يشكل 30 يونيو من كل سنة تاريخا مهما في حياة عدد من المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الباب الثاني عشر من الدستور المغربي الأخير، الذي أفرده ل"الحكامة الجيدة"، ونص فيه على عدد من المؤسسات والهيئات، منها ما هو موجود قبل الإصلاح الدستوري لسنة 2011، وعمل هذا الأخير على دسترتها ونص على إعادة تنظيمها بقوانين، بعد أن كان أغلبها قد أحدث بمقتضى ظهير بناء على الفصل 19 من دستور 1996، ومنها ما أحدثت لأول مرة. وأكد الدستور أن تكون الهيئات المكلفة ب"الحكامة الجيدة" مستقلة، وصنف الهيئات والمؤسسات المدرجة في هذا الباب منه إلى ثلاث أنواع: 1- هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها وأدرج ضمنها كلا من: المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤسسة الوسيط، مجلس الجالية المغربية بالخارج، الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز. 2- هيئات الحكامة الجيدة والتقنين؛ ويتعلق الأمر بكل من: الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. 3- هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، وأدرج ضمنها كلا من: المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، ثم المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. ومما نص عليه الدستور في فصله "المائة والستين" أن تعمل هذه المؤسسات والهيئات على تقديم تقرير عن أعمالها، مرة واحدة في السنة على الأقل، ويكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان، وينشر في الجريدة الرسمية. وأكدت بعض النصوص القانونية المتعلقة بإعادة تنظيم أو إحداث هذه الهيئات والمؤسسات على ضرورة إنجاز هذه التقارير كل سنة، قبل 30 يونيو، والبعض منها لم يحدد تاريخ إعدادها، ما عدا التأكيد على "مبدأ السنوية" المنصوص عليه في الدستور؛ بل إن بعضا من هذه المؤسسات والهيئات نصت في القوانين المؤطرة ل"مهامها/ صلاحياتها/اختصاصاتها" وفي أنظمتها الداخلية على مقتضيات أكثر تفصيلية تتعلق بهذه التقارير، وخصوصا مضامينها وطريقة إعدادها ومن يتكلف بذلك. وبالعودة إلى التجارب المقارنة نجد التقارير التي تعدها وتنجزها ما يماثل هذه الهيئات والمؤسسات يكون هدفها الأساسي، وإن اختلفت تسمياتها واختصاصاتها والقطاعات التي تشرف عليها وكذا رهاناتها، لارتباط ذلك بالسياق التاريخي والسياسي لكل بلد على حدة، وكذا التقاليد الإدارية والمؤسساتية المرتبطة بظهور واشتغال مثل هذه الهيئات، هو تقديم ما يكفي من المعلومات عن أوضاع القطاع أو المجال الذي تشرف عليه، الذي يكون بطبيعته إستراتيجيا وحساسا أو له علاقة بمجال الحقوق والحريات، بحيث تتضمن هذه التقارير التطورات والمشاكل والصعوبات التي يعرفها القطاع والتحديات التي تواجهه؛ كما تعتبر وسيلة وأداة لتقييم عمل هذه المؤسسات والهيئات من خلال تقديم نظرة عامة عن المهام العديدة التي تقوم بها، وتقديم حصيلة ممارسة مهامها ووسائلها وأيضا العراقيل والمشاكل التي تواجهها للنهوض بمهامها واختصاصاتها؛ كما تتضمن أيضا مخططات متعددة السنوات لترشيد نفقاتها، التي تقيّم الأثر المتوقع على حجم التوظيف فيها، وعلى كل نوع من أنواع إنفاق/نفقات هذه المؤسسات، وكذا