"رمضان كريم" عبارة سيارة هذه