ما الهوية؟ وهل يصحّ استعمال هذا المفهوم بصيغة المفرد؟ وما مآزق الخطابات التي تتناول هذا المفهوم؟ وما إشكالات المواطنة بالمغرب والوطن العربي والعالَم؟ على هذه الأسئلة اجتمع أكاديميون ومثقّفون في لقاء رقميّ نظّمته مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثّقافة. هُويّاتٌ لا هُوِّيَّة "أشمئزُّ من ذكر "هوية" بالمفرد -الحديث يكون- (...) عن هويات؛ لأنّ الهوية بالمفرد لا تكون إلا من إنتاج إيديولوجيا ووراءها مؤَدلِج (Idéologue)، -أي داعية إلى خطاب إيديولوجي دوغمائي-"، بهذه الكلمات ضبط محمد الطوزي، عالم اجتماع وإناسَة، حديثه عن المفهوم المركزيّ للّقاء، قبل أن يعود في وقت لاحق قائلا إنّ الثورة الرقمية التي نعرفها أنقصت إلى حدّ ما حجم الدور الذي كان يقوم به "الإيديولوجيُّ أو المؤدْلِج"، الذي ليس فيلسوفا ولا مفكّرا ولا مثقَّفا عضويّا، بل هو من يختزل بعض المواصفات التي تؤسس الروابط بين الجماعات، ليُصَيِّرَها "الهوية". ويقدّم الطوزي مثالا بشبابه قائلا: "كنتُ أجدني أستعمل عدة مؤشراتِ هُويّة متعددة وأحيانا متناقضة في اليوم نفسه، بين المنزل مع أبوين غير متمدرسين يمكنني استعمال الأسطورة واللاعقلانية، وفي "الدّرب" مراجع ومرجعيات أخرى، وفي الجامعة كنت أقرب من طالب معولَم في الوقت نفسه"، ثمّ يزيد مستنتجا: "الهوية موسومة بالتّعدّد، والجزم بكونها موحّدة يكون غالبا من الخارج، من أنثروبولوجي يبحث عن هوية بلد بطريقة متعسفة، أو من شخص يصطدم بمجموعة أخرى ويراها من الخارج". واستحضر الباحث المعروف بأبحاثه حول الحركات الإسلامية والتمثّلات الدينية بالمغرب، والمشارك في صياغة الدستور المغربي سنة 2011، (استحضر) النّقاش الذي عرفته وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي، بعد تسمية ابن أخ المعتقل على خلفية "حَراك الرّيف" ناصر الزّفزافي باسم القائد الأمازيغي "أكسيل"، ورأى فيه: "تصادما بين إنتاج هوية من طرف السلفيين أو الإسلام السياسي أو القوميين أو الأمازيغيين"، ثم أضاف: "حضور الهوية كمرجع موحَّد لا يجد نفسه إلا في الدولة الوطنية، لإنتاج المواطنَة كمفهوم جامع ومختزل، ينتج مستقبَلا مشتركا، لا ماضيا مشتركا"، علما أنّ "الهوية الوطنية كإيديولوجيا جامعة تحارب الهويات الهامشية، وتصير في آخر الأمر هويّة مؤسَّسَة، وتجد بوثقتها داخل الدولة الوطنية". ويذكر المتحدّث أنّ التوجه الصارم لإنتاج هوية موحدة داخل دولة موحَّدة، بإدخال الهويات الهامشية في سرد موحَّد، مسألة تتمّ من خلال كتابة التّاريخ أو إنتاجات فكرية ذات طابع إيديولوجي، وليس تاريخانِيّا، "يمحي مسائل جانبية تشوّش عليه، وهو ما يفضي إلى هوية موحدة، لمواطن موحَّد، ذي مصير موحَّد". ويذكر المتدخّل أنّ الهوية كموضوع بحثي تحتاج الآخر، وزاد: "مصطلح الهوية صعبُ التناوُل، إلا عبر تجارب تاريخية ومعاينات إثنوغرافية، وإلا خطاب الهوية والخطاب حول الهوية بالأساس إيديولوجيا، والهويات في رسم بياني تأتي على شكل دوائر، مِن الدائرة الصغيرة التي تشملها دائرة أكبر فأكبر، وتتقاطع بعض الدوائر بينها لتنتج هويات مصغَّرَة داخل الهويات الكبرى". الهوية دينامية ومستقبليّة يميل محمد سبيلا، أكاديميّ متخصّص في الفلسفة، إلى الدّعوة إلى "هوية دينامية"، يعرّفها بكونها: "الهوية بما هي مستقبل"، التي يدخل في إطارها المستقبَل والمستقبَل البعيد، والتفاعلُ مع الثقافات الأخرى والأشكال الحيوية الموجودة في "مجتمعات رائدة" أو "المجتمعات التي قطعت خطوات كبرى"، و"تتلاءم مع مفهوم المواطنة بوصفه مفهوم الفرد الحديث"، ويقابِلها بالهوية النّاتجة عن "الثقافةِ أسيرةِ الماضي"، التي يرى أنّها "تظَلّ معوَّقة عن التطوّر؛ أي منشدَّة إلى الحاضر أو الماضي". في هذا الإطار يرى الباحث المعروف بكتابته حول الحداثة والتّحديث أنّ "مسألة الهوية التي تتمسّك بها هويات دينية وقومية قد لا تنتبه إلى مخاطرها"، ويزيد: "في سياق فكري ثقافي حديث يعتبر محمد عابد الجابري أحد ملهِميه، أجد حرجا كبيرا في الحديث عن مفهوم الهوية بمفهوم تقليدي سكوني، لا يراعي هذه العواصف التاريخية"؛ وهو ما يجعله من منطلق الحديث عن الهوية بمفهومها الديناميّ المستقبليّ يدعو إلى الانتباه إلى "ما سنكسبه من الارتماء في الحاضر المستقبَل والنّموذج الكوني". وعودة إلى مقاربة الهويّة، يذكر سبيلا أنّها "موضوع إشكاليّ، فيه إغراءات ومخاطر ومزالق؛ لأنّ هناك رؤى متعدّدة للهوية، واستعمالات وتوظيفات سياسية وإيديولوجية، وتصورات مختلفة لها"، ثمّ يضيف: "الهوية كمصطلح لا تتضمّن مضمونا معيّنا، ومبدئيا الهوية متعدّدة، وهناك هويات متعدّدة، والهوية الثقافية أقوى مضامين الهوية، وهي هوية تاريخية متحوّلة". ويسترسل سبيلا مذكّرا بأنّ الهوية "كانت دوما محطّ صراع بين نظرة سكونيّة واختزاليّة فيها نوع من الإجحاف، ونظرة حيوية ديناميكية"، واستحضر في هذا السياق "الثورات العربية"، التي "كانت محطّ صراع بين تصورين مختلفين للهوية ومفهوم الثورة ذاتها، منها ما اعتبر الثورات أو الاحتجاجات حركية اجتماعية تطالب بالهوية وتحقيق نوع معين من هذه الهوية، سواء اعتبرناها دينية أو ثقافية أو عرقية أو غيرها، ومنها اعتبرها حرَاكا من أجل الحياة"، ثم انتصر لصيغته الخاصّة من القراءة الثانية قائلا: "ثبت أنّ الفعل الأساسي هو فعل التغيير، والحرية، وتحقيق الحيوية الاجتماعية، والمكاسب التاريخية الحية كمطمح، لا العودة فقط إلى نماذج تاريخية من الهوية". ولم يقتصر المفكّر المغربي في قراءته لاستيعاب مفهوم الهوية في المجال التداوليّ العربي على أحداث معاصرة، بل عاد إلى "التاريخ العربيّ الحديث" الذي طبَعه، وفق قراءته، "التوجّه نحو الهوية، وأسطرَتها، وإضفاء طابع غير تاريخي عليها"، وقدّم في هذا السياق مثالا ب"حركات مثل الإسلام السياسي، تركت مفهوم النهضة الذي كان منبع هذه الحيويّة التاريخية، وركّزَت على مسألة الهوية"، نظرا لما للهوية من "جاذبية وإغراء"، نبّه إلى "محاذيره، وربما مخاطره"؛ لأنّ القول بالهوية "يجب أن يكون واعيا بأنّ وظيفتها الأساسية مبدئيا حماية الذات وصيانتها من تحولات التاريخ وعواصفه". هذه الوظيفة تصعب، حَسَبَ المتحدّث، مع "التحول إلى التاريخ الساخن"؛ فالحديث عن التاريخ الحديثِ حديثٌ عن "تحولات عاصفة، وتحولات موضوعية خارجة عن إطار الذوات والإرادات، وكأنّ هناك سيرورة تاريخية خارجة عن إطار الأفراد، تتمثّل مقوّماتها التقنية في الدولة الحديثة وغيرها، ولكنّ صفتها الأساسية إحراجُها التصوّرَ التقليدي للذّات، أي التصوّر التقليدي للهوية"، وهي تحولات "نلامس بعض معالمها"، وفق