التدابير التي تتخذها لتجميع خدماتها مع خدمات باقي المؤسسات والهيئات والقطاعات الوزارية إن اقتضى الحال لتحقيق أقصى درجات الترشيد والعقلنة في العمل والجهد والإنفاق وتحقيق حكامة حقيقية للقطاع أو المجال الذي تشرف عليه. لذلك تكون هذه التقارير موضوع عرض ومناقشة أمام البرلمان، كما أنها تكون موضوع نشر على أوسع نطاق للعموم تحقيقا للشفافية والنزاهة التي تعتبر أحد أهم قيم هذا النوع من المؤسسات. وبالنسبة للحالة المغربية، فبناء على الدستور والقوانين المؤطرة لهذه المؤسسات وبعض أنظمتها الداخلية نجد أنه من المفروض على كل من: أ) المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن يرفع إلى نظر جلالة الملك تقريرا سنويا عن حالة حقوق الإنسان بالمملكة. كما يقدم رئيس المجلس، تطبيقا لأحكام الدستور، تقريرا عن أعماله مرة واحدة في السنة، على الأقل يكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان. ونص القانون على أن هذه التقارير المذكورة تنشر في الجريدة الرسمية. ب) الوسيط، يرفع هو الآخر إلى جلالة الملك تقريره السنوي، قبل متم شهر يونيو، عن حصيلة نشاط المؤسسة وآفاق عملها، ويتضمن على وجه الخصوص جردا للتظلمات وطلبات التسوية، وبيانا لما تم البت فيه منها، وما قامت به المؤسسة من بحث وتحر وإرشاد وتوجيه، والنتائج المترتبة عن ذلك لمعالجة التظلمات، والدفاع عن حقوق المتظلمين، وكذا لما تم البت فيه بعدم الاختصاص أو عدم القبول أو الحفظ، وملخصا عاما حول أجوبة الإدارة بشأن القضايا المحالة إليها من قبل المؤسسة. كما يتضمن هذا التقرير بيانا لأوجه الاختلالات والثغرات التي تشوب علاقة الإدارة بالمرتفقين، وتوصيات الوسيط ومقترحاته حول التدابير التي يتعين اتخاذها لتحسين بنية الاستقبال، وتبسيط المساطر الإدارية، وتحسين سير أجهزة الإدارة، وكذا لترسيخ قيم الشفافية والحكامة وتخليق المرافق العمومية وتصحيح الاختلالات التي تعاني منها، ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمهام الإدارة، وبيانا إضافيا بما تم تحقيقه من إصلاح وتقويم من طرف السلطات المختصة لتنفيذ توصيات ومقترحات المؤسسة. كما يجب أن يتضمن التقرير أيضا محاور برامج عمل المؤسسة على المدى القصير والمتوسط، وموجزا عن وضعية تدبيرها المالي والإداري وعن تقرير لجنة الافتحاص المشار إليها في القانون المتعلق بهذه المؤسسة. وينشر هذا التقرير بالجريدة الرسمية، ويتم تعميمه على نطاق واسع. كما يوجه الوسيط نسخة من التقرير السنوي إلى كل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، ويقدم أمام البرلمان مرة واحدة في السنة على الأقل ملخصا تركيبيا لمضمون هذا التقرير يكون موضع مناقشة. ج) الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هي الأخرى ملزمة بإنجاز كل سنة، قبل 30 يونيو، تقريرا يشمل مختلف أنشطتها وأعمالها خلال السنة المنصرمة، يرفعه رئيسها إلى جلالة الملك ويوجهه إلى رئيس الحكومة ورئيسي البرلمان. ويتضمن التقرير المذكور، على وجه الخصوص، وضعية الخدمة العمومية للاتصال السمعي البصري، ولاسيما ما يتعلق بالتعددية واحترام أخلاقيات المهنة في البرامج والمواد المبثوثة، ومدى قدرة المتعهدين على القيام بها، ووضعية