. ووفق الخبيرة نفسها فإن التحدي الحالي منكب على استمرار الخدمات العمومية الضرورية مع تقديم التدخلات الصحية الطارئة، مع استمرار فيروس كورونا في الحضور بين المغاربة، مع الاستمرار في الزيادة ضمن الإنفاق على كل ذلك رغم تعطل عدد من مصادر التمويل العمومي، لنكون أمام حل ليس سهلا، مثلما ليس مستحيلا، بتضافر جهود جميع القوى الحية مع التأسيس القانوني لتدبير الأزمات الكبرى والعميقة؛ من خلال تقوية القانون المالي بتعزيز مكوناته بمقتضيات لمواجهة الأوبئة وتحديد إطار للتمويل الإضافي، وشددت على أن "مسطرة اعتماد قانون المالية المعدّل تستوجب المراجعة لأن النصوص المؤطرة لإعداده غامضة بخصوص دور رئيس الحكومة، وضبابية المادة 51 من القانون التنظيمي لأنها قفزت على دراسة مشروع القانون ومرتكزات الحكامة والشفافية". دليمي أبرزت، من جهة أخرى، أن الوقت حان لتطوير ميزانية المواطن حتى تلعب الدور الفعال في تثقيفه ماليا، وتقوية شفافية المالية بوضع تقارير جديدة ترصد مجالات الإنفاق الطارئ، والبحث عن موارد إضافية وتطوير الوعاء الجبائي ووضع قانون للإحسان العمومي يضمن المساءلة والمحاسبة، وتعزيز الرأسمال الرقمي في الإدارة العمومية، والاشتغال بشكل أكثر قوة على رقمنة المساطر في مختلف الميادين بمختلف جهات المملكة. وواصلت: "نحتاج تدابير استثنائية بفعالية وسرعة في العودة إلى النقطة التي وقفنا عندها قبل مارس، وعلى القرار أن ينعش المقاولات مع حضور الإستراتيجيات الابتكارية". وقالت أيضا: "الإصلاح يحتاج إعادة المشروعية للبرلمان في الاختصاص الجبائي، فالحكومات اعتادت على إدراج إصلاحات جبائية مهمة في مشاريع قوانين المالية، وفق ما يضمنه القانون التنظيمي، لكن ذلك لا يعفي من إصلاح شامل كي تكون الإكراهات الدستورية والآجالات أكثر من مجرد ضغط لدراسة القاعدة القانونية تحت الضغط، ولذلك كفى من إدراج التشريع الضريبي في هذا النوع من مشاريع القوانين". لا يتردد الدكتور السويني في الإعلان بأن "أزمة كوفيد-19" أثبتت لنا أن العصر الحاضر يتميز بالتعقيد وغياب اليقين وغياب التحديد، وبالتالي يصعب تحليله واقتراح الحلول دون سبر أغوار الأفكار والحلول والقدرة على الإبداع، في خضم هذه الأزمة المعقدة تحتاج الدول، والطبقة السياسية في هذه الدول، إلى من يعرفون الاقتصاد، فهو مرادف للبطالة والفقر والفوارق والعجز والمديونية، كما أنه مجال مرقم وصريح ومكشوف ومعقد ويحمل الحزن معه؛ فأمام أزمة كورونا وأزمة العرض والطلب وتراجع نشاط الدولة، وارتفاع الفوارق وعائدات الرأسمال وتراجع مردود العمل وفرص الشغل، كان المرجو دخول رئيس الحكومة المغربية إلى البرلمان وهو يحمل في يده كتاب الاقتصادي الفرنسي الشهير توماس بيكتي ويقول للطبقة السياسية: أنا أومن بما يقترحه هذا الاقتصادي من أفكار لمحاربة الفوارق، من خلال الضريبة المتصاعدة على الرأسمال وضرورة تحديد الملكية والعمل على تقليص الفوارق والريع، لكن ذلك مستحيل في بلد الجزء الكبير من طبقته السياسية لا يقرأ ولا يحب الكتب أصلا، وبالتالي يبقى عاجزا عن اقتراح الحلول وعن الابتكار والإبداع. ويشدد الباحث على أن الراي العام المغربي انتظر الأجوبة الاقتصادية القوية للأغلبية السياسية الحاكمة في هذه المرحلة المفصلية، وكان الجميع يتمنى أن تقدم هذه الأغلبية البرلمانية والحكومية وجبة اقتصادية طازجة جديدة ومختلفة للخروج من النفق، وأن لا تعمد إلى عاداتها السابقة المتمثلة في تسخين الوجبات بعد إخراجها من ثلاجة التجارب الحكومية السابقة، والتي كان يتم اعتمادها في مرحلة أزمات؛ كسياسة التقشف وسياسة الانضباط الميزانياتي. لكن المنشور المتعلق بتحيين المعطيات المتعلقة بالبرمجة الميزاناتية، والذي يعتبر كمنشور لتحيين إعلان النوايا، أكد بما لا يدع مجال للشك أننا لم نعزز المعرفة بشكل عام والمعرفة الاقتصادية بشكل خاص، حتى نعرف تأطير تدخلاتنا وفق النظريات الاقتصادية الرائدة، وحتى نستطيع تأطير تدخلنا وفق النظريات التدبيرية الفعالة، وفي غياب الإطار المعرفي المرتبط بالأفكار والنظريات فإن الطريق الوحيد الذي نسلكه هو البحث عن حل من خلال سلة الحلول التي تم تجريبها سابقا من طرف التقنوقراطيين والمكاتب الإدارية، بتجميد وتحييد ما يطلق عليه قوة التدخل والضرب الميزانياتي، خصوصا تجميد نفقات الحاضر والمستقبل، من خلال تجميد إحداث مناصب مالية بالنسبة لبعض الوزارات، ورغم أن الوزارات المسموح لها بالتوظيف هي التي تنال "حصة الأسد" من أحدث المناصب السنوية. ووفق المقاربة عينها فإن تحيين برمجة ميزاناتية تمتد إلى سنة 2023، والبلاد على مشارف نهاية الولاية الانتخابية، يمكن تغييرها مع احترام توازي الشكليات والمساطير والاختصاصات، إلا أن المنشور الخاص بها يلزم أمام المؤسسات الدولية ويرهن التوازنات الاقتصادية الكبرى، وبالتالي هو رسالة سيئة جدا للاقتراع المقبل وللمستقبل فكيف نشجع الناس على الذهاب إلى الصناديق والمنشور يغلق نافذة كبيرة كانت مفتوحة على المستقبل. وهنا يطرح السؤال حول جدوى القيام بالبرمجة الميزاناتية، الممتدة على ثلاث سنوات، بالنسبة لحكومة لم يبق لنهاية ولايتها إلا عام واحد؛ ما يدفعنا إلى المطالبة بربط البرمجة الميزاناتية بالديمقراطية والولاية الانتخابية والفعل الأغلبي والبرنامج الحكومي المصادق عليه، وبالتالي تحديدها في خمس سنوات وربطها بالحكومة السياسية التي تتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، لتفعيل عملية المحاسبة ولربط السياسة بالمالية، بدل ربطها عشوائيا بثلاث سنوات بعيدا عن العملية الديمقراطية. تعاطي المنتصر السويني مع المنشور المتعلق بالبرمجة الميزاناتية جعله يقول إن المستند يضع على المحك قدرة الطبقة السياسية على فك طلاسم الحاضر والمستقبل، وتقوقعها وتركيزها على حماية الماضي من خلال استهداف نفقات الاستثمار في المستقبل القريب، مع استثناء المشاريع التي توجد قيد الإنجاز والمشاريع موضوع اتفاقيات موقعة في حضرة الملك والمشاريع المستفيدة من التمويلات الخارجية، ولجوء الطبقة السياسية بالمغرب عند الأزمات إلى استهداف نفقات الاستثمار يجد تأطيره في القانون التنظيمي للمالية الذي يمكن اعتباره دستورا ماليا لا يشرعن تبرير النفقات السابقة ومدى جدواها وأهميتها، يحمي الماضي ويرهن الحاضر والمستقبل؛ ما يدفعنا إلى المطالبة بدستور مالي عند الأزمات يسائل ويقيم نفقات الماضي ويعمل على تعزيز وتدعيم نفقات الحاضر والمستقبل. "سواء في مراحل تدبير الزمن العادي أو في مراحل تدبير الأزمات، على السياسيين أن يدركوا أنهم ينتخبون من أجل برامج للمستقبل، ومن أجل برامج تحاكم الماضي وتمول الحاضر والمستقبل فإن البرمجة الميزاناتية لا معنى لها دون وثيقة ثانية تخص حصيلة مراجعة السياسات العمومية المتبعة والسابقة، لأن ثنائية الاقتطاع من الماضي من أجل تمويل الحاضر والمستقبل وحدها القادرة على فتح الطريق في المغرب، لكن الطبقة السياسية المغربية مختصة في الاقتطاع من الحاضر والمستقبل من أجل تمويل الماضي.. لهذا، كان من المفروض أن يصدر رئيس الحكومة منشورين؛ منشور تدبيري يخص مراجعة السياسات العمومية والتقليص من نفقات الماضي من أجل تمويل الحاضر والمستقبل من خلال منشور البرمجة الميزاناتية الممتدة على ثلاث سنوات"، يشدد المتدخل. السويني يؤكد، في السياق ذاته، أن وصفة مواجهة الأزمات من خلال الانضباط الميزانياتي تستهدف العمل على التخفيض من الوسائل المالية والبشرية من أجل مواجهة الأزمة، من خلال الضغط على الوسائل، وهي وصفة تصنف من بين الوسائل التقليدية للإصلاح، ويتم اعتمادها في الغالب لأنها لا تمس بالتوازن المصلحي بشكل جذري، بينما "أزمة كورونا" كانت تفرض على الحزب الذي يترأس الحكومة ويقود الأغلبية خيارين؛ إما طريق رئاسة حكومة وحدة وطنية من أجل الاستفادة من العمل الجماعي والجهد المشترك لتمكين البلد من الوصول إلى بر الأمان، أو الاستمرار في قيادة الأغلبية الحكومة مع امتلاك الجرأة على تمرير جزء كبير من الإصلاحات الجذرية والأساسية بالقوة والسياسة والأغلبية البرلمانية، خصوصا أن الأزمة كان من المفروض تحويلها إلى فرصة من خلال امتلاك الجرأة على القيام بالإصلاحات عن طريق الصدمة، عبر إصلاح ريع البرلمان والوزراء، وإعادة النظر في تضخم الهياكل في الإدارة لتجفيف كل منابع الريع، وسياسة جريئة في محاربة الفساد، والأمل في هذه الإصلاحات يجد أرضية خصبة، خصوصا أن الحزب الحاكم يوجد في نهاية الولاية البرلمانية ومن المفروض أن يمر إلى السرعة النهائية، لكن الأغلبية الحكومية كانت أعجز من أن تحول الأزمة إلى فرصة، وفضلت "الستاتيكو والعلاج من خلال المسكنات".