لقد ولدت الثورة الصناعية والفكرية في القرنين الماضيين، أنماطا جديدة للحياة في كل فروعها، في المجتمعات الغربية، وألقت بظلالها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، من بين هذه الأنماط، طغيان النزعة الفردانية على المجتمعات والقوانين، فاندثرت مظاهر المصلحة الجماعية والمنفعة العليا، وتشييء الإنسان، بحيث أصبحت تستغل كل طاقاته ووقته وجهده لأقصى حد حتى يستنزف، ولم يلق بال للأدوار الإنسانية والاجتماعية والتنموية الأخرى مثل تربية الأبناء مثلا، ووصل الحد إلى أن برزت فلسفات تتساءل: هل الأسرة عماد التجمع البشري أم هي تقليد وارتباط بماض لا يدفع للتحرر والتمدن، ونتج عن ذلك ظهور دور الرعاية للمسنين والأطفال وأصبح يدفع أجر لأناس آخرين غير الآباء والأمهات ليلعبوا هذا الدور، وأصبحت الأسرة آخر شيء يفكر فيه، ولم تبق هي أول الأولويات بل تجد لكل زوج حياته من أصدقاء وأمسيات ومقاهي، ولا يعود أفراد الأسرة للبيت إلا للنوم، حتى الوجبات أصبحت في بيئة العمل أو المطاعم. دون الاكتراث بالآخر. وأصبح التفكك أو الطلاق أسهل شيء يفكر فيه أو العيش دون الارتباط، أو عدم احترام عهد الزواج والإنجاب. أصبح ينظر إلى كل من يحن ويجعل الأسرة أولى الأولويات كأنه متخلف نتج عن هذا عدد كبير من المطلقين والمطلقات سواء طلاقا قانونيا أو صامتا. ابتليت المجتمعات بوباء كورونا، وفرض على العالم بأسره الحجر المنزلي، عاد الكل للبيت، وأي بيت: - تجد من كان يقدر قيمة الأسرة واجتهد لبناء علاقة قوية مع زوجه وباقي أفراد عائلته منذ أمد، قد وجد هؤلاء الملاذ والحنان حين فرض عليه الرجوع لبيتهم ورغم قساوة الحجر إلا أن الدفء الأسري أعطى التوازن للحياة الصحية والنفسية، وقد ساعد هذا على التغلب على هذه الأوضاع، ومواجهتها بثبات وقوة وصلابة، من تآزر وتعاون، والتي أعطت أرضية للإبداع في تحضير الوجبات الصحية والأمسيات الأسرية، التي تخفف الوطء وتساعد على التوازن النفسي. - وبرز الدور الدافئ والرئيسي للمرأة داخل الأسرة حيث رغم أدوارها المتعددة فقد رجعت لدور ربة البيت من جديد وبامتياز، ولقي هذا الدور تقديرا وإحساسا به من طرف الكل، إنها معركة حياة أو موت، ولن يتصدى لهذه المعركة لحد الساعة إلا بالنظافة والأكل الصحي وتقوية المناعة بالهدوء والنوم الكافي ولزم البيت. وحصلت المرأة على إشباع نفسي وعاطفي لأن مجهوداتها أصبحت مقدرة، وهذا يعطيها حافزا للعطاء والبذل أكثر وهي في كامل سعادتها، قد لعبت المرأة هذا الدور وتلعبه دائما لكنه كان ينظر له بنظرة زهيدة وبخيسة، إلى أن أصبح هو الدور الأساسي والمحوري، فلا دواء نهائي ولا لقاح لحد الساعة سوى الوقاية، والوقاية خطها الرئيسي النظافة والأكل الصحي والدخول للبيت، وهذا هو الدور الذي تلعبه ولعبته المرأة منذ أمد، (فتحية للنساء على تنوع الأدوار التي تلعبنها وعلى التفاني والتضحية من أجل الأسرة والمجتمع). في الوقت نفسه إحساس الرجل أن هناك من يهتم لحياته ويحاول أن ينجيه من خطر المرض من هذا الوباء، بالسهر على نظافته ونظافة بيته ونظافة أبنائه، أعطاه إحساس بقيمته وبالدفء. فالحجر المنزلي لهؤلاء كان فرصة للاقتراب أكثر في جو من الدفء والتآزر والتعاون. - وهناك شريحة أخرى كانت لها حياتها الخاصة بها، في خط موازي مع خط الأسرة ليست الأسرة هي أول الأولويات، تجد العمل أو الأصدقاء أو المقاهي هي الملاذ الأول، ولا يدخل للبيت إلا للنوم، حتى أنك تجد من لم يعرف أفراد أسرته ولا نمط تفكيرهم ولا مستوى نضجهم ولا مشاكلهم، فالحجر الصحي فرض على هؤلاء الرجوع لأسرهم وكأنها رغما عنهم، ففوجئوا بأبناء سلوكاتهم غريبة، أو مبتلون بمخدرات أو مدخنون، وزوجة اعتادت على عدم وجوده وكانت "مرتاحة "من صراخه وضجره، واضطرت أو اضطرا للتواجد وجها لوجه، فيكثر العنف الأسري والقلق لتدبير هذه المرحلة. لكنها برغم إكراهاتها هي محطة مفيدة لتعيد الأشياء لنصابها، وتعيد للأسرة مكانها واعتبارها، وخاصة وأننا نواجه خطر الوباء فتجد الشخص أقرب للالتحام والتعاون لينجو هو وسفينته من هذه الجائحة بحول الله. فكما قال "ستيفن كوفي" في كتابه العادات السبع للأسر الأكثر نجاحا، علينا أن نجعل أسرنا أولى الأولويات، قبل العمل ولا الأصدقاء ولا أي شيء، لأنه عندما نكون في أزمة نعود للأسرة، وإن فقدنا عملنا نعود للأسرة وإن مرضنا أو كبرنا أو تقاعدنا نعود للأسرة فإن كانت مبنية على الحس الجماعي فستكون دعما لنا وإن كانت مبنية على حس الفردانية فستكون وبالا على صاحبها. ولنا في بلادنا أكبر عبرة، ذلك أن للمغرب جذور في الحضارات الإنسانية وله تاريخ وأصالة، هذه الميزات أعطت بلادنا القوة والصلابة في مواجهة الأزمات ولو بقدر يسير من الإمكانيات، لأن التكاثف والإيمان بالأولويات النبيلة والمصلحة العامة والمنفعة العليا تخلق التوازن، وقد عبر عنها المغاربة في لحمة واحدة، حتى أحسسنا أننا نفخر وننتمي لأسرة كبيرة متماسكة حكيمة وعريقة، حياتنا وصحتنا هي أولى أولوياتها إنها مملكتنا المغربية، حفظها الله وأعانها على تجاوز هذه المحنة بنجاح، فلتقتدي كل الأسر "وخاصة التائهة منها" بهذا المسار النبيل ولتستوعب الدرس. سجل يا تاريخ: أننا الآن أمام محطة أخرى ومنعطف جديد في تاريخ البشرية، فإن كانت الثورة الصناعية والفكرية دفعت بطغيان النزعة الفردانية والأنانية، فإن ثورة كورونا اليوم تأبى إلا أن تهذب هذه الفوضى والجشع لتصنع توازنات وحسابات أكثر إنسانية.