الإنتاج السمعي البصري الوطني، ولاسيما ما يتعلق بولوج الشركات الخاصة بالإنتاج السمعي البصري لصفقات الإنتاج السمعي البصري الوطنية في إطار نظام طلبات العروض، وكذا حصة المقاولات المتوسطة والصغيرة والصغيرة جدا، وأيضا ما يتعلق بحصص الإشهار وكذا مستوى التفاعل مع الشكايات التي تلقتها والنتائج المترتبة عنها في المقتضيات المتعلقة بتلقي الشكايات، واقتراحات الهيئة الرامية إلى تطوير القطاع. كما تقدم الهيئة العليا تقريرا عن أعمالها أمام كل من مجلسي البرلمان، يمكن أن يكون موضوع مناقشة. د) الأمر نفسه بالنسبة لمجلس المنافسة، الذي ينجز هو الأخر كل سنة، قبل 30 يونيو، تقريرا عن أعماله خلال السنة المنصرمة يرفعه رئيس المجلس إلى جلالة الملك ويوجهه إلى رئيس الحكومة. وترفق بالتقرير المذكور القرارات والآراء التي يصدرها المجلس، كما ينشر تقرير الأعمال في الجريدة الرسمية. ويقدم رئيس المجلس تقريرا عن أعمال المجلس أمام كل من مجلسي البرلمان. ومن المفروض أن يتضمن هذا التقرير تحليل المجلس لوضعية المنافسة بالمغرب خلال السنة المعنية، وأيضا القرارات والآراء والتوصيات الصادرة عنه، باستثناء رأي العفو، إضافة إلى تتبع مآل تنفيذها، وكذا خلاصات الدراسات المنجزة من طرف المجلس؛ كما يجب أن يتضمن أنشطة المجلس. و) الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها تتولى هي الأخرى إعداد تقرير حول حصيلة أنشطتها، وتقدمه مرة واحدة في السنة على الأقل، ويكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان؛ ويتضمن على وجه الخصوص جردا لعدد ونوع التبليغات والشكايات، وبيانا لما تم البت فيه منها، وما قامت به الهيئة من بحث أو تحر، والنتائج المترتبة عنهما؛ كما يتضمن بيانا لأوجه العراقيل التي واجهتها الهيئة في أداء مهامها، وتوصياتها ومقترحاتها حول التدابير التي يتعين اتخاذها لترسيخ قيم الشفافية والحكامة وتخليق المرافق العمومية وتصحيح الاختلالات التي تعاني منها، ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمجال اختصاص الهيئة. وينشر هذا التقرير في الجريدة الرسمية. وسيعمل مشروع القانون المتعلق بهذه الهيئة الذي صادق عليه المجلس الحكومي مؤخرا، في انتظار عرضه على المؤسسة التشريعية للمصادقة عليه، على إعادة صياغة المقتضيات المتعلقة بمضمون هذا التقرير، بحيث نص على أنه يجب أن يتضمن: تقييم سياسات محاربة الفساد وتشخيص وضعيته، وحصيلة أنشطة الهيئة وآفاق عملها، ومآل توصياتها الواردة في التقارير السابقة، وجردا لعدد ونوع التبليغات والشكايات والحالات التي تصدت له، وبيانا لما تم البت فيه منها، وما قامت به الهيئة من بحث أو تحر والنتائج المتوصل إليها، وبيانا لأوجه العراقيل التي واجهتها في أداء مهامها. ويتضمن التقرير السنوي كذلك توصيات الهيئة ومقترحاتها الموجهة للحكومة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية وباقي أشخاص القانون العام ومؤسسات القطاع الخاص حول التدابير التي يتعين اتخاذها لترسيخ قيم الشفافية والحكامة وتخليق المرافق العمومية، وتصحيح الاختلالات التي تعاني منها، بالإضافة إلى مقترحات الهيئة الرامية إلى مراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمجال اختصاصها. ويرفع رئيس الهيئة إلى جلالة الملك التقرير السنوي المشار إليه أعلاه، كما يقدمه أمام البرلمان الذي يناقشه في جلسة عامة. وينشر هذا التقرير في الجريدة الرسمية. د) أما بخصوص هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية فسنجد الأمر نفسه للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الذي يقدم تقريرا عن حصيلة وآفاق عمله كل سنة على الأقل. ويرفع رئيس المجلس هذا التقرير إلى الملك، ويوجهه إلى رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، ويكون موضوع مناقشة أمام البرلمان. وينشر هذا التقرير في الجريدة الرسمية. في حين يعد المجلسان الاستشاريان للأسرة والطفولة والشباب والعمل الجمعوي، مرة واحدة في السنة على الأقل، تقريرا عن أعمالهما، ويرفع رئيسا المجلسين هذا التقرير إلى جلالة الملك وينشر في الجريدة الرسمية. ويكون التقرير المذكور موضوع مناقشة من قبل البرلمان. ورغم كل الملاحظات التي يمكن إثارتها حول هذه التقارير السنوية، وبالخصوص عدم انسجام المقتضيات المتعلقة بهذه التقارير التي من المفروض أن تنجزها كل هيئة ومؤسسة على حدة، وبالخصوص ما يتعلق بمضامينها، وكذا "موقف" المجلس الدستوري سابقا والمحكمة الدستورية حاليا بخصوص هذه الهيئات والمؤسسات، وبالخصوص موضوع استقلاليتها وعلاقتها بالمؤسسة التشريعية، فإننا نعتبر أن هذه التقارير تشكل أداة للاطلاع على مدى ممارسة هذه المؤسسات لمهامها واختصاصاتها ومدى نجاحها في ذلك، ومدى قدرتها على أن تكون هيئات "حكامة جيدة" تتصف حقيقة بالنزاهة والشفافية في تدبير القطاع والمجال الذي تشرف عليه، لذلك لا بد من: - أولا، مداومة ومواظبة هذه الهيئات والمؤسسات على إعداد هذه التقارير بنوع من الجدية والاحترافية. - ثانيا، وضع آجال محددة، كما هو مفروض قانونيا على البعض منها، تقوم فيها هذه الهيئات بإنجاز هذه التقارير ووضعها رهن إشارة الفاعلين وباقي المؤسسات والسلطات الأخرى وكذا العموم، وأن يكون هناك احترام لهذه الآجال، خاصة أن التجربة أبانت أن هناك من لا يحترم آجال إنجاز هذه التقارير. - ثالثا، تضمنها لما يكفي من المعطيات والمعلومات ذات الموثوقية والصدقية، بما سيجعل منها مصدرا أساسيا للمعلومات ومرجعا لا محيد عنه، سواء بالنسبة للفاعلين أو للحكومة أو للبرلمان أو لباقي المؤسسات أو للمواطنين، وتقدم صورة حقيقية وواضحة عن القطاع أو المجال بكل شفافية، وبالخصوص أن هناك هيئات دستورية أخرى غير تلك المصنفة في هذه الفئة نجحت في إنجاز تقارير ذات أهمية قصوى وتشكل مرجعا ومصدرا ذا مصداقية يعتد به. من شأن كل هذا أن يعطينا صورة حقيقية عن مدى نجاح هذه الهيئات والمؤسسات في أن تكون بالفعل هيئات "حكامة جيدة"، ليس فقط في تدبيرها وإشرافها على القطاع أو المجال الذي تشرف عليه، ولكن أيضا في ما يتعلق بتدبيرها وتسييرها الداخلي إداريا وماليا (طريقة اشتغالها وتسيرها وأشكال التوظيف فيها وطرق إنفاق ميزانياتها)، لتكون نموذجا يحتذى به في الحكامة؛ كما أنه سيضفي على أعمالها طابع الشفافية والنزاهة والحياد والتجرد، التي تشكل قيما أساسية من قيم هذا النوع من المؤسسات والهيئات، وستعزز مبدأ استقلاليتها بشكل فعلي. * أستاذ جامعي