مازالت معظم الدول تحث الخطى من أجل إيجاد توليفة سحرية تساعدها على السيطرة على انتشار عدوى فيروس كورونا من جهة، ومن جهة أخرى التقليل من حدة الآثار الاقتصادية الناجمة عن توقف عجلة الاقتصاد ليس فقط داخلها، لكن في العالم بأسره. إنها فعلا معادلة صعبة بمجاهيل عدة، فأساس الاقتصاد هو الأشخاص واليد العاملية، وفي ظل وجود خطر يحدق بهذه الفئة، لا يمكن الدفع بها إلى العمل والإنتاج. وفي انتظار ما ستسفر عنه جهود الدول الحالية في احتواء الفيروس، خرج البنك الدولي بتقرير حول السيناريوهات المحتملة للاقتصاد العالمي في الأسابيع والأشهر القادمة. ويحاول المحلل الاقتصادي من مارت وولف تحليلها في مقال منشور على صحيفة "الفاينانشال تايمز" البريطانية. نص التقرير: في تقريره الأخير حول آفاق الاقتصاد العالمي [التقرير المنشور في 14 أبريل 2020]، أطلق صندوق النقد الدولي على ما يعيشه العالم حاليا اسم "الإغلاق العام الكبير". لكنني أفضل اسم "التوقف العام الكبير"، هذا الأخير يعبر بشكل أكبر عن حقيقة أن الاقتصاد العالمي كان في طريقه للانهيار حتى لو لم يفرض قادة الدول الحجر الصحي والقيود الاقتصادية، ومن المحتمل أن يستمر في الانهيار حتى بعد رفع هذه القيود. على كل حال، لا يهم بِمَ نسميه، لكن من الواضح أنها أكبر أزمة يواجهها العالم منذ الحرب العالمية الثانية وأسوأ كارثة اقتصادية منذ الكساد الكبير سنواث الثلاثينات من القرن الماضي. هذه الأزمة تأتي في ظل انقسام بين القوى الاقتصادية الكبرى وفترة متسمة بأعلى مستويات عدم كفاءة الحكومات بشكل مرعب. سنتجاوز هذا الأمر، لكن نحو ماذا؟ في وقت غير بعيد، وبالضبط في يناير الماضي، لم يخطر على بال صندوق النقد الدولي ما الذي كان على وشك الحدوث، ربما بسبب أن المسؤولين الصينيين فشلوا في تحذير الدول الأخرى، تاركة العالم وحده. وها نحن الآن وسط جائحة مع آثارها الواسعة. حتى الآن لا شيء واضحا، كما أننا غير متيقنين من الطريقة التي سيتعامل بها قادة الدول مع هذا التهديد العالمي على المدى القصير. أما فيما يمكن توقعه، فصندوق النقد يتنبأ بأن يتقلص الناتج العالمي للفرد ب 4,2% هذا العام، أي أكثر بكثير مما كان عليه الوضع خلال الأزمة المالية سنة 2009 حين تقلص ب 1,6% فقط. كما أن 90% من الدول ستشهد نموا سلبيا لحصة الفرد في ناتجها الداخلى الخام، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 62% سنة 2009، حيث ساعد التوسع الصيني آنذاك في تخفيف حدة الأزمة. في شهر يناير، توقع صندوق النقد الدولي نموا سلسا خلال هذا العام. وها هو الآن يراجع تنبؤاته ويتوقع تراجعا للنمو بنسبة 12% بين الربع الأول من سنة 2019 والربع الثاني من عام 2020 في البلدان المتقدمة، وبنسبة 5% في الاقتصادات الناشئة والنامية. ولكن، بتفاؤل، من المتوقع حدوث انتعاش بعد ربع ثان سيء. على الرغم من أنه من المنتظر أن يظل الإنتاج في الاقتصادات المتقدمة دون مستويات الربع الرابع من 2019 حتى عام 2022. نبني "المرجع الأساسي" [لهذه التوقعات] على فرضية عودة فتح الاقتصاد في النصف الثاني من هذا العام. فإذا حدث ذلك، فإن صندوق النقد الدولي يتوقع ركودا بنسبة 3% سنة 2020 ثم انتعاشا في السنة القادمة 2021 بنسبة 5,8%. في الدول المتقدمة، من المتوقع أن يصل مستوى هذا الركود إلى 6,1% هذا العام ليعود إلى الانتعاش في العام القادم بنسبة 4,5%. كل هذه التوقعات تدل على تفاؤل الصندوق إزاء ما هو قادم. تقرير صندوق النقد الدولي يقترح ثلاثة سيناريوهات بديلة وأكثر واقعية. الأول، أن يستمر الإغلاق ويدوم لأكثر من 50% من التوقع المرجعي. والثاني هو حدوث موجة ثانية من انتشار الفيروس