بعد أن كان ديل غوستافسون يعتبر نفسه من الطبقة المتوسطة في مدينة روكفورد بولاية إلينوي، انتهى به الأمر بالانتحار في ماي 2015، بعد أن تراكمت عليه الديون ولم يعد قادرا على سداد ما بذمته أو حتى توفير لقمة العيش اليومية. قبل أن يختار العمل لحسابه الخاص، التحق غوستافسون بالجامعة في ولاية أوريغون؛ لكنه فشل في التخرج.. وحينها، بدا له كسب لقمة العيش ممكنا بالعمل في طلاء البيوت، في وقت لم تكن الولاياتالمتحدة تشهد التفاوتات الاجتماعية الحالية، ليتغير الوضع بعد سنوات، وينتهي به الأمر منتحرا. هذه القصة التي أوردها كريس هيدجز، الصحافي السابق في صحيفة "نيويورك تايمز"، في كتابه "أمريكا.. جولة الوداع"، تعكس وضعا قاتما تعيشه فئة من المجتمع الأمريكي، لم تستطع مواكبة التطورات التي شهدها قطاع الشغل في البلاد، ووجدت نفسها تعيش تحت عتبة الفقر. وبالرغم من الفرص الكبيرة التي يتيحها الاقتصاد الأمريكي، وتصنيفه الأقوى في العالم، فإن تقارير عديدة تشير إلى تزايد الهوة بين الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية في الولاياتالمتحدة، خصوصا خلال العقود الأخيرة. وضع أكثر هشاشة تختلف التفاوتات الاجتماعية والمجالية بين الولايات؛ فالوضع الذي تعيشه ولاية كاليفورنيا، التي يعادل اقتصادها الاقتصاد الفرنسي، يختلف بشكل كبير عن الوضع في ولايات أصغر كمونتانا أو مين وغيرهما من الولاياتالأمريكية. ويرصد دارل ويست، الباحث الأمريكي في العلوم السياسية، جانبا من هذه التفاوتات في كتابه "سياسة منقسمة.. وأمة متفرقة"، ويقول إنه "مع انهيار الزراعة والصناعة بشكلها القديم، بدأت قطاعات أخرى في الصعود، وشملت هذه القطاعات وظائف جديدة مرتبطة بالإصلاحات الصغيرة للمحركات وتجديد المنازل والاستشارة المالية وتعليم الموسيقى وغيرها". ويورد دارل ويست أن عددا من الوظائف الجديدة أسندت إلى "العمل الحر" أو الاعتماد على العمال المؤقتين، دون توفير التأمين الصحي لهم أو مزايا التقاعد، مضيفا أن الشركات الأمريكية تعلمت كيف تقلص حجم قوتها العاملة الدائمة، والاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج، لتجنب دفع أموال الضمان الاجتماعي، "لقد حصلوا على قوى عاملة تعمل بجد، بجزء بسيط من تكلفة الموظفين بدوام كامل"، يقول ويست. ويذهب الباحث الأمريكي إلى القول إن هذا الصعود للأعمال الجديدة "فرض صعوبات إضافية على مجتمعات "الغرب المتوسط"، في مقابل ازدهار النخبة في الساحل. ويقصد ويست بمجتمعات الغرب المتوسط الأمريكيين الذين يعيشون في 12 ولاية وسط البلاد؛ وهي ولايات إلينوي، إنديانا، أيوا، كانساس، ميشيغان، مينيسوتا، ميزوري، نبراسكا، داكوتا الشمالية، أوهايو، داكوتا الجنوبية ، ويسكونسن. وعانت هذه الولايات من أزمة اقتصادية خانقة بعد أن ركود اقتصاد الفحم، الذي كانت تعتمد عليه، وكذا قرار شركات أمريكية عديدة إعادة تحويل جزء من إنتاجها إلى الخارج، خصوصا نحو الصين والمكسيك؛ ما جعل الحياة الاقتصادية لطيف كبير من الأمريكيين أكثر هشاشة من قبل. فقير يزداد فقرا وغني يزداد ثراء أظهر تحليل لمركز "بيو للأبحاث" الأمريكي، في فبراير الماضي، أن الفجوة بين العائلات الغنية والعائلات الفقيرة زادت عن الضعف ما بين سنتي 1989 و2016. ففي سنة 1989، كان معدل ثروة الفقراء 20 ألف دولار أو أقل في السنة؛ فيما وصل هذا المعدل عند الأغنياء، الذين يمثلون 5 في المائة من المجتمع الأمريكي، إلى 2,3 ملايين دولار سنويا، وهو ما يمثل 114 ضعفا لما يحصل عليه الفقراء. هذا الفارق تضاعف ليصل إلى 248 مرة سنة 2016، بالنظر إلى تزايد ثروة الطبقة الغنية واستمرار أجور الطبقة الفقيرة في المستوى. وإذا كانت الأزمات الاقتصادية قد تسببت في فقدان الملايين من الأمريكيين لمناصبهم، فإن الوضع يبدو مختلفا بالنسبة للطبقة الأكثر ثراء في البلاد (5%) والتي زادت ثروتها حسب "بيو للأبحاث"، ما بين سنتي 2007 و2016، إذ ارتفعت بنسبة 4 في المائة في مقابل استمرار الأجور في المستوى ذاته. وكشف مركز "بيو للأبحاث" عن جانب آخر من هذه الفوارق الاجتماعية، يرتبط هذه المرة بالفوارق بين البيض والسود، واعتبر أن الفجوة في الدخل بين السود والبيض تتسع بمرور الوقت، حيث كان الفارق بين دخل الأسرة متوسطة الدخل من السود الأمريكيين والبيض يصل إلى 23800 دولار سنة 1970، وأصبح يقارب 33000 دولار سنة 2018. وفي ورقة بحثية نشرها الباحثان الأمريكيان جاي سامبوغ وريلان يون في مجلة "هارفرد للأعمال" سنة 2017، تشير المعطيات إلى أن أجور العاملين الأمريكيين لم تتطور، منذ سنة 1970، سوى ب0.2 في المائة في السنة؛ مقابل تطور ثروة الأغنياء خلال العقود الأخيرة. ولعل رقما كهذا يفسر جانبا من الاحتجاجات الحالية التي اندلعت في الولاياتالمتحدة، على خلفية وفاة جورج فلويد على يد الشرطة، إذ رفع جزء كبير من المحتجين شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية بين الأمريكيين.