لقجع: الحكومة لا تعمل على مأسسة الفقر    المنتخب المغربي يقسو على مُضيفه المنتخب الغابوني بخماسية    عصبة الأبطال الإفريقية للسيدات (المغرب 2024).. الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي بفوز مقنع على جامعة ويسترن كيب (2-0)    جثة متحللة عالقة في شباك قارب صيد بسواحل الحسيمة    رئيس الحكومة الإسبانية يشكر المغرب على دعم جهود الإغاثة في فيضانات فالينسيا    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    وزيرة مغربية تستقيل من الحكومة الهولندية بسبب أحداث أمستردام    الركراكي يكشف تشكيلة الأسود لمواجهة الغابون    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    الصحراوي يغادر معسكر المنتخب…والركراكي يواجه التحدي بقائمة غير مكتملة    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت" (فيديو)    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل        إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق        تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سطوة القانون وبرهان القضاء
نشر في هسبريس يوم 29 - 05 - 2020

لما كان تشكيل المجتمع الإنساني ضروري في العادة أو كما يعبر عنه الحكماء (الإنسان مدني بطبعه) فإن هذا التجمع البشري لا ينضبط ولا يثبت قوامه إلا بقواعد قانونية ملزمة للجميع ومتصفة بالتجريد، فلا يستثنى أحد من أفراده إلا وملكته بضبطها، وواجهته بسلاح العقاب والزجر، عند انعراج أي سلوك أو إنحراف أي طبع عما ألفته الجماعة، وفي ذلك حفاظ على تماسكها وتلاحمها بما يصون أركان الدولة ويقوض أطباع رعيتها.
وأخذا بهذا البناء المعرفي ظهرت فكرة القانون وتعززت الحاجة إلى سنه وتوثيقه وتعديله وملائمته لما يستجد من ظروف ومتغيرات، بالنظر إلى ميزته الفضلى في ضبط سلوك الفرد والجماعة، في جميع الأحول المدنية والشخصية والزجرية والإدارية، وعلى المستوى الدولي من حيث ملازمة التعهدات التي تضمنتها الاتفاقيات الدولية، تعبيرا عن إرادة الدول في استحالة استمراريتها من غير تعاون متين يشمل الجانب الاقتصادي والسياسي ويفتح الأفق نحو تلاقح وانفتاح ثقافي.
ولأن القانون شكل بالنسبة للدول الديمقراطية ولشعوبها أبلغ ما اتفقت عليه العزائم وشحذت من أجله الهمم، فإنه حسب دستور المملكة لسنة 2011 يعد – أي القانون - أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ونص في فصله السادس على جعل جميع الأشخاص ذاتيين أو اعتباريين بما فيها السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له والخضوع لأحكامه.
والقانون وفق هذا المعنى يحفظ النسق الاجتماعي من الزوال، ويخاطب بأحكامه جميع الأشخاص على السواء، ويسعى المشرع من خلاله إلى تأسيس حزمة من الحقوق كالحق في عقد المعاملات، والحق في التقاضي أمام المحاكم، والحق في المشاركة في تدبير الشأن العام، والحق في الأمن والصحة، وغيرها من الحقوق التي تقابلها مبدئيا العقوبات والتدابير المقررة لما يتحصل من جرائم ومخالفات حسب ما اتفقت عليه مضامين العقد الإجتماعي، ومن أجله تنشد العدالة تقريب الحقيقة الواقعية مع الحقيقة القضائية إلى أبعد الحدود لإعادة الاعتبار لحاكمية القانون.
وإذا كان العدل يتلخص حسب سيموند فرويد بأن يُعطى لكل ذي حق حقه، فإن عملية نقل الحق المنتزع إلى الطالب المستحق تتطلب تدخل القضاء بسلطته ومهابته التي يستمدها من القانون نفسه، بعد تسييج أعضائه بالحماية اللازمة، والإشهاد له بالاستقلالية التامة عن باقي سلطات الدولة، مع استمرار تعاونها وتوازنها وفق ما أكده الفصل الأول من الدستور، وهو ما يعبر عنه في قاموس العلوم السياسة بالفصل المرن للسلط.
ونافل القول في هذا الربط بين سطوة القانون وعدالة القضاء أن مشرع الوثيقة الدستورية قد تنبه إلى تمييز واضح بين تطبيق القانون والتطبيق العادل للقانون، ويتجلى هذا التباين في منصوص الفصل 110 منه الذي جاء كالأتي (لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون)، بينما نص في الفقرة الثانية بأنه (يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها).