في العام المقبل. أما الثالث فهو وقوع السيناريوهين السابقين معا. فإذا استمر الإغلاق طويلا هذا العام، سيتراجع الناتج العالمي إلى ما تحت التوقع المرجعي بنسبة 3%. أما في حالة حدوث موجة ثانية من انتشار فيروس كورونا، فسيتراجع بنسبة 5% إضافية تحت المتوقع سنة 2021، وستبلغ هذه النسبة 8% في الفرضية الثالية، حيث إن الانفاق الحكومي في الدول المتقدمة، في هذه الحالة، سيكون أعلى بنسبة 10 نقاط مئوية من الناتج الداخلي الخام سنة 2021، وبنسبة 20 نقطة مئوية على المدى المتوسط بالنسبة للديون الحكومية مقارنة مع التوقع المرجعي. ليس لدينا أية فكرة عن السيناريو الصحيح، وقد يكون الواقع أسوأ؛ فالفيروس يمكن أن يشهد طفرات وتحولات، والأشخاص الذين اكتسبوا مناعة ضده قد لا تكون مفيدة، وأي لقاح قد لا يكون قريبا. لقد أطاح فيروس بكل غطرستنا بالفعل. ماذا علينا إذن فعله لإصلاح هذا الضرر؟ هناك جواب واحد: عدم رفع الحجر الصحي إلا بعد السيطرة على معدل الوفاة. فمن المستحيل إعادة فتح الاقتصادات في ظل جائحة مستعرة وارتفاع مستمر للإصابات والوفيات، والدفع بالأنظمة الصحة إلى الانهيار. وحتى إن سُمح لنا بالعودة إلى العمل، فالكثير لن يفعل ذلك. لكن علينا الاستعداد لذلك اليوم، من خلال تقوية قدرات واسعة من الكشف عن الفيروس، والتتبع، والعزل وعلاج المصابين. ولا يجب التوفير في النفقات من أجل تحقيق ذلك، ولا الشح في الاستثمار في تطوير وإنتاج وتوزيع أي لقاح جديد. والأهم من ذلك، كما أشار إليه مقال تمهيدي لمعهد بيتيرسون للاقتصاد الدولي الموجود في واشنطن، حول الدور المهم الذي تلعبه دول مجموعة العشرين: "ببساطة، فإن غياب التعاون الدولي لمواجهة جائحة كوفيد-19، يعني أن مزيدا من الأشخاص سيموتون". وهذا صحيح في السياسة الصحية وفي ضمان استجابة اقتصادية فعالة، فالجائحة والإغلاق العام الكبير، كلاهما حدثان عالميان، والمساعدة في الاستجابة الصحية أمر أساسي، كما شدد على ذلك موريس أوبسفيلد، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، في تقريره سالف الذكر. ومع ذلك، فإن المساعدة الاقتصادية للبلدان الأكثر فقرا ضرورية، من خلال تخفيف للديون، ومِنحٍ وقروض رخيصة. وهناك أيضا حاجة إلى إصدار جديد وضخم لحقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، مع نقل المخصصات غير الضرورية إلى هذه الدول الأكثر فقراً. فالقومية الاقتصادية السلبية التي يدافع عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طوال فترة ولايته كرئيس للولايات المتحدة، والتي ظهرت حتى داخل الاتحاد الأوروبي، تشكل خطرًا اقتصاديا كبيرا. فنحن بحاجة إلى تدفق التجارة بحرية، خاصة (ولكن ليس فقط) المعدات واللوازم الطبية. فتحطم الاقتصاد العالمي، كما حدث كاستجابة عكسية للكساد الاقتصادي الكبير، قد يجعل الانتعاش موبوءا، إن لم يُقتَل بالفعل. نحن لا نعلم ماذا تخبئ لنا هذه الجائحة أو كيف سيستجيب الاقتصاد لتداعياتها. لكننا نعلم ما علينا فعله للخروج منها مع أقل الأضرار الممكنة. ومن المهم جدا السيطرة على انتشار العدوى. علينا الاستثمار بشكل كبير في تدبير أنظمتنا في فترة ما بعد الحجر الصحي. علينا الإنفاق قدر المستطاع في توفير الحماية للأشخاص والاقتصاد معا من آثار هذه الجائحة. علينا مساعدة الملايير من الأشخاص الذين يعيشون في الدول التي لا تستطيع مساعدة نفسها. علينا أن نتذكر قبل كل شيء أنه في ظل أي جائحة، لا وجود لدولة على شكل جزيرة. ونحن نعلم بشأن المستقبل، لكننا لا نعلم كيف سنحاول تشكيله. لكن، هل علينا ذلك؟ هذا هو السؤال المهم. وأنا متخوف جدا من الجواب. أنقر هنا لقراءة المقال في نسخته الأصلية