سبيلا. هذه التحولات العالمية العاصفة التي "نعيشها كعرب بوصفنا جزءا من التاريخ العالمي تطال كلّ مجتمع على كافّة مستوياته"، وهي "تحوّلات فكرية ضمنية بالعالم، سارية"، من مظاهرها النضال السياسي الحديث منذ الاستقلال للالتحاق بالدورة الكونية الرأسمالية، وكوننا "في طور الانتقال من فكر تقليدي تأملي، إلى فكر تجريبي عقلاني، سواء قبلنا ذلك أو لم نقبله"، مع "التحوّل إلى رؤية تجريبية"، واستشهد في هذا السياق بقراءة المفكّر الإيراني داريوش شايغان، مقدّما اسمه بصفة "أستاذِي"، ليقول إنّ هذا التحوُّل الانتقالي يتمّ من "فكر سكوني تأملي، إلى فكر تجريبي عقلاني بدرجات متفاوتة، ومستويات متفاوتة من العنف"، ومِنَ "المفاهيم الجوهرية إلى المفاهيم الميكانيكية الرياضية"، وهو ما نشاهده "في العلوم الدقيقة، وفي العلوم الإنسانية، و-الانتقال- إلى البيانات والثقافة الحسابية العددية". كما يرى محمد سبيلا أنّ هناك انتقالا لتصور الإنسان من "التصورات التقليدانية الروحانية إلى الإنسان بوصفه مكوّنا من دوافع وميول ورغبات"، وهي "تحولات في المنظور الفكري العامّ"، وجزء من "تحولات عاصِفَة ستُحرِج مفهوم الهوية في تصوّره التقليدي"، ومن مظاهرها "أنّ الثقافة الحديثة والدينامية التاريخية الحديثة التي دخلنا فيها تفرض علينا أشياء غائبة عنّا"؛ ففي "دخولنا للثقافة الحديثة من لباس ونظارات، واندِراجنا في هذه الثقافة" اندراج في "ثقافة تنزع الطابع السحري عن العالم، وتكشف عن بنيات الطبيعة كأرقام وحسابات وهياكل عظمية، وتطال الإنسان بالرفع من اعتباره كائنا طبيعيا"، وهو ما ينتج عنه، من بين ما ينتج "تغيير مفهوم العقل والزمان"، الذي هو في عمقه "انتقال من الإنسان التّقليديّ الرّائي (Visionnaire) المرتبط بعوامل لا يراها، إلى إنسان رائيّ (مرئيّ؟) (Visuelle و visualisant) بفعل الثقافة المبنية على الرؤية العينية في التلفزيون، التي هي رؤية لما هو قابل للحساب والعدّ واللمس". كما استشهد سبيلا ب"باحثين يعتبرون الهوية الثقافية وهما؛ لأنّ التحولات العاصفة في التاريخ العالَميّ، منذ القرن السابع عشر، هي تحوّلات مقتلِعَة ومغيِّرة ومحرِجة للتّصوّرات الكلاسيكية"، ثم يزيد: "ما يحدث في العالَم تحوّلات عميقة صعبة، واستيعابها صعب، وهي التي تجعل مسألة الهوية في حالة ترنّح وتذبذب". ويقول الأكاديميّ المغربي، في سياق استشهاده بما سبق أن كتبه الباحث التونسي فتحي المسكيني، إنّ "التونسيين مثل المغاربة لهم نفس الهَمّ التحديثي الذي سبقونا فيه فكريا، بفعل شروط تاريخية معيَّنة"، قبل أن ينطِقَ بما كتبه هذا الفيلسوف: "إنّ الطامّة الكبرى تحوُّل المستقبل إلى ذكرى، علينا الحنين إليها بشكل متوارث"، وهو ما يرى معه سبيلا ضرورة "التفكير في كيفية الانتقال من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة المستقبل، ومن ثقافة الأذن إلى ثقافة العين". أزمة خطاب يرى حسن أوريد، مؤرخ وباحث في العلوم السياسية، أن الواقع يظهر أنّ "خطابات الهوية في أزمة"، واستحضر في هذا السياق "مظاهرات العراق قبل شهور التي تقول "نريد وطنا"، ولبنان التي تقول "هُويَّتي لبناني"، وفي أوروبا بعد أحداث شارلي إيبدو الإرهابية. وفي تدخّل خلال تعقيبات النّدوة، قال الباحث المعروف بكتاباته حول الحركات الإسلامية بالمغرب