لم يكن بأي حال من الأحوال سهلا في فترة ما قبل كورونا الحصول وتجميع معطيات ذات قيمة وتأثير في وضع أي تصور لنموذج تنموي جديد، كما بات ذلك ممكنا بفضل الأزمة الصحية العالمية وأثرها محليا. إن الأزمة الصحية الراهنة، كما بدأت منتصف مارس الماضي وما انعكس بسببها اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا، مكنت من إحداث كشف عام وشامل وعميق لمجموعة من الحقول والمجالات الحيوية الواجب افتحاصها وتشخيص حالتها للخروج بخلاصات وأفكار تمكن من وضع نموذج تنموي جديد مبني على أسس متينة وفقا لمعطيات ووقائع دقيقة. ومن ثم، فإن فترة الستة أشهر الإضافية التي تمت الموافقة عليها لإعداد النموذج التنموي الجديد لن تكون سوى في صالح إعداد مشروع مبني على معلومات وواقع تم اكتشافه واختباره بشكل جيد إبان فترة حالة الطوارئ الصحية. فترة الحجر الصحي، وإن كانت قد منعت التقاء المعنيين بإعداد المشروع ومواصلة جولاتهم للاستماع لعدة أشخاص وهيئات وفاعلين على اختلاف مواقعهم، وفرت بالمقابل كشفا وتشخيصا عاما للحالة المراد الاشتغال حولها وفي مجالات ذات أولوية قصوى تنمويا؛ وعلى رأسها الصحة والتعليم والبحث العلمي والاقتصاد وكذا البعد الاجتماعي والسوسيولوجي والنفسي للمجتمع والأفراد. يمكن أن نعرف النموذج التنموي على أنه تمثل ذهني لتغيير إرادي قصد تحقيق النماء والوفرة من منطلقات اقتصادية واجتماعية وسياسية، عبر جهد ذاتي لاستغلال أمثل للموارد والطاقات الذاتية. ولعل أي تمثل أو تصور لن يتم إلا عبر تشخيص مفصل ودقيق للوضع الراهن قصد الوقوف على محدودية ونقائص النموذج الحالي بغية تطوير نموذج يتجاوز الأعطاب الحالية وكذلك تحديد مكامن القوة قصد استغلاها وتطويرها. هذا التمثل الذهني يتم تنزيله في الغالب عبر تحديد الغايات الكبرى ووضع السياسات العامة ثم وضع الإستراتيجيات ورسم الخطط بعيدة ومتوسطة المدى ورسم الهياكل والأطر التنظيمية وتحديد الوسائل والموارد اللازمة لتوفير البنى التحتية القادرة على مواكبة الخطط والأهداف المرسومة، وبنفس الأهمية بنى القوانين التي ستنظم مختلف مراحل العمل لبلوغ الأهداف المرجوة. ليس هناك اختلاف على أن أزمة كورونا هي أزمة بلا سابقة، وإن كانت لها مزايا وإيجابيات عديدة فإن أولاها هي هذا الاختبار والجس العام السريع الذي مكنتنا من القيام به على أكثر من صعيد واكتشاف قدرتنا على استقبال وامتصاص وتحمل الصدمات والهزات على مستويات متفرقة. واضح أن ما أماطت اللثام عنه الأزمة لم يكن فقط نقائص واختلالات، بل كانت هناك أيضا نقاط قوة عديدة يجب رسملتها وتطويرها بشكل يخدم خطط التنمية المنشودة. أما بالنسبة لنقط الضعف، فالعلم بها ومعرفتها هو أول خطوة نحو تداركها ومعالجتها. بما أن بداية الأزمة كانت صحية قبل أن تمتد انعكاساتها إلى جل مناحي الحياة اليومية، فلا بأس من ذكر بعض ما دفعتنا إلى اكتشاف أهميته في الجانب الصحي وعلى رأسه تقييم شامل للمنظومة الصحية انطلاقا من البنى التحتية من وحدات استشفائية ومختبرات طبية وطاقة استيعابية ومواد وتجهيزات وأطر طبية وصحية مقارنة بعدد المواطنين، حيث تم إجراء مقارنات مع دول مجاورة ودول سبقتنا للجائحة. وقمنا بنوع من المحاكات لأزمة بنفس الحجم وقدرتنا على الصمود، فكان طبيعيا أن نقف على العديد من النقائص، سعينا إلى تغطيتها عبر تدابير وميزانيات