يعتبر شهر رمضان الفضيل وأجواء الحجر الصحي فرصة سانحة للتعرف على العديد من نخب المغرب العلمية من خلال كتاباتها واجتهاداتها، خصوصا وأن المتلقي متلهف لقراءة الكلمة العالمة الموجهة والصادقة والصادرة عن أئمة العلم ورموزه. وسنلتقي طيلة شهر رمضان المبارك مع مقالات قاصدة وموجهة، عكف الدكتور إدريس ابن الضاوية على كتابتها بلغة علمية رصينة وبيان عربي قلما تجده اليوم، يذكرك بالأصيل من الكتب والمؤلفين. من القيم الموجهة التي تخدم أصل التخلق المقصود من الابتعاث الخاتِم، قيمة الجمال الإلهي الناظِم، التي فطر الله تعالى الإنسان على تبصرها في ذاته، وتذوقها في خلقه، وتحسسها من طَوْلِه، والانفعال لرَوْحِهِ، والإحساس بتنوع رزقه واختلاف طعم أكله، والالتذاذ بنوع مَتْحِهِ، والتعقل لمشاعر كونه، وتفهم المراد من بثها في كل عناصر هذا الوجود المسبح. وهذه القيمة الجمالية مستفادة من جمال الله سبحانه وتعالى وحسنه الذي هو مصدر كل حَسَن جميل؛ وقد وصف الله به نفسه في قوله: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم [الفاتحة: 1 2]، لأنها مُبَصِّرَة بعالم الجمال، وهو الرحمة والفضل والإحسان.. وفي قوله تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 26 27]؛ لأن الجلال يدخل فيه جميع الصفات الراجعة إلى التنزيه عن النقص، والإكرام يضم جميع صفات الكمال الوجودية وصفات الجمال؛ كما وصفه به أعرف الناس به صلى الله عليه وسلم في قوله: إن الله جميل يحب الجمال... والجمال الإلهي عند المستبصرين ملحوظ في بديع خلقه سبحانه، وتَقَانَةِ نَشْئِه، الذي نص عليه سبحانه في قوله: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ البقرة: 138 ]، وقوله: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [السجدة: 7 ]، وقوله: أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين *الله ربكم ورب آبائكم الأولين [الصافات: 126]، وقوله: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون *ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون [ النحل: 6 8 ] وقوله: *قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون [الأعراف: 32 ]. وقوله: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [التين: 4]. وقوله: خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير [التغابن: 3 ]..وقوله: الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين [غافر: 64 ]، وقوله: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون: 15].. وقوله: يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك. [الانفطار: 4 8]. وقد فرق الله مواد الجمال الشاهدة على إتقان الصنعة، وإحكام الصِّبغة في مفردات الوجود كله حتى جعله سمة مميزة لفعله، وآية دالة على كمال علمه، في هذا الكون الفسيح، والمشهد المليح، دقة وتناسقا وتناسبا وتوازنا وترابطا بما ينسجم مع فطر الناس المجبولة على حب صور الإبداع والتسلي بتذوق بديع الاختراع، الناطق بعظمة المبدئ، والشاهدة على كمال المنشئ، المشعر للإنسان بإدراكه الحسي المنتشي بأنه محاط في تقلبه ومثواه بشواهد هذا الجمال من هذا الإله الجميل بإتقان فعله في مكوناته، وإحسان خلقه لموجوداته، سماء وأرضا وجبالا وأنهارا وحدائق وخلائق مسخرة لخدمة الإنسان، لينعكس ذلك على المستخلفين طرا، فتطبع تصرفاتهم بطابع الجمال على مستوى تقربهم وتدينهم، وأخلاقهم وأحاسيسهم وأذواقهم، وأخذ زينتهم، وعلاقتهم بغيرهم، وموقفهم من مخالفيهم، وعمارتهم لأرضهم، وأدائهم لوظائفهم، وارتباطهم بالبيئة التي يعيشون فيها، والجهة التي يتمتعون بمنافعها. ومن أجمع ما يدل على إرادة الله تعالى الجميل أن يكون بثه للمنافع في هذا الكون الفسيح جميلا، شكلا وهندسة ووحدة وكثرة وتذليلا، يروق للنفس ويبهجها، ويسعد الروح ويهيجها قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [البقرة: 164]. كما نبه سبحانه وتعالى خلقه إلى الصفة الجمالية في خلق الكون في قوله: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج[ ق: 6 ]. وقوله: ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [الحجر: 16 ]، وقوله: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون [ النحل: 8]، وقوله: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [الكهف: 7]، وقوله: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [الصافات: 6]، وقوله: قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [فصلت: 9 12 ]، وقوله: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير. [الملك: 5]. وقد أكثر الله تعالى من سوق الآيات الدالة على تجلي جماله في خلقه في مثل قوله: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد [ ق: 6 10 ]. وقوله: أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ النمل: 60 ]. وقوله: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون [النحل: 8]. والقصد من سوقها، إيقاظ المتدبر لهذا الجمال إلى أن يكون منسجما مع سياقه الكوني الآخذ بالألباب بالاعتقاد الجميل والشعور الجميل والتقرب الجميل والتصرف الجميل الذي يجعل النفس تضجر من كل مظهر طليح، وتضيق بكل شكل قبيح. ولا طريق لذلك إلا النظر والاستدلال بالصناعة الإلهية، وإرجاع البصر في أكوانه العلية، "إذ الصنعة دالة على صانعها بالضرورة ومشيرة إليه، فسبيل السالك أن يتصفح الوجود، ويديم الفكرة في المبدعات الإلهية وآثار عجائب الصنعة الربانية الدالة على كمال صانعها وجماله وبهائه وجلاله، فإن ذلك هو باب المعرفة، كما أن العلم الغائب عن الأبصار إنما يستدل عليه بتصانيفه...". وتأمل أخي العزيز قول النبي صلى الله عليه وسلم الناص على وجوب اعتقاد الجمال في الله تعالى المتصرف في الإيجاد بصبغته: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس. وقول إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري: إن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، قال: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: «لم» ؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأنا امرؤ أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأنا امرؤ أحب الجمال، ونهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق، ويكره سفسافها»، قال معمر: وبلغني عن أبي الدرداء أنه قال: «إن الله يعطي بحسن الخلق درجة القائم الصائم». إن من أجل ما ينبغي أن يدار عليه التثقيف، المرقي للإحساس والتشويف، المقوي لخلق الإنصاف، أداءُ حق الله رب العالمين، واعترافا بحق خلقه أجمعين، وتنبيها لأولي النهى إلى حق هذا الكون الجميل المبهج الذي أبدع الله تعالى في صنعه، وأمتع في تزيين شكله، وأعجب في التنسيق بين مفرداته، وأَتَمَّ في التكميل بين أجزائه، وأسبغ في التقصيد في أنواع وظائفه، في أفق التحقق بالانسجام معه في طاعته، والتقرب إلى الله تعالى بموافقته في خضوعه، والتحفظ من كل أنواع الإفساد في مكوناته، التي يتعاطاها المفتونون؛ ويستروح لها المتعالون، ليكون الكون المشهود مصدرا للتحقق بوصف الجمال المصبوغ به الذي يلهم المستمتع به مشابَهَتَهُ على قدر ضعفه وعجزه في هذه الصفة البارزة فيه ليكون هو أيضا جميلا في اعتقاده ومشاعره، ومحبته وخوفه، ورجائه وتوكله، وعبادته وتقربه، وبره وصلته، وباقي أنواع كسبه وارتفاقاته، التي تفرضها أنواع أماناته وصنوف العلاقات اللازمة في سعي هذه الحياة العاجلة. ومما يستفاد من باطن دلالة هذا الجمال الآخذ، وخاص برهانه التالد، الذي بثه الله في بديع مكوناته، ونثره في بنية مبدعاته، ملاحظة مستوياته، وإدراك إعجازه، وإبصار درجاته، التي كشف عنها العلامة عبد الجليل القصري رحمه في قوله: إن جمال الله تعالى على ثلاث مراتب: جمال أفعاله، وجمال صفاته، وجمال ذاته. وكل واحد من الثلاثة على ضربين: أحدهما حسنه وكماله في نفسه، والثاني نفي الشين والعيب والقبح عنه. فإذا اجتمع المعنيان فهي الجمال على الإطلاق .. وأما المرتبة الثانية من جمال الله جل جلاله فهو جمال أسمائه وصفاته، وقد تقدم أن الجمال هو الحسن؛ قال الله عز وجل: ولله الأسماء الحسنى[ الأعراف 180]. فأطلق الحسنى على أسمائه، وكل اسم دال على صفة عليا؛ فجمال أسمائه وصفاته على ضربين؛ الضرب الواحد: انفراد كل اسم وصفة في نفسه بالكمال الذي لا مثله كمال. والضرب الثاني نزاهة كل اسم وصفة، ونفي النقص عنه؛ فكمال أسمائه وصفاته مقترن بالنزاهة والبعد عن معاني الحدث والنقص. قال الله عز وجل: ولله الأسماء الحسنى .