على أن الملفت للاهتمام في نص هذا الفصل أن الدستور أناط بقضاة الأحكام مهمة التطبيق العادل للقانون، دون قضاة النيابة العامة الملزمين فقط بتطبيق القانون من غير تقيد بواجب تحقيق العدالة، الأمر الذي يقودنا للتساؤل عن جدوى هذا الفصل المتباين في المهام، وكأن قرارات النيابة العامة لا تحظى بالمرونة والنباهة التي تستلزمها متطلبات العدالة، تبعا لتغير وتنوع المجالات التي تتدخل فيها النيابات العامة؟
ومن أجل وضع حد لهذا الالتباس المفاهيمي تدخل المجلس الدستوري في معرض مراقبته لدستورية المادة 25 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في قراره الصادر بتاريخ 15 مارس 2016 عدد 992.16 حيث أشار على هذه الوضعية بالقول أن الدستور ((لم يميز بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة إلا في بعض الجوانب اللصيقة بطبيعة عمل كل منها))، وأضاف بأن الدستور ((متع القضاة جميعا وبدون تمييز (قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة)، بنفس الحقوق وألزمهم بنفس الواجبات، كما أخضعهم لنفس الأحكام)).
كما تتضح وجهة النظر هاته التي ذهب معها قرار المجلس الدستوري في تساوي وظيفة قاضي النيابة العامة وقاضي الحكم، في تطبيق العدالة وبتها في جسم القوانين المسنونة، من خلال إرشاد الدستور للقضاة إلى تطبيق القانون وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان أمنهم القضائي، من غير إفراد هذا الاختصاص لقاضي الحكم وحده.
وبذلك فإن واجب تحقيق العدالة من وراء النص القانوني يقع إلتزاما مشتركا يتقاسمه قاضي الحكم وقاضي النيابة العامة، كل من موقعه القضائي وبأدواته وآلياته الخاصة – المقصود بالأداة هنا القانون الواجب التطبيق - فالشرط اللازم لوظيفة القضاء أضحى يجاوز إيقاع الجزاء القانوني، ويتجاوزه إلى بلوغ العدالة، وإدراك الإنصاف الذي ينشده الأطراف، ويتغياه المتقاضون.
والجدير بالملاحظة أن الدستور الحالي من خلال الفصل 117 منه قد حقق مفهوم الأمن القضائي إلى جانب الأمن القانوني، إسوة ببعض الدساتير الأجنبية، كالدستورين الألماني والبرتغالي، وربط هذا المبدأ بوظيفة القضاء، وهكذا فإن القاضي وهو ينظر في القضايا والخصومات، يحظى بالتزامين دستوريين يتمثلان في تطبيق القانون والحرص على ضمان الأمن القضائي للأشخاص والجماعات، فقد يبدو من الوهلة الأولى أن وظيفة إمضاء الأمن القانوني تستقل بها السلطة التشريعية المخول لها بالأولوية وضع القاعدة القانونية، تبعا لنظام فصل السلطات والاختصاصات، لكن بمقابلة مقتضيات الدستور ومقارنتها، وعملا بمبدأ تعاون السلطات وتوازنها كمقوم للنظام الدستور المغربي حسب فصله الأول، يتضح جليا أن السلطة القضائية تحقق مراد القانون في ضمان الأمن القانوني كواجب دستوري، وتشارك في صناعة القانون ورسم معالمه بإجتهاد القاضي وإيجاده الحلول الممكنة لما يستشكل عليه من نوازل، في مرحلة إسقاط الواقع على القانون عبر تطبيق الأمن القضائي كفرض دستوري أيضا.
ومما يسترعي انتباه القارئ للفصل 110 من الدستور أن المشرع الدستوري بتنصيصه على واجب القضاة في تطبيق القانون على أساس العدالة، قد أراد من ذلك الانفتاح على كلاسيكيات المدرسة الأنجلوساكسونية، لما تعرفه أنظمتها القضائية من مرونة موفورة ورجحان مقرر للأعراف والعادات، وإعمال لقواعد العدل والإنصاف، والقطع مع الشكلية المفرطة، التي تغل يد القاضي في بعض الأحايين من مناقشته لموضوع الدعوى والنظر فيها بحجة تطويق قواعد الشكل بالنظام العام، وما يرتبه ذلك من تغليب الشكل على المضمون، وهي سمة تتصدر بها الأنظمة القضائية ذات التوجه الروماني الجرماني.