وضعت بسرعة لتدارك الأمر. ما إن علمنا بدخول الفيروس للمغرب وتحوله إلى جائحة، حتى تم التساؤل مباشرة عن دور المختبرات الوطنية في المنافسة على إيجاد لقاح للمرض أو دواء للعلاج؛ فأدركنا كما لم ندرك من قبل أهمية البحث العلمي وتشجيعه والتوفر على كفاءات مغربية تعمل محليا من أجل التطوير والابتكار، ليس في المجال الطبي فقط ولكن في باقي المجالات العلمية والتقنية بالأهمية نفسها. في المقابل، وقفنا على أمثلة عديدة لطاقات بشرية محلية بادرت إلى العمل والاجتهاد بالوسائل والمواد المتاحة محليا للمساهمة بأدوات تمكن من التخفيف من أضرار الجائحة. ومثال ذلك، ثلة الشباب الذين بادروا إلى تصنيع أجهزة للتنفس بغية تغطية أي خصاص مرتقب. في الشق الاقتصادي، الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من الأزمة تكاد لا تحصى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسعها مقال أو مقالات عدة؛ بل تحتاج بحوثا ودراسات. وهنا سنذكر بعضها. ما إن تم الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية وتوقفت غالبية الأنشطة الاقتصادية باستثناء سلاسل الإنتاج الفلاحية والغذائية، تحقيقا لهدف الحد من التنقل، وقرار إغلاق الحدود مع الإبقاء على الخطوط التجارية حتى انتبهنا فجأة إلى قدراتنا الإنتاجية وساءلنا مواردنا الذاتية وطرح السؤال هل سيكون هناك اكتفاء ذاتي إبان مرحلة مرور الجائحة؟ فبادرت الوزارة الوصية لحسن الحظ بالطمأنة على أن سلاسل الإنتاج وخطوط الإمداد مستمرة في العمل وأن المخازن تدخر ما يعادل استهلاك ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر حسب المواد. طبعا، يظل السؤال مطروحا على مدى قدرتنا على الصمود لمدد أطول في أزمات أخرى؛ فالتاريخ يخبر أن الدول تتعرض من حين إلى آخر لأزمات مختلفة قد تكون عبارة عن أوبئة وأمراض فتاكة، أو حروب إقليمية أو عالمية أو موجات جفاف أو كوارث طبيعية قد يكون لها أضرار أشد من أضرار جائحة كورونا. وهذا يدفع نحو يقظة أكبر وحس استباقي وخطط جاهزة لمواجهة الأزمات المحتملة. سؤال آخر طرح بقوة حول الاستقلالية في مجال الإنتاج الغذائي ومشكل التبعية والاستيراد وما يطرحه من إكراهات وسلبيات، ولعل أبرزها الخضوع لشروط القوى الخارجية (تجارية، اقتصادية وسياسية). وهذه مناسبة تدفع نحو العمل على تعزيز وتطوير الإنتاج الفلاحي والغذائي المحلي باعتبارنا بلدا يتوفر على الأراضي الكافية الصالحة للزراعة وأراض أخرى صالحة للاستصلاح الزراعي. في الشق الاقتصادي أيضا طرح إشكال المساهمة القطاعية في الناتج المحلي الإجمالي وكيف أن اعتماد وارتكان الاقتصاد لقطاعات دون غيرها قد يشكل خطرا عند تعرض هذه القطاعات لشلل أو صعوبات عالية. والحال هنا مع قطاع السياحة الذي شل شللا شبه تام، ووجد الاقتصاد نفسه محروما من القيمة المضافة التي يخلقها هذا القطاع الحيوي، فيما وجد مئات الآلاف من مستخدمي القطاع في توقف اضطراري عن العمل. أما في الشق الاجتماعي، فظهرت الهشاشة بينة لمئات الآلاف من الأسر، ولعل أهم شاهد على ذلك هو رقم 4,5 ملايين مستفيد من الإعانات التي قدمت للمتضررين من جائحة كورونا وتسجيل أكثر من مليوني شكاية من غير المستفيدين. وهنا يظهر حجم العمل المنتظر من أجل تقليص هذه الشريحة عبر خفض الهشاشة وتوفير موارد قارة لهذه الفئات بواسطة الرفع من قابلية