يمضي الرّجال واقفين كالأشجار، صامدين كالجبال، شامخين كنجوم بعيدة تلمع في القلوب..تلمع بألف معنى، حيث يتحوّل المصير إلى أمصار والخطوة إلى خطوات من أجل الكلّ لا غير...هكذا كان الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الزّعيم السّياسي والمناضل الوطني البارز من أجل الحريّة والاستقلال، مُنشغلا بصناعة فكرة للوطن، حاملا هموم المواطن، وزارعاً الأمل في اليوم والغد والقادم من الأيّام. في عشرينيات القرن الماضي، كانت طنجة الدّوليّة تموج بزرقة البحر، بوجوه الشّعوب، وبأصوات متعدّدة وبذاكرة محفوفة بظلال أزليّة..حينما أطلّ الشّاب عبد الرحمان اليوسفي بقامته كومضة ستنهض وتتقوّى أجنحتها صُعوداً وتجاوزاً..كان فسحة بيضاء ناصعة، ممتلئة حيويّة، تُجيد إدارة المُخيّلة وتنخرط في معركة الوعي والتّأطير وتقود شعلة المقاومة والتّمرّد على الظّلم..وتنْجب أجوبة دقيقة عن مرحلة طويلة كانت مفتوحة على الاحتمالات. لم يكن الطّريق مُعبّداً ولا مكلّلا بالورود، ولم يكن البحر الذي شهد عنفوان ونضال الأستاذ اليوسفي إلاّ بحراً آخر واسعاً ومُخيفاً، سيتلاطم بأطماع المستعمر وبالحروب والدّسائس والأشواك والقلق؛ فكان مُحامياً وحقوقياً بنبض الشّباب وحيويّتهم وبعزيمة مبنيّة على التّضحيّة، يسهرُ على مطالب المستضعفين ويتبنّى القضايا العربيّة والقوميّة والدّفاع عن حقوق الإنسان، جاعلا من ذلك مفهوماً وعقيدة وممارسة نظيفة. كان الرّجل ينتمي إلى شعاع الكون وبيتاً للحِكمة، يفكّر ويدبّر قبل أن يسلك سُبلاً، كما كان ذاتاً حُرّة فاعلة عاشت المُجازفة والمُغامرة، فرضت عليه أحياناً أن ينفي ذاته.. لقد أكّد رغبته العميقة في أن يكون فرداً بسيطاً في جماعة، يضع أسّاً متيناً وحجراً وراء حجر، ويقف على مسافة موضوعيّة بينه وبين كل المُغريات، في وقت اشتبك الرّاهن بموجات مصالح يركبها البعض بتهافت مهين. جايل الزّعيم اليساري الرّاحل وطنيّين كباراً ك: امحمد بوستة، المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، محمد بن سعيد أيت يدر، عبد الله إبراهيم، محمد البصري، علي يعتة...الذين خلّفوا تقديراً رحباً وحقل بطولات وفتوحات لا يكفي هذا الحيّز للوقوف عليها.. كان جوهراً يتعالى عن الهامش، مُترفّعاً عن منعرجات الأقنعة وخيبات الكلام، وكان أيضاً في مجرى الاختلاف واحداً من العاكفين على الاستقامة، وما أقلّهم، وقد تجلّى ذلك في أكثر من مستوى مُتجسّداً في قوّة شخصيته وعمق ثقافته وعدالة نضالاته. هذا بعضٌ من الحكاية، وهذه ملامح من حقبة متوهّجة من تاريخنا علينا أن ندركها جيّداً؛ مرحلة عاش في عُمقها الفقيد لحظة المخاض والولادة وإحداث التغيير وخلق وعي جديد والتّأسيس للمستقبل، فقاد السّياسة ولمْ تقدْهُ وأخذ شرعيته من الباب الواسع الذي كان امتيازه الأسمى والوحيد عبره هو العفّة ونكران الذّات والضمير الحيّ والتّضحية، فربح نفسه وحبّ النّاس. في مسار ينتصر لقيم الفكر والأدب والفنّ، كان الرّاحل الأستاذ اليوسفي أكثر التحاماً ومُتابعة لأسئلة الثقافة ومؤازرة المبدعين في صور ملموسة وفي محطّات عديدة ومساحات مُضيئة، معتبراً أنّ الثّقافة ليست ترفاً أو مظهراً مُكمّلا للحياة العامة، بل صانعة للمعرفة وهواءً مُتجدّداً وفعلاً أساسياً في البناء المجتمعي. وأنا أمعن في شريط مسار الفقيد، ردّدت في نفسي: "الكبار لا يرحلون، إنّما يغيّرون شُرفاتهم". في غفوته الأبديّة سيبقى هذا الزّعيم ضميراً يُحلّق كعصفور في الأزمنة، ليقول كلمته في اللّحظة المناسبة.