هذا، وبالإضافة إلى ذلك فإنه على فرض اتباع تشريع معين للنظام الجرماني المنتصر لقواعد الشكل والمُبالغ في تسطيح النصوص القانونية على النحو الذي يحول وإمكانية إجتهاد القاضي أو توسعه في تفسير النص إلا في قضايا محدودة وفي مسائل ضيقة، فإن منهج بناء القاعدة القانونية في هذا التشريع وغيره – ومنها التشريع المغربي – يستند إلى مصادر متنوعة ومختلفة نجد منها بالأساس الإجتهاد القضائي المتواتر والقار، ذلك أن السلطة القضائية تصنع النص القانوني من حيثية الاجتهاد القضائي، كمصدر من أهم مصادر القاعدة القانونية خاصة في النزاعات ذات الطابع الإداري، حتى قيل فيها بأن القانون الإداري المدون قد نشأ وتولد من تراكم مجموعة من الاجتهادات القضائية.
غير أن إسهام الاجتهاد القضائي في صناعة التشريع قد جوبه بالرفض من قبل أنصار نظرية ذاتية القانون، بعلة أن القاعدة القضائية غير مستقرة، ويصعب الإحاطة بها من قبل عموم الناس، ولو استرشد القاضي في ذلك بقواعد العدل والإنصاف، مما يمس بسيادة القانون، ثم استطردوا لاحقا من أجل التلطيف من حدة وصرامة هذا التفسير، إلى تبرير اقتناعهم إزاء إجتهاد القاضي بتقريرهم أنه لا ضير من قبول الاجتهاد القضائي كمصدر رئيسي للتشريع ما لم يعهد به إلى قليلي الخبرة.
ويعتبر بعض الفقه الاجتهاد القضائي كالدكتور موسى عبود بأنه مجموع الحلول التي تستنبطها المحاكم بمناسبة فصلها في المنازعات المعروضة عليها، ويعرف أيضا بكونه تلك الحلول الواقعية التي تتوصل إليها المحاكم بمناسبة معالجتها للإشكاليات القانونية في حالة عدم وجود النص القانوني أو غموضه أو لعدم استغراقه للواقعة المطروحة.
ولرصد أهم المعالم القانونية المرجحة لعدالة القضاء على سطوة القانون وجموده المطبق، نأتي على أبرز سلطة تتمتع بها النيابة العامة والأمر يتعلق هنا بسلطة الملاءمة، التي تعد تطبيقا صريحا لإعمال مبتغى القانون وإنفاذ القوانين الزجرية على الخصوص، فسلطة الملائمة تعد أسلوبا تقديريا لما يرد على النيابة العامة من مستندات ومحاضر وبلاغات بشأن ارتكاب الجرائم، فتتخذ فيها إما قرارا بتوجيه الاتهام، أو بحفظ المسطرة، لعلل تختلف بين إنعدام الإثبات أو إنكار المشتبه فيه، أو تفعيلا لسلطة الملاءمة.
ثم إن هذه السلطة المعهودة إلى النيابة العامة تمكنها من مراعاة التداعيات التي قد تنشأ عن تحريك المتابعات بشأن وقائع جرمية لا تستأثر باهتمام الرأي العام، وذلك لمحدودية أثارها أو لطيش مقترفها – المجرم بالصدفة أو المجرم الناشئ – أو لخلو سجله الجنائي من السوابق القضائية، وأحيانا رغبة من قاضي النيابة العامة في الحفاظ على مصلحة الجاني والمجني عليه، وعلى بنائهم الأسري – الجرائم الأسرية والنزاعات بين الأقارب – وبالتالي تحقيق التوازن المجتمعي المطلوب.
فالعدالة المستقاة من عمل النيابة العامة تجد تبريرها وسندها في هذا المبدأ المؤسس بموجب القانون (المواد 40 و 49 من قانون المسطرة الجنائية)، لذلك فالمشرع عند إقراره لمبدأ ملاءمة المتابعة والإجراءات الجنائية، وإسناد هذه الصلاحية إلى النيابة العامة وقضاء التحقيق، قد افترض في عملية تصريف العدالة أنها لا تقف عند تحريك الدعوى العمومية في جميع الجرائم المثبتة، أو توجيه الطعون في المقرارت القضائية كيفما قضت منطوقاتها، وتلك لصورة قاتمة تجعل من قاضي النيابة العامة يباشر دورا آليا مجردا من المرونة والإنصاف، وتدفع به إلى منحى المطالبة بإيقاع العقاب في كل الأحوال، وما يستتبعه ذلك من تأزيم وتضخيم القضاء الجنائي، بدل تبني توجهات السياسة الجنائية المعاصرة كما سنتها السلطة التشريعية وأوضحت طريقة تنفيذها مناشير ودوريات رئيس النيابة العامة.
لهذا فإن مبدأ الملاءمة يضمن مبدأ استقلال النيابة العامة في انفرادها بالدفاع عن مصالح المجتمع ومطالبتها بتوقيع الجزاء القانوني المناسب، وليس إشباع الرغبات والصراعات وتنفيس الأحقاد، فالنيابة العامة ليست أداة طيعة لتنفيذ أهداف شخصية ولا ممر لازب لجر الخصوم إلى ساحة القضاء، تحت التهديد النفسي والمعنوي، وإنما هي مؤسسة مواطنة تنتمي للسلطة القضائية المستقلة، قد تقوم بحفظ المسطرة المتضمنة لجريمة تامة من حيث عناصرها التكوينية، كما قد لا تطعن في حكم قضى بالبراءة أو بالإعفاء، أو تلتمس وقف سير الدعوى العمومية وتقترح الصلح على أطراف الخصومة الجنائية، وأيضا قد تتابع في حالة سراح في موضع الاعتقال وغيرها من تمظهرات العدالة في طبيعة عمل النيابة العامة، كما وصفها الفقيه بورطاليس بحارسة القضاء، وموجهة الاجتهاد، وسند المصلحة العامة. وأشاد بدورها وأهدافها مونتيسكيو في معرض تعيين ملك فرنسا فيليب لوبون لوكلاء ينوبون عنه في مباشرة الدعوى العمومية بإسمه.
وإذا كان فن القاضي هو إتباع القوانين في السوابق القضائية حسب فيكتور هيجو، فإن الإجتهاد القضائي المتكون من تراكم وتعاضد مجموعة من السوابق القضائية، قد شكل مصدرا لا محيد عنه في تشكيل القاعدة القانونية في جميع فروع القانون، ولأن القضاء بحكم ولايته العامة في تطبيق القوانين وإنفاذها تنكشف له عيوب النص ونقائصه، فيعمل على ملء فراغاتها وتوضيح معناها المرتاب، من خلال الإنفتاح على التطبيقات القضائية الأجنبية المماثلة، والنهل من قواعد العدل والإنصاف، درءا لتحجج الأطراف بذريعة إنعدام النص أو غموضه، للإفلات من العقاب والتملص من واقعية المسؤولية الثابتة.
والإجتهاد القضائي الذي ينبري فيه القضاة إلى تحقيق العدل والعدالة من وراء تطبيق القانون، هو ذلك الإجتهاد القار والمتواتر بين محاكم الموضوع، والذي تعمل من أجله محكمة النقض على ضمان توحيده كما أكدت عليه المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية.
وتبعا لذلك فإن مبدأ استقرار الاجتهاد القضائي يرد عليه استثناء مُؤداه أن محكمة النقض قد تَعدل عن سابق اجتهادها متى تغيرت مصالح المتقاضين، لكن تغيير الاجتهاد القضائي بأخر قد يتطلب وقتا طويلا حتى تتبين جدوى هذا التغيير وأسبابه، لأن في القرارات المبدئية والاجتهادية تمهيد لصدور قوانين لاحقة تفعيلا لها.
وعليه، فإن حكم القاضي في الحفاظ على موازين العدالة المتساوية يستدعي بالضرورة التخلص من قيود النص الجامد، وإمضاء قواعد تفسير النص المبهم بشكل واضح ومفهوم، والأخذ بقرينة البراءة، وإنجاز مبدأ حسن النية في المعاملات المدنية، والحرص على تثبيت التوازن الثلاثي في قضايا الأسرة بين الزوج والزوجة والأبناء، واستدراك ثقة المرتفق في الإدارة عبر حل النزاعات الإدارية بالشكل الذي يجعل المتقاضي يلامس تساوي وضعه القانوني مع مركز الإدارة أمام القضاء.
وفي سياق أخر، تزداد عدالة القضاء الزجري في الاستبيان والبرهان بتبني المشرع المغربي للنظام التفتيشي التنقيبي، الذي يقوم على جمع الأدلة والبحث عن مرتكبي الجريمة والتثبت من وقوعها قبل ممارسة الادعاء وتوجيه الإتهام، بمعنى أخر أن سوابق المتهم لا تنهض حجة على فساد سلوكه ولا دلالة على خطورته الإجرامية التي تبيح الحكم عليه في جرائمه المتوالية من غير فحص الأدلة، وتقديرها، ومواجهته بشهود الإثبات والنفي وإجراء الخبرات والإنابات، فالأسلوب التفتيشي في التحقيق الجنائي يستمد قوته من الشكليات التي تسبق المحاكمة، والتي تؤثر في كل المراحل اللاحقة بها، مما يكسبها دورا حاسما في مسار الدعوى العمومية، وهو ما لا يتوفر في النظام الاتهامي المفتقد لأوجه العدالة في تمثلاته، بحيث يسمح للمشتكي بتوجيه الاتهام الفردي بدون قيد أو شرط وبالتالي تسيده للاتهام الجنائي والتحكم فيه.
وما قيل عن عدالة القضاء الزجري في مقدرة الإجتهاد واستجابته لمتطلبات المساواة، يصدق على القضاء المدني والتجاري والإداري، وتفسير هذا الطرح في أن العملية القضائية ببلادنا ومنذ صدور دستور 2011، وتأكيده على عدالة القانون في فصله 110، أخذت مسارا استراتيجيا يقطع مع العهد القديم الموغل في التشبت بحرفية النصوص والاكتفاء بذاتيها، ومضمونها الظاهر، ولو شكلت ضرارا بمصالح الأفراد، ويربط الصلة من جديد بالفطنة والمرونة والدنو أكثر من العدالة وتقريبها من المتقاضين في حسانتها وإيجابياتها.
لذلك، فقد كانت المبارزة منذ ظهور الأنظمة القانونية الكبرى وإنقسام توجهاتها واختلافها بين التوجه الروماني الجرماني (نظام القانون المدون)، والتوجه الأنجلوساكسوني (نظام السوابق القضائية)، قائمة بين نظرية الكفاية الذاتية للقانون باعتباره أقصى ما توصل إليه الفكر الإنساني في تنظيم الشؤون العامة، وبين نظرية عدالة القضاء التي توفر للقاضي هامشا مضاعفا للإجتهاد، وفضاءا أرحب لإستيعاب مشاهد القانون وتوزيع عدالته وتطويره بما لا يقلل من سيادته.
ونضيف عليه أن نتائج المقارنة بين هاذين النظامين قد خلصت إلى ترجيح فعالية النظام الأجلوساكسوني على حساب نظام القانون المدون، لمرونته المستمدة من قاعدة: (أن ما لا يمنعه القانون فهو يبيجه) وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص جازم بالتحريم، كما تم إثباته في مجموعة من التقارير العلمية، ومن بينها تقرير البنك الدولي المنجز سنة 2004 حول مواكبة الأنظمة القانونية للتنافسية التجارية.
ولتحقيق هذا التوازن في عمل القضاء في الأخذ بين تطبيق ما سطرته السلطة المكلفة بالتشريع، وبين ملامسة العدالة وإستجلائها من القوانين الجامدة، من خلال البحث في مداخل إعمالها ومنافذ تطويعها من غير أن يخالف القاضي النص، وهي لعملية تتطلب تحقيقا بالغا وتدقيقا مضنيا بالنسبة للنظم القضائية التي تسيطر على تشريعاتها قواعد المذهب الروماني الجرماني، فإن الجدير بالمشرع أن يتبع مسلكا وسطا، ومذهبا مختلطا عند التشريع، يجمع فيه ويلملم أهم التطبيقات والأساليب الفعالة في كلا الاتجاهين (الروماني الجرماني والأنجلوساكسوني)، فلا نكب في الالتزام بالشكلية الجافة والإجراءات الثقيلة المقيدة لملكة الإبداع والتطوير والاعتدال، ولا نميل كل الميل نحو تغليب قواعد العدل والإنصاف والعادات والأعراف.
وتلافيا لأي فشل في مرحلة ترميم المناهج الفكرية لإرساء القانون، ينبغي ألا نعتمد عليها وحدها، وألا نغترف من خصائصها بالكلية، مما يجانف ويخالف ما تجود به أحكام الشريعة الإسلامية في مصادرها الأصلية (القرأن الكريم والسنة النبوية) والفرعية (القياس، الاستحسان، الاستصحاب، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا..) من توجيه إلى الأخذ بالعدل عند الفصل، وإقامة الميزان عند الحكم، وعندئذ نكون قد أقمنا تناسقا تاما بين مضامين المدارس القانونية الكبرى، مدرسة الفقه الإسلامي، ومدرسة القانون المدني (الروماني الجرماني)، ومدرسة القانون المشترك (الأنجلوساكسوني).
*باحث في العلوم القانونية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.