التوظيف، الذي يتأتى عبر التأهيل والتكوين وخلق فرص شغل قارة. بعيدا عن المجالين الاقتصادي والاجتماعي، أظهر قطاع التعليم العديد من نقط الضعف. ولعل ذلك تمثل جليا في الفروق بين المجالين الحضري والقروي وتكافؤ الفرص في التمدرس عن بعد وضعف الولوج إلى شبكة المعلوميات، إضافة إلى ضعف المحتوى التعليمي الرقمي، على الرغم من جهود الوزارة الوصية في تدارك الأمر. قطاع التعليم يتصدر لا محالة قائمة القطاعات التي تنتظر رفعا في الميزانية وتدبير عصري جيد وإصلاح للمنظومة بغية إحداث نهضة في الميدان لتجاوز الثغرات والهفوات المتراكمة منذ عقود. تباين آخر برز في طريقة تعامل القطاعين العام والخاص في التعليم، حيث تعرض هذا الأخير لانتقادات لاذعة وأعاد إلى الواجهة إشكال إعادة تأهيل المدرسة العمومية وإرجاعها لتوهجها السابق. وبعيدا عن النقائص والسلبيات التي أظهرتها الأزمة، برزت كذلك العديد من الإيجابيات. ولعل أبرز هذه الإيجابيات سرعة وكفاءة الدولة في التعامل مع الأزمة عبر إحداث لجنة القيادة ولجنة اليقظة الاقتصادية وكذلك إحداث صندوق للمساهمة في مواجهة تداعيات الجائحة واتخاذ رزمة من القرارات الاستباقية مكنت من تقليص عدد الإصابات المتوقعة والوفيات، حيث عرفت هذه الإجراءات شبه إجماع من مختلف المراقبين. طريقة التدبير لتوزيع الدعم ودراسة طلبات المستفيدين لاقت استحسانا كبيرا من خلال الاعتماد بشكل شبه كلي على الرقمنة واستغلال التكنولوجيا الجديدة للهواتف الذكية. أظهر هذا الشق أهمية الرقمنة كمسار لا محيد عنه نحو إحداث أي نوع من التنمية المتوخاة. وسيحظى هذا المجال لا محالة بالدعم والاهتمام اللازمين قصد إنجاح هذا الانتقال للعالم الرقمي. ولعل بوادر هذا التوجه بدأت مع هذه الأزمة، حيث شرعت الإدارة العمومية في تحفيز العمل عن بعد والتقليص من تداول الأوراق وطورت بوابات عديدة للولوج إلى خدمات مختلفة. يظل كل ما سبق أمثلة عما كشفته الأزمة من أماكن الهشاشة ومكامن الضعف في قطاعات متعددة وعرت مفاصل كساها الخلل، ولم يكن من السهل التوصل إليها أو إيلاءها اهتماما في ظروف عادية. ينظر إلى هذه الأزمة على أنها ستمكن من إحداث مراجعات عديدة في سلم الأولويات وتسهيل الوصول للخلاصات للمشتغلين على إعداد النموذج التنموي. بعض الخلاصات، وكما سبق الذكر، قد تتركز في الحاجة إلى تطوير البحث العلمي وتوفير ميزانية مضاعفة ووسائل مادية وبشرية مهمة لتشجيع البحث والتطوير والابتكار، إضافة إلى ضرورة تطوير وتقوية صناعات محلية تمكن من الحد من الاعتماد على الخارج، خصوصا في الميادين الحيوية وتطوير الفلاحة والإنتاج الفلاحي قصد تغطية الطلب وعدم اللجوء إلى الاستيراد إلا في المواد الملحة. كما يجب العمل بشكل جاد على اعتماد الرقمنة مما أبدته من فعالية في معالجة مجموعة من المواضيع، والاشتغال على تقوية الطلب الداخلي عبر توفير فرص الشغل وتحفيز الاستثمار. يظل كل ما سبق بعض مما ساعدت الأزمة الصحية في إبرازه إلى السطح والذي تزامن مع اشتغال اللجنة الخاصة للنموذج التنموي. يبقى حقل الأبحاث خصبا وفي مجالات مختلفة للبحث عن سبل إرساء نموذج تنموي جدير بترجمة أهداف التنمية في خلق الثروة وإحداث النماء في المجتمع إلى حقائق على أرض الواقع. *خريج المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير. فوج 2008.إطار بنكي.