والعالم الإسلاميّ والشّأن السياسي المغربي والعربي، وشغل سابقا منصبَي مؤرّخ المملكة والنّاطق باسم القصر الملكيّ، (قال) إنّ "خطاب الهوية خطاب طارئ"، ف"قبل ثلاثين سنة لم يكن حاضرا، بل كانت هناك مفاهيم تعبّر عن حاجات جماعات معيَّنة"، وكان استعمالُ مصطلح "الشخصية" (الوطنية أو العربية الإسلامية) معهودا عند طه حسين وعلال الفاسي وهشام جعيط. ويقدّر أوريد أنّ خطاب الهوية "عرف زخما بعد سقوط جدار برلين، وطرح نفسه كبديل للمواطنَة"، وهو ما اعتبره "عرَضا لأزمة المواطنة"، ثم زاد مستشهدا بتحليل من المدرسة الأنجلوساكسونية للفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، الذي رأى أنّ هذه الأزمة نتيجة ل"الاقتصار على قيمتي المساواة والحرية، دون حضور قيمة الاعتراف"، فيستجيب بالتالي "خطاب الهوية" ل"الحاجة للاعتراف"، بعد "تجاهل وجحود واستهزاء من ثقافة، أو رموز، أو حاملي ثقافة معيّنة". ويذكر أوريد، انطلاقا من هذه القراءة، أنّ "كلّ خطاب هوية هو ردّ فعل"، ثم زاد: "خطابات الهوية توظّف التاريخ لبناء شيء جديد، وهو شيء يمكن أن يقال عن خطاب القومية العربية، وخطاب الأمازيغ"، قبل أن يستدرك واضعا حدودا ومحاذير أمام خطاب الهوية: "ليس هناك ما يقدح في أيّ جماعة تريد الاعتراف بخصوصيتها، لكن المشكل أنّ كلّ خطاب للهوية لا يقوم إلا على شيطنة الآخر، واستعدائِه، وهنا تكمن الخطورة". ويزيد الأكاديمي المغربي: "بما أنّ خطاب المواطنة لا يتجاوز الاعتراف، وخطاب الهوية يقع في استعداء الآخر، فإنّ الحلّ يكمن في مجتمع لائق، يقرّ بقيم المساواة والحرية والاعتراف كذلك"، ثم أجمل قائلا: "هذه قضايا يمكن أن تفضي إلى تشنّجات، ونحتاج مجتمعا لائقا يضمن المساواة والحرية، والاعتراف كذلك، لأنّ عدم الاعتراف يفضي إلى ردود فعل متشنّجة، وقد تكون عنيفة". من جهته يذكر كاظم الموسوي، باحث عراقي، أنّ الاستعمار قسّم المجتمعات إلى هويات، وقدّم مثالا بما حدث في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003، ل"إمكانية التحكم فيه"، عبر "تشكيل الاحتلال مجلس الحكم على طابع إثني، ألغى الهوية الأساسية العروبية، ولعب إلى الآن مع الأسف دورا في خلق حروب طاحنة بين هذه المكوِّنات في العراق". ويربط الباحث الذي تتمحور كتاباته حول الشّأن السياسي العراقي والعربي بين "الهوية والمواطنَة"، ثم يقول: "دون مساواة وعدالة بين المواطنين ليست هناك مواطنة، ولا التزام بالانتماء، لأنّ المواطنة مساواة بين المواطنين بغضّ النظر عن الصبغات الدينية والعرقية أو غيرها". ويرى موسوي أنّ هناك ترابطا جدليا بين الهويات والمواطنَة "يجعلنا بحاجة إلى خلق جدلية بين الهويات المتعدّدة والمواطنة"، لأنّ "الحياة ليست ما نعيشه، بل ما نخطط لتعيشه الأجيال من بعدنا في المستقبل"، وهو ما نحتاج معه أن تكون الهوية "عاملا مساعدا لخلق حياة أفضل"، ثم يضيف: "الحديث عن الهوية العربية حديث عن الشخصية الإنسانية في إطارها الثابت والمتحوِّل".. وفي هذا الإطار يقول محمد عابد الجابري إنّ "هوية العربي ليست جاهزة، بل تتشكّل"، وهي الرؤية التي يسير على نهجها قائلا: "تَجْمَع الشّعبَ العربيّ من المحيط إلى الخليج العديد من المشتركات التي يجب أن نعمل عليها، لا أن نترك الخارج يفتّت المفتَّت، ويشتّت المشتَّت".