ألفت فيك سيدتي قوة الخاطر وعفة النفس، ما سمعتُ قبلُ منك شكوى، ولم يخطر ببالي أن أراك يوما باكية، إلاّ حينها بعد أن جئتني عصيّة الدمع ضائقة الحال، فقلتُ: "رُبّ أمر فات أبكاك منه الكدرُ، فيه خيرٌ قد يأتي به القدر". نعم! لطالما ألفت قوة خاطرها، إلى حين تلك اللحظة وكأنها تخاطبني صامتة بنظرات الأسى والحَزَن، إلى أن نطقت تسرد كلمات كانت حفظتها في ذهنها وهي تُردّد ما يلي: "كلّما بديت لها قلقة، كانت تستفسرني عن سرّ قلقي، وكلما بديت لها فرحة، ابتسمت مبتهجة قائلة - قلقك ظلمة حالكة تُضيق حالي، وفرحتك نور ساطع في بيتي ينشرح به خاطري". حينها علمتُ أن حزنها سببه معاناة رفيقة دربها شقيقتها البكر العليلة. عليلة طريحة الفراش، لا دواء لدائها غير إيمانها الثابت بمن هو أرحم بها من أمها جلّ جلاله. تدعو ربها بإيمان في القلب راسخ كثبوت جدور النخل في التراب، تنادي خالقها بصوت خافت عند سكون الليل محتشمة خجولة يقينا منها بقربه عزّ وجلّ منها؛ "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (سورة ق). أدارت ظهرها لدنيا الفناء، وعانقت الأمان في دينها وذكر اسم نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكيف لا تذكره وهو من حدّث قائلا "إليك انتهت الأماني يا صاحب عافية". أدارت ظهرها للدنيا كي تقارع كلّ وخزة ألم بكلمة "يا ألله"؛ تقارع الألم في صبر وحزم عسى أن تهوّن حسرة من يحيطون موقع فراشها جلوسا من دويها وأهليها. قالت له "أخي حبيبي لا تَبكيني إن نواحك يؤلمني"، فما كادت أن تنهي كلماتها حتى مسح بكفّيه على خدّيه المبتلّين دمعا ليردّ عليها "لم أبك حزنا وإنما بكيت فرحا حين سمعت هذا الدعاء الذي أحيى في نفسي أمل شفائك". إذا ما كنتَ صاحب عافية، فأنت ومالك الدنيا سواء، بل وإن كان شيء مثل الحياة فالغنى، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض. حروف منتصبة تراصّت وتجانست كي تنسج عبارات تهيب بنعمة العافية، نعمة لا يدرك قدرها غير العليل، كلمات ألهتنا تفاهات الدنيا على إدراك عمق معناها. الدنيا متاعها قليل، وأنت أيها الإنسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلاّ قليلا. حين يُصيب المرء الضّرّ لا بدّ وأنه في مناجاته خالقه بالكشف عن ضرّه يدرك أن الدنيا لا فخر فيها حيث تزول، ولا غنى فيها حيث لا تبقى، ولا حاجة بقيت له فيها غير عافية تُخمد لهيب آلام جسده. عبرة العليل ومناجاته لربه تورينا أن الصحة والعافية نعمة لا تساويها الدنيا وما عليها، ما عدا تعافي الجسد من طمع فيها فهو مثل الظلّ يمشي معنا نحن لا ندركه مَتبعا وهو وإن ولّينا عنه تبعنا. إن كنا لا ندري متى الفناء فلنعلم بأننا لا نُعمّر الدهر. أين الأولون والآخرون، أين أصحاب الأبرار وأين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة وأين القرون الخالية، أين هم أولئك الذين فرشوا القصور حريرا وقزا، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، وأين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين أولئك الذين اغترّوا بالأجناد، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات... لم نعد نحسّ منهم اليوم من أحد أو نسمع لهم ركزا. انتهى أجلهم وأخرجهم مُفني الأمم من سعة القصور إلى ضيق تحت الجنادل والصخور. لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا. فلتكن في ذلك عبرة لمن لازال يركض طمعا في أن تمس يداه السماء. *أكاديمي خبير مقيم بألمانيا