ترتبط المسؤولية الاجتماعية باستحضار مصالح المجتمع ضمن مختلف الأنشطة التي يقوم بها الأفراد والهيئات والمنظمات والشركات.. والتي تفترض الموازنة بين تحقيق المصالح والأهداف الخاصة من جهة، والاستجابة لمستلزمات التنمية، والمحافظة على البيئة من جهة أخرى.. فرض تطوّر الحياة الاجتماعية والاقتصادية في عالم اليوم، انخراط القطاع الخاص في بلورة تدبير حديث، يواكب هذه المتغيرات التي أضحت معها المسؤولية الاجتماعية أولوية، بالنسبة لعدد منه.. وقد تبلور المفهوم في أوساط الشركات في خضم التطوّرات التي شهدتها هذه الأخيرة منذ منتصف القرن المنصرم، كردّ فعل على الانتقادات الموجهة للقطاع الخاص، واتهامه بالمبالغة في التركيز على تحقيق الأرباح الخاصة، دون الالتفات إلى مجمل المشاكل التي تعاني منها المجتمعات.. تتّصل المسؤولية الاجتماعية للشركات بمجمل النشاطات الطّوعية (الاختيارية) وغير الطوعية (تؤطرها التشريعات) التي تباشرها كسلوكيات تعكس انفتاحها على محيطها الاجتماعي، وما يتّصل بذلك من تقديم خدمات إنسانية تدعم التضامن، وترسّخ قيم المواطنة.. والالتزام تجاه المجتمع، والمساهمة في تحسين ظروف عيش أفراده.. شهدت المسؤولية الاجتماعية انتشارا واسعا في أوساط عدد من الشركات، بعد التحوّل الذي طرأ على وظائف الدولة التي تخلّت عن الكثير من مهامها لفائدة الخواصّ، في إطار اعتماد ما يعرف بالمقاربة التشاركية.. كسبيل لتخفيف الأعباء، وترسيخ التضامن، وتحقيق الجودة. ثمّة عوامل ذاتية، وأخرى موضوعية أسهمت بشكل كبير في إنضاج المفهوم، واقتناع عدد من المقاولات بأهميته، حيث اعتبر مدخلا ذكيا للتسويق، ولتحسين سمعتها في أوساط الجمهور، وتحقيق الربح من منظور استراتيجي، ووسيلة لتجاوز تبعات بعض الأخطاء والانحرافات التي قد تسقط فيها أحيانا (كالغش، أو تلويث البيئة..)، كما لا تخفى تأثيرات تزايد الوعي داخل المجتمع في هذا الخصوص، بينما يرى كثيرون أن بروز المفهوم، جاء في خضم الاستجابة لمطالب الحركات الاجتماعية الداعية لحماية البيئة، وضمان حقوق المستهلك، واحترام حقوق الإنسان بشكل عام ضمن أداء الشركات، وللحدّ من بعض الانعكاسات السلبية لتحولات العولمة وما يرافقها من خوصصة.. تستأثر المسؤولية الاجتماعية بقدر كبير من الأهمية، لاعتبارات عدّة، ففي ممارستها تعبير عن قيم المواطنة، وتخفيف عن أعباء الدولة، وانفتاح على قضايا ومشاكل المجتمع وعلى التحولات المتسارعة التي يشهدها، واستحضار للأبعاد الاجتماعية والحقوقية والبيئية والإنسانية للتنمية.. ونظرا لأهميتها فقد أوصت كل من الأممالمتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي.. الشركات الكبرى بتبنّيها. تتوزّع المسؤولية الاجتماعية للشركات تّجاه عدد من الأطراف، فهي مطالبة بتحسين أحوال موظفيها وعمالها، وبتطوير كفاءاتهم وتمكينهم من مختلف التحفيزات والخدمات، مع احترام حقوقهم..، إضافة إلى توفير الخدمات الجيدة وبأثمنة معقولة للزّبناء المتعاملين معها، مع استحضار السلامة الصّحية، وتلافي كل مظاهر الغشّ.. ونفس الأمر بالنسبة للشركاء والهيئات المماثلة، من حيث توخّي المنافسة الشريفة، واحترام الضوابط القانونية المؤطرة للعلاقات معها.. أما تجاه الدولة، فهي مطالبة بترسيخ الشفافية، وأداء الرسوم والضرائب المستحقّة.. والمساهمة في معالجة عدد من المشاكل الاجتماعية، وفي تحقيق التنمية، وفيما يتعلق بالمجتمع، فهي معنية بالاهتمام بقضايا البيئة، وبتشجيع الفنون والثقافة والرياضات، وبدعم البحث العلمي، والعمل على إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة داخل المجتمع، وبتشجيع هيئات المجتمع المدني.. تتضاعف أهمية هذه المسؤولية إبان فترات الكوارث والأزمات، حيث يسود الهلع والخوف في أوساط المجتمع، ويسود الارتباك على مستوى اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لمنع تطوّر الأمور نحو الأسوء، وتتفرع الأزمة الأصلية إلى أزمات ثانوية متعددة، تلقي بثقلها وإشكالاتها الاجتماعية والاقتصادية أمام صانعي القرار.. إن قساوة الأزمات والكوارث هي محكّ حقيقي لقياس مستوى التّحضّر داخل المجتمعات، وتجريب مدى اقتناعها وإيمانها بعدد من القيم النبيلة كالتضامن والتكافل.. وغالبا ما تسمح هذه المحطات الضاغطة بكشف الوجه الحقيقي لعدد من تجار الآلام وسماسرة الكوارث الذين لا يرون في المواطنة إلا الحقوق دون الواجبات، ولا في المسؤولية الاجتماعية التي تتطلّبها اللحظة العصيبة، إلا ذريعة للابتزاز والتهافت على تحقيق المزيد من الأرباح.. يمثّل وباء "كورونا" الذي اجتاح عددا من دول العالم، مخلّفا تداعيات صحّية واقتصادية واجتماعية..، مناسبة قاسية، تستدعي انخراط الشركات في الحدّ من الآثار السّلبية للجائحة، والعمل على وقف تمدّدها.. من خلال الاهتمام بسلامة موظفيها وعمالها، والانخراط في جهود توعية المواطنين بشروط السلامة الصّحية، ودعم الأبحاث المتعلقة بالوباء، من النواحي الطّبية والاجتماعية والاقتصادية، وتمويل المختبرات العلمية، وتشجيعها على الابتكار العلمي، فيما يتعلق بالأدوية والتجهيزات الطبية واللقاحات، علاوة على انخراط قطاع الطبّ الخاص في هذه الجهود. إن انخراط الشركات بجدّية ومسؤولية، بالمساهمة في تدبير هذه اللحظة العصيبة ومواجهة آثارها إلى جانب المؤسسات العمومية، هو خيار يتجاوز العمل الخيري، إلى مسؤولية تنسجم ومقتضيات دساتير الدول، التي تؤكّد على تحمّل التكاليف والتداعيات التي تفرزها الكوارث والأزمات، بشكل تضامني.. تنطوي مساهمة القطاع الخاص في هذا الخصوص على قدر كبير من الأهمية، بالنظر إلى الإمكانيات المالية والتقنية، والبشرية المدرّبة التي يزخر بها، بالإضافة إلى تجربته المتطورة في مجال التدبير الإداري الاستراتيجي، مقارنة مع عدد من القطاعات الحكومية. إن الانضباط لما تمليه متطلبات المسؤولية الاجتماعية بالنسبة للشركات، سواء في الفترات العادية أو في الظروف الطارئة، يقتضي وجود إدارة منفتحة تقدّر أهمية هذه المسؤولية، وتستحضر انعكاساتها الإيجابية على تطور الشركة والمجتمع، وتتحمّل الدولة من جانبها قسطا من المسؤولية على مستوى توفير المناخ المناسب الذي يساعد هذه الشركات على القيام بمهامها المطروحة في هذا الخصوص على أحسن وجه. *مدير مختبر الدراسات الدولية حول تدبير الأزمات