لأول مرة في تاريخ الأمم والشعوب تشاء الظروف والأقدار أن تحيي الطبقة العاملة في مختلف بقاع الأرض عيدها الأممي في أجواء من الحزن وتحت قيد الحجر الصحي، جراء تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، الذي ما فتئ يحصد الأرواح البشرية عبر العالم منذ مطلع السنة الميلادية 2020، مما يحول دون الخروج إلى الساحات العامة المعهودة، ويفرض الاقتصار فقط على إقامة الاحتفالات من خلال شرفات المنازل المواجهة لها وشبكات الأنترنت. وكما هو معلوم لدى جميع الشعوب يعد فاتح ماي من كل عام يوم عطلة في جميع بلدان العالم، باعتباره مناسبة سنوية يتوقف فيها الملايين من العمال والأجراء والموظفين عن العمل في كافة الأقطار العربية والأجنبية، ويعتبرونه بمعية المنظمات النقابية محطة لتدارس أوضاعهم، والوقوف مليا أمام ما سبق لهم تحقيقه من قبل وما بقي عالقا، لغرض تجديد مطالبهم الملحة في مسيرات وتظاهرات عامة، التنديد بما يتعرضون له من مضايقات وانتهاكات شنيعة على أيدي المسؤولين وأرباب العمل، والاحتجاج أيضا ضد الحكومات وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة. وفاتح ماي لهذه السنة 2020 جاء خاليا من أي حماس أو استعدادات، ليس لأنه اتسم بمصادفة جائحة كورونا وشهر رمضان الفضيل، بل بتواصل الهجوم على أهم المكتسبات والحقوق الأساسية للشغيلة المغربية في كافة القطاعات، بشكل يتنافى كليا مع المعايير الدولية ذات الصلة، وقد ازدادت حدته مع انتشار الوباء، مخلفا عددا من الضحايا في صفوف العمال والمستخدمين في القطاعين العام والخاص، بسبب عدم احترام إجراءات السلامة والصحة المهنية بمواقع العمل، كما يشهد بذلك انتشار البؤر الوبائية المكتشفة في أكثر من جهة، مما ساهم في ارتفاع نسبة الإصابات المؤكدة وسط العمال الأبرياء، علما أن السلطات العمومية لم تنفك تدعو إلى الحرص على حماية المواطنات والمواطنين من عدوى الفيروس التاجي السريع الانتشار وأكثر الأوبئة فتكا بأرواح البشر. لأجل ذلك وغيره كثير أصرت عديد المنظمات النقابية التمسك بإحياء عيد الشغل، وألا تدع هذه المناسبة تمر دون التذكير بدور الطبقة العاملة في النهوض بالمجتمعات وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية، وحضورها البارز في الخطوط الأمامية لمجابهة الوباء الخطير. حيث أنها تعتبر أن اليوم الأول من شهر ماي حدث عمالي بامتياز، تمتد جذوره إلى عمق تاريخ الكفاح والنضال من أجل تحرير الإنسان من قيود الاستعباد، بواسطة المعارك التي خاضتها الطبقة العمالية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ونجد على سبيل المثال أن من بين هذه المنظمات هناك "الكونفدرالية الديموقراطية للشغل" التي تتمسك بتخليد الحدث عبر وضع منصة افتراضية لفائدة قواعدها تحت شعار: "مواصلة النضال من أجل إعادة بناء الدولة الاجتماعية، لمواجهة أزمات وصدمات المستقبل". فيما قررت "الاتحاد المغربي للشغل" الاحتفاء به تحت شعار: "متضامنون حتى الخروج من الأزمة"، معتمدة في ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مواقع تنظيماتها الجغرافية والمهنية... فبالرغم من ارتفاع الأصوات في منصات التواصل الاجتماعي الداعية إلى تحويل ميزانيات المركزيات النقابية المخصصة للاحتفالات بالعيد الأممي لهذه السنة إلى صندوق مكافحة جائحة كورونا، إلا أن النقابات ترفض بشدة أن تضيع من بين يديها فرصة التصالح مع قواعدها والطبقة العاملة عامة، وهي الفرصة التي تسمح لها بقياس حجم قوتها مرة واحدة في السنة. لذلك اختارت رفع شعارات تكشف عن معاناة العمال والموظفين الذين يواصلون عملهم في الخطوط الأمامية مجازفين بأرواحهم، سواء للحفاظ على صحة وسلامة المواطنين وحماية أرواحهم أو لتنوير عقولهم، من قبيل الطواقم الطبية والتمريضية والأجهزة الأمنية وأعوان السلطة والأطر التربوية والإدارية وعمال النظافة وغيرهم... وفضلا عما تطالب به هذه المنظمات النقابية من ضرورة سن قوانين شغل جديدة تراعي خصوصيات الاشتغال الآمن في ظل إكراهات جائحة "كورفيد -19"، والتعجيل بعودة الأجراء العاملين في المقاولات التي توقفت بشكل اضطراري، والحفاظ لهم على مكتسباتهم وتقوية التشريعات الاجتماعية لحماية الصحة والسلامة المهنية والنفسية والجسدية، فإنها تحذر من مغبة استغلال تداعيات الوباء في مواصلة تشريد آلاف العمال والعاملات بالشركات والمقاولات المغربية، داعية السلطات الحكومية إلى تحمل مسؤولياتها في تكثيف عمليات المراقبة، وفرض احترام الحقوق والحريات العمالية والنقابية، وتقيد أرباب العمل بالإجراءات الاحترازية والسهر على توفير الوسائل الوقائية والحمائية داخل الوحدات الإنتاجية وفي الإدارات، حفاظا على صحة وسلامة المأجورين والعمال وحقهم في الحياة، دون أن تغفل المطالبة بمأسسة الحوار الاجتماعي التفاوضي ثلاثي الأطراف والوفاء بكافة الالتزامات الاجتماعية... وفي انتظار انفراج الغمة واستخلاص العبر من جائحة كورونا، فإن عيد الشغل أو فاتح ماي ورغم الظرف العصيب والاستثنائي الذي تمر منه بلادنا شأنها شأن باقي بلدان العالم، يظل محطة نضالية ليس لاحتجاج العمال وحسب، وإنما للجهر بمعاناتهم وتسليط الأضواء الكاشفة على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردية وأهم القضايا التي تؤرقهم، لاسيما ما يرتبط منها بالكرامة وتحسين ظروف العيش والعدالة الاجتماعية والضريبية والتوزيع العادل للثروة، والحق في الصحة والتعليم والسكن اللائق...