[ الأعراف: 180]، فقال الأسماء بالألف واللام المعروفة بالكمال في العالمين أجمعين، وقال : سما من السمو، أي سمت برتبها العالية سموا ليس مثله سمو. قال الله تعالى: رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [ مريم: 65 ]، أي من تسمى بأسمائه أو من يساميه أو يدانيه بها، ثم قال: "الحسنى" أي التي ثبت لها كل جمال وكمال وانتفى عنها لنزاهتها وبعدها شبه الحوادث مع الآباد والآزال. فكل اسم من أسمائه ووصف من أوصافه غني نزيه جليل رفيع عظيم بديع قدوس كبير، واحد لا شبه له، صمد لا ند له، فرد لا قرين له، وتر لا مثل له، ملك لا مقاوم له، سبوح لا شَيْنَ فيه …وأما المرتبة الثالثة من جمال الله فهي جمال ذاته، وهو على ضربين أيضا: أحدهما ثبات الكمال له، والثاني نفي شبه الحوادث عنه. والذات هي الوجود، ووجوده واحد أحد لا يتجزأ ولا يتعدد، ولا يتحيز في جهة ولا يتقيد في مكان، ولا له نهاية فيتحدد، ولا تزاحمه "عند"؛ لأنه مصمت صمد، لا تلاصقه "مع" فيكون معه أحد، فجمال ذاته وما هو عليه من الكمال لا يدركه سواه، ولا يعلمه إلا إياه، وليس للمخلوقين منه إلا إلهامات يكشفها لبعض الخواص، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في ذات الله، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بحسن وجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال، فالحمد لله الذي لا يطيق أن ينظر إلى ذلك الحسن والجمال إلا بصر الكبير المتعال. وأهم ثمار اعتقاد هذا الجمال في الكمال الإلهي ذاتا وصفة واسما وفعلا إحاطةُ هذا الإنسان المكرم علما بجمال فنون وحيه الهادية إلى جماليات العقيدة التي يصدقها التوحيد الإيماني المنزه، والتفريد العملي المنفذ، وجماليات العبادة بالقبول في اليسر، وجماليات الرضا بفعل الله في العسر، والموافقة بالظاهر الجلي، والمواصلة بالباطن الخفي، وجمالية التفاعل مع الكون الجميل بتبصر آياته، ولحاظ آلائه، وإحصاء أسماء صانعه، والتوله ببديع إخراجه وألوانه، والتمتع بسني عطاءاته والشكر لسابغ نعمائه، والصون لإشراق بهائه، والحمد لانسجام مكوناته، والتسبيح لنزاهته وقداسته، والتناسب معه في حسابه وانتظامه، والتشبه به في جوده وعطائه، وفي بَصْرِ جماليات السلوك العملي المتخلق، المتحقق بالإنصاف المتدفق، والبناء والجود، والقدوة المزكية الشهود، ليتجمل الدين في أنظار الشاكين ويظهر على شبهات المتشككين لتكسب صاحبها لسان الصدق في الآخرين، وتترك له الأثر المحمود في الخالفين. إن أجل صفة تكتسب بتبصر جمال الله تعالى التحقق بحبه الذي تقتضيه الفطرة الجميلة المجبولة على حب جمال الله تعالى الناتج عن المعرفة به [وبكمالات ذاته]معرفة تحيط بمعاني أسمائه، وتعرف بحقيقة صفاته، وكامل أفعاله المشهودة في مبتهج أكوانه، المشوقة في جلاله والمخضعة لجنابه، والمنهضة لتنفيذ أمره، والحامية من كل ما يصد عن إقامة حقه. ويرجع هذا الحب الأصيل، والتوله الأثيل، إلى سببين اثنين: أحدهما: معرفة إحسانه سبحانه وعنها تنشأ محبة الإنعام والإفضال، فإن القلوب مجبولة على حب من أنعم عليها وأحسن إليها فما الظن بمحبة من الإنعام كله منه والإحسان كله صادر عنه. السبب الثاني: معرفة جماله، وعنها تنشأ محبة الجلال وينبغي أن يكون كل واحد من المحبين أفضل من كل محبة إذ لا إفضال كإفضاله، ولا جمال كجماله. إن محبة الله المفترضة أصل جميع المقامات والأحوال، ومحرك جمهور الأقوال والأفعال، إذ المقامات كلها مندرجة تحتها، فهي وسيلة إليها، أو ثمرة من ثمراتها...ولهذا اختص بكمال هذه الشعبة سيد النبيئين، وإمام المرسلين عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، فإنه أعطي من سر هذا المقام ما لم يعط غيره من الأنبياء عليهم السلام، كما أنه أصل الموافقة الموجبة للقبول عن الله تعالى، والمسارعة في تطلب مواقع مراضيه، التي يفنى عندها تطلب الاعتذار، أو السكون إلى ما يجلب العار. ولذلك كان ذو النون المصري رحمه الله يقول: "من علامة المحب لله تركه كل ما يشغله عن الله، حتى يكون الشغل بالله وحده … إن من علامة المحبين لله ألا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه… إذا سكن حب الله القلب آنس بالله، لأن الله جل في صدور العارفين أن يحبوا سواه". وتخصيص الله تعالى بهذه المحبة المستحقة له أصالة أيها الأحبة من أهم واجبات الدين، وأجل سمات المتعبدين ومصدر إلهامات المتبتلين، وطابع أخلاق المتخشعين، التي لا يعلو عليها شيء من المحبوبات الفطرية أو الكسبية التي تتطلبها شهوات الحياة الدنيا، ولا يعكر عليها مرغوبات لذائذ المحيا، وعنوانها العملي المطلوب: المسارعة إلى أداء حقوق الله على جهة الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله في السراء والضراء، دون أن يؤثر عليها شيء مما تهواه شهوة الإنسان وينجذب إليه من متع هذه الحياة الحلوة والخضرة، بتأثير الأنجاس الكامنة في النفس الكدرة، والتمسك بحبال الأخلاق الجميلة في الاعتقاد، والمعاني الجليلة في السعي والاجتهاد، وفي إنصاف أصناف الموجودات بإعطائها حقها في وجودها، وهناء عيشها، وإقامة العدل فيها بالتصرف في استغلالها وفق المصلحة التي جعلها الله تعالى من مقومات دينه، وعلائم رحمة شريعته. وهذا الحب أيها الأصفياء الراجع إلى تبصر الجمال الموجب للتعلق بصانع هذا الجمال الآخذ، يجعل المتعلق به جميلا في اعتقاده وعبادته، وسلوكه وقوله، وحيائه من ربه، وثقته بوعده، وقلقه من وعيده، ورقته على خلقه، وتعلقه بجنبه، وابتعاده عن سُخطه، كما يكون جميلا بقويم تصرفه، في أخذه وعطائه، ومدخله ومخرجه، وحضره وسفره، وكسبه واكتسابه، وعسره ويسره، وانتمائه وائتمانه، وجوده وإحسانه، وإنابته المعززة باستمرار توبته من جميع ما يفسد عليه سبيل التحقق بوصف الجمال في ما يعرض له في حياته من مقامات وأحوال. بل يرتقي في التجمل حتى يجعل مواقفه من غيره ممن خرج عن حد الجمال أو قصر في التحقق به لاستقامة الحال، اعتقادا أو سلوكا أو سوء قَالٍ، جميلة ومحمودة المآل، موقفا سَنِيّا وخطابا بمستوى عَالٍ، يشهد بصدق تجمله بتدينه، ويقر بتميزه في علاقاته بغيره، ويعلن عن تحضره في ارتباطه بني قومه، وأفراد جنسه. وقد جاء هذا الموقف الجميل من المخالف صريحا في قوله عز من قائل: "واهجرهم هجرا جميلا"، [المزمل: 9]، وفي قوله: "فاصفح الصفح الجميل" [الحجر:85]، وقوله: "فاصبر صبرا جميلا " [المعارج: 5]. إن هذا الموقف الراقي المتحضر المصبوغ بصبغة الجمال ينسجم انسجاما مع هذا الكون الجميل، والشرع الجميل، والهدي النبوي الجميل، بالتصرف الجميل، المراعي لحق الرب الجميل، عقيدة وعبادة وسلوكا وأخلاقا وإحسانا يتحقق بمجموعه المتناسق النظيم، القرب من جمال الرب الرحيم، المزين بجودة المعرفة، ورفعة النية الصالحة، وصحة العبادة الناصحة، المتوجة بحسن الخلق الطامح، وسعة الجود الرابح حسا ومعنى. قال الإمام ابن عطية أبو محمد عبد الحق بن غالب رحمه الله، في قوله سبحانه وتعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون [الأعراف: 29 30]: هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة هاهنا الثياب الساترة … ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعمله الخيلاء، وعند كل مسجد عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك…. ولأجل ذلك سمى الله تعالى ما يدرك بالبصيرة تذوقا جمالا باعتبار نشوة الروح السوية التي تخضع لمعنى الجمال المبثوث في بيان الله تعالى المنزل من عنده، وبيانه الممثل في ذات نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لتنمية تصرف المكلفين، وتجميل فعال المستجيبين، بما تتزين به أحكام الدين، ويحقق الإسعاد المرجو في الدارين، ويُمَكِّن من النعيم المرتجى في الحياتين، نعيما مطبوعا بطابع الحسن المحمود المبثوت في جمهور ما جاء في القرآن الكريم، وعموم ما ثبت في صحيح التسنن القويم، لحاظا لمقصد الإرسال وحسن التمثيل، أو أمرا بالإعمال وصدق التنزيل، أو حضا عليه، أو تعاملا به، أو مجازاة بتنفيذه في الدنيا، أو منة به في الدار الأخرى، في مواضع كثيرة من كتابه، منسجمة انسجاما مع جمال ذاته، وحسن صنعته، وإتقان برئه، وإحكام فعله، الضابط لتصريفه الغالب الحكيم، والمُجْري لإعجاز قضائه وقدره القديم. والحمد لله رب العالمين