لا يخفف عنا في هذه الغربة الباردة التي أرسلتنا إليها لقمة العيش إلا ما يصلنا بين وقت وآخر من رحيق الوطن: عسل وزيت زيتون وفطائر ترسلها الوالدة العزيزة، مع حلويات كعب الغزال التي تتفنن أختي بخبزها. لكن لا شيء وصل إلى الأراضي المنخفضة منذ ثلاثة أشهر، بسبب الحجر الصحي وإقفال الحدود. لم يخفف عني قليلا إلا الانشغال بالمكتبة الغنية لرفيق سكني الذي لا يطلب من عائلته في تطوان شيئا غير جديد الإصدارات الروائية المغربية. بعد أسابيع من النهل من مكتبة شريكي، انتبهت لرواية صغيرة الحجم بدا لي اسم كاتبها مألوفا جدا. ثم تذكرت أننا تشاركنا سنة دراسية أولى في كلية الآداب في مارتيل، قبل أن يذهب كل منا في طريق مختلف. ذهبت أنا لدراسة الإعلاميات، دون أن ينقص ذلك من شغفي بالاطلاع على جديد الإبداعات الأدبية والتوجهات النقدية، ثم انتقلت إلى إسبانيا وبعدها هولندا، وقد انقطع تواصلي تماما مع زملاء الدراسة إلى أن أمسكت رواية "كافكا في طنجة" لكاتبها الشاب محمد سعيد احجيوج، وعادت كل الذكريات إلى وعيي دفعة واحدة. تحكي الرواية عن جواد الإدريسي الذي يجمع بين وظيفة التعليم ومهنة بيع الخضر. تخلى جواد عن دراسته الجامعية وطموحاته الشخصية الخاصة، واشتغل ليعيل أمه وأخته بعد أن اعتزل والده العمل في الحانة وتفرغ للاستغفار. لكن بعد سنوات من الإخلاص المستسلم للواجب الأسري، وبعد أن تعود جواد ونسي أحلامه الشخصية، جاءت الصدمة المباغتة واستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى مسخ شيطاني بقوى سحرية لن يعرف عنها شيئا وهو يستيقظ كل صباح لا يتذكر شيئا مما حدث الليلة السابقة. صار جواد يفقد نفسه بعد أن فقد وظيفته وفقدت أسرته معيلها. لقد صار الآن هو ذاته عالة على أسرته، ولم يعد أمامه إلا أن يضحي بنفسه ويقدم حياته خلاصا لمعاناة الأسرة ولأسرارها الدفينة التي برزت إلى السطح. اختار الكاتب أن يحاكي رواية عالمية شهيرة، هي رواية "التحول" لفرانز كافكا، لتمرير رسائله التي تنثر الملح في جراح المجتمعات العربية، والمجتمع المغربي خاصة، كما استخدم حبكة الرواية العالمية ليبني عليها رواية معاصرة لشاب مغربي يستيقظ ذات صباح ويجد نفسه، مثل بطل رواية كافكا، تحول إلى مسخ. لا يخجل الكاتب ولا يتردد من وضع أصابعه العشرة في الجرح ويدخلها عميقا ليكشف تحولات المجتمع المغربي بأسلوب عذب وسلس مع سخرية مبطنة مما يقع في المجتمع الموبوء بعجيب تناقضاته وتضارب قيمه، المكشوف منها والمستور. استعان الكاتب في روايته الأولى بخبرة الكاتب المحترف، تقنيات سردية متنوعة، منها تقنية الاسترجاع (فلاش باك) لعرض حكاية الأب في مسار يوازي حكاية الابن، تقنية الاستباق (فلاش فوروارد) ليأتي بأحداث مستقبلية خارج الخط الزمني الأصلي، تقنية تعدد الرواة من خلال سرد يوميات الأخت بصوتها الخاص لتمثل سردا للأحداث من زاوية نظر مختلفة عن الراوي الرئيسي، تقنية التناص، أو التعالق مع النصوص الأخرى، وذلك بصيغ مختلفة، سواء بالإشارات المضمنة في المتن إلى نصوص روائية عالمية أو بتسمية كل فصل بعنوان رواية شهيرة. من التقنيات الجميلة أيضا الاعتماد على راو غير بشري، بمثابة كينونة تمثل مصدر كل الحكايات. نقرأ مثلا من الصفحتين 7 و8: "تسألون من أنا؟ يا لفضول عقلكم البشري المحدود الذي لن يستطيع استيعاب كينونتي الشاسعة. يكفي أن تعلموا بأنني حملت أسماء كثيرة على امتداد تاريخكم الإنساني. منها الشاعر الضرير، شكسبير، الحكواتي... وربما أشهرها لديكم هو شهرزاد. وتسألون الآن أين تدور هذه الأحداث؟ يا لفضولكم اللامحدود. هل هذا مهم حقا؟ فليكن المكان هو مدينة طنجة. لكن بالتأكيد ليست مدينة طنجة التي تعرفون. هذه طنجة أخرى تشبهها. طنجة موازية لما تعدونه العالم الواقعي. إلا أن هذا التوازي لا يعني أنها خيالية. لنتفق من البداية على أن ثنائية الواقع والخيال نسبية تماما". أسلوب الكاتب جميل ولغته رشيقة، والحكاية مشوقة تمسك بك ولا تتركك إلا بعد أن تكمل قراءة الرواية. أنا قرأت الرواية في جلسة واحدة استغرقت ساعتين، وبقيت مشغولا بأحداثها وأفكارها. حين استيقظت من النوم في الصباح التالي وجدتني ما أزال مسكونا بسحر الرواية، فأعدت قراءتها من جديد. نقرأ من الفصل الأخير من الرواية: "هل مات حقا؟ هل يمكن أن يكون الكمد قد أوقف قلبه أم تراه انتحر عمدا؟ لن أستغرب لو أن الوالد العزيز قام بالحركة الأخيرة بعد الفضيحة التي سببها لنا مع ضيفنا الفرنسي وأجهز عليه. لكن هل يهم هذا حقا؟ كلا. لا. لا يهم". حسب السيرة الذاتية المسطرة في الموقع الشخصي للكاتب، فإنه يستعد حاليا لصدور روايته الجديدة "أحجية إدمون عمران المالح" التي ستصدر في بيروت عن دار نوفل/هاشيت أنطوان. تعتبر "كافكا في طنجة" روايته الأولى بعد مجموعتين قصصيتين هما "أشياء تحدث" و"انتحار مرجأ". كما أن مخطوط روايته الأخرى "ليل طنجة" فاز بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية. * مهندس معلوميات (هولاندا)