الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي في لقاء مع الأطر التعليمية بابن أحمد وعلى يمينه الراحل بوعزة حرير غادرنا الصديق الغالي والأخ العزيز بوعزة حرير في ذلك اليوم، بل في تلك الليلة من السنة الماضية. غادرنا إلى دار البقاء، وتلك سنة الحياة، لكن الحياة نفسها تتأسف للحظة الفراق، ويستمر الأسف لما بعد الفراق. فرغم إيماننا بأن الموت حق على كل إنسان، وسنة من سنن الحياة، وقدر محتوم مهما طال العمر، ولا يمكن أن نحيا إلا ما كتب الله لنا، لكن الأقسى والأصعب والأفجع على النفس هو ما يصيبها من ذهول حينما تفقد قريبا أو صديقا وفيا خالص الوعد للصداقة، لا سبيل لمرور الأيام محوه من الذاكرة. إن شريط الأحداث مسجل يتراءى أمام أعيننا بين الحين والآخر، سواء شعوريا أثناء اليقظة، أو لا شعوريا أثناء النوم وفي غفوة منا. أن تتذكر شخصا فارق الحياة الدنيا ولو لزمن طويل، عاشرته وتراه في الحلم، قد يكون حدثا يوقظ لدينا اللاشعور، ويجعلنا نسترجع مسلسل الأحداث لما نستيقظ في الصباح. في تلك الليلة بعد صلاة المغرب من يوم الأحد 7 يوليوز 2019، وأنا أتلقى مكالمة هاتفية من صديقه وجاره، عبد الواحد الطاهري، وحتى قبل أن أرد عليه كان حدسي يخبرني بأنه سيقول لي رحم الله صديقنا العزيز، والعزاء لنا جميعا. كان الراحل رجلا بشوشا طيب القلب، لا تفارق محياه البسمة مهما كانت المواقف والظروف التي يمر منها، حتى حين اشتد به المرض، وهو طريح الفراش، حينما كنا نزوره فرادى أو جماعات، فرغم ما كان يكابد من الألم الداخلي الذي يسري في جسده، فإنه يستقبل زواره بالابتسامة المعهودة، كاظما معاناته التي لا يشعر بها إلا هو ذاته. لا يرغب في مفارقتك عند انتهاء الزيارة. كان يتمتع بروح خفيفة ومزاج ميال إلى الدعابة، يحب الفكاهة ويجر مرافقه إلى نسيان القلق والتوتر. اشتد به المرض منتصف شهر رمضان 1440، حين التقيت به صبيحة يوم، كان يتكلم بصعوبة، خفت صوته إلى درجة قصوى، ولما سألته عن صحته، قال لي إنها مجرد نزلة برد خفيفة، وهو يكمل حديثة بالإشارة. سألته إن كان زار الطبيب، أجابني لا داعي لذلك، إنه أمر بسيط. بقي مداوما على الصيام حتى أمره الطبيب بضرورة تناول الدواء على فترات متقاربة، وأن حالته الصحية لا تسمح له بمواصلة الإمساك. كان رحمه الله يتحمل المشاق مهما كانت دون أن تبدو على سحنته علامة التوتر والقلق، كما لا ينفعل من الاستفزاز، أو ممن أصابه بسوء. يصمد في وجه المواقف الصعبة، ويتعامل مع الصدمات بمرونة المتعقل الرزين، ولما لا بهيأة وهيبة الحكيم الذي يجعل خصمه يتوارى، ويطلب الاعتذار بعد ندمه، وقد يأتيه ملتمسا عفوه وسماحه، معتذرا بعد ندمه، مهما كان طبعه فضا أو عصبيا. تطيب مرافقته مهما امتد الزمن وبعدت المسافة، فلا تشعر بالملل ولا العياء، ولا تحس بالضجر، مؤنس حقا كما توحي ملامحه الظاهرية على الاستئناس معه، مما يدفعك لتزداد اطمئنانا لمشاعره الداخلية عن طريق إحساس غريب، لا يمكن التعبير عنه سوى بتصور لا شعوري، يجعلك تقترب منه أكثر، وتبحث عنه للقاء به. كان الراحل متنفسا لهموم كل أصدقائه ومعارفه، وهو المعروف في أكثر من وسط، في اللقاءات والتجمعات والمجالس، سواء كانت أفراحا أم أقراحا. الكل يرغب في مجالسته، ليس لكثرة كلامه أو ثرثرته، ولكن لصمته وقلة كلامه، فهو حين ينطق يدخل البهجة والمرح لمخاطبه بنكتة قصيرة أو كلمة بسيطة لكنها تأتي في صميم اللحظة المناسبة. مهما كانت ظروفك وأنت تلتقي به أو تجالسه، فلن تصمد لمفاجأة تفتح سريرتك وانشراح صدرك وزوال الغمة. كان مطلوبا في كل مجلس وفي كل ملتقى. لا يدخل في السجالات العقيمة ولا يعارض، يبدي رأيه دون فرضه، كان رجل توافقات، لا يتدخل في شؤون الغير. فرغم ما كان يمتاز به من روح الدعابة والبشاشة التي تروح عن النفس، بقدر ما كان يمتاز بالجدية سواء في معاملاته الشخصية أو المهنية، كان محبوبا لدى تلاميذه، يتمتع بالهيبة والوقار من المدرسين والآباء على حد سواء. تعلمت على يديه أجيال عديدة مبادئ القراءة والكتابة وطريقة رسم الحروف، والتي لا يمكن تلقن العلم والمعرفة دون إتقانها. كانت طريقته البيداغوجية مبسطة يستوعبها جميع التلاميذ كيفما كانت قدراتهم الإدراكية، وذلك بحسب شهادة من تتلمذوا عليه. وأكثر من ذلك التزامه النضالي، حيث كان تقدميا مخلصا واشتراكيا بالسجية والفطرة. انخرط في العمل النقابي بالنقابة الوطنية للتعليم، منذ التحاقه بوظيفة التدريس بمدينة خريبكة سنة 1965، وتعارفه مع الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي لما كان يشتغل مفتشا بنفس المدينة، حيث ربطا علاقة تجاوزت حدود النضال النقابي إلى صداقة عائلية. كان نوبير الأموي يحن إلى زيارة والدة الراحل بليسوف – ابن أحمد، من أجل تذوق كسكسها وفطائرها. رافق نوبير الأموي حين أسس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978، وكان دائم الحضور لتجمعاته، رغم أنه لم يكن يطمع في مركز نقابي، فتواضعه وبساطته كانت تقف حائطا صلبا وسدا منيعا لا يسمح له بتخطي سلوكه الفطري الذي نشأ وتربى عليه، وعاشه طوال حياته. يقوم بمؤازرتك ومساندتك، ولن يطمع في النيل منك، ولا يمسك بسوء، وتلك طبيعته التي يذكره بها كل من عاشره. كان الراحل يحضر تجمعات حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وقبله الاتحاد الوطني، سواء المحلية أو الإقليمية وحتى الوطنية حين يدعوه أصدقاؤه من القياديين لمرافقتهم، ولا يغيب عن الحملة الانتخابية للحزب، سواء الجماعية أو البرلمانية. كان من المشاركين الأوائل عند تكوين الفرع المحلي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمدينة ابن أحمد سنة 1977، وكان من بين المتطوعين للمساهمة المستمرة في أداء واجب كراء المقر المحلي للحزب والنقابة، بالإضافة إلى المشاركة الفعالة في التبرعات التضامنية كلما حل طارئ يتطلب هذا النوع من العمل النضالي. لم يحصل له أن كان شغفه بالنضال نيل ترقية أو منصب إداري، ويعود ذلك لزهده في الحياة وبساطة عيشه. بقي طول حياته المهنية محافظا على التزامه بصفة مناضل منخرط ومنضبط، واستمر حتى بعد تقاعده سنة 2005. لم يكن يرد على الشر بالشر، ولا يشتكي ممن عاداه، ولما تلح عليه بالسؤال عما يجول في خاطره، وما يشغل باله، يجيبك باختصار إجابة المتسامح الذي لا يطالب برد الاعتبار ولا يبتغي الانتقام، تاركا لمن اعتدى عليه مراجعة نفسه بنفسه، والاحتكام لضميره. أما من حيث تعامله مع أسرته الصغيرة فكان في مستوى مسؤولية الأب الحنون والعطوف، والقادر على تلبية حاجياتهم وإرضاء خواطرهم، دون أدنى مساس بشعورهم الداخلي، أو التعب الجسدي. فحتى بداية معاناته مع المرض، والذي لم يظهره للعيان إلى أن أخذ منه مأخذه، كان يقوم بقضاء كل مستلزمات بيته بنفسه دون كلل. إن ذكراه لم تفارق مخيلتنا وألسنتنا، نحن أصدقاؤه ومعارفه كلما التقينا، أو جمعتنا مناسبة ما. فهو الغائب الحاضر، والكل ينطق بالثناء عليه، والدعاء له بالرحمة والمغفرة. ولا تزال ابتسامته الخفيفة الصادرة من الأعماق والمرسومة على محياه يحتفظ بذكرها الجميع، والتي بقيت ملازمة له حتى الساعات الأخيرة قبل وفاته. كانت مناسبة تشييع جنازته ملتقى لكل أصدقائه ومعارفه خلال مراسيم الدفن بمقبرة سيدي لحسن التي لا تبعد عن مقر إقامته سوى بمسافة قصيرة. وخلال وليمة العشاء، كان الحزن باد على وجوه الجميع لعمق جرح الفراق، فراقه لم يكن سهلا عليهم. ولا من مفرج عن كربة النفوس تلك الليلة سوى ترتيل آيات بينات من الذكر الحكيم، وتلاوة أذكار الموعظة التي كان يلقيها وعاظ أجلاء ممن عرفوه حق المعرفة، والكل شاهد على ورعه وإخلاصه. ونحن نحيي ذكرى وفاته الأولى في ظروف لا يسمح فيها بالتجمعات بعد الخروج من حالة الحجر الصحي، والتزاما بالقرارات الإدارية التي تدعو لاحترام قواعد التباعد وعدم المشاركة في التأبين، لم يكن بوسعنا سوى الالتجاء إلى الاحتفاء الافتراضي للتعبير عن المشاعر، وأملنا أن يعقبها التفاعل بالترحم عليه، وهي بمثابة حضور ومواساة تساهم في المساعدة على تخفيف مشاعر الحزن عن عائلته الصغيرة، وتشكل حيزا هاما في ذكرى رحيله. هذه بعض شذرات ما تذكرت عن الراحل بوعزة حرير، وما عساي أن أفعل سوى أن أقول له بعد فراقك النهائي، لا نملك يا صديقي، في كل الأحوال إلا الدعاء والتضرع إلى العلي القدير أن يتغمد روحك الطيبة بواسع رحمته. اللهم بشره بقولك "كُلُوا واشْرَبوا هَنيئاً بما أسْلَفْتُمْ في الأيّام الخَالِية" – الحاقة: 23. سلام على روحك الطيبة النقية، سلام من أهل بيتك وذويك وأصدقائك ومعارفك، وهم يدعون لك في ذكراك بالرحمة والمغفرة والجنان. "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً" الفجر: 31. رحمك الله صديقنا العزيز. *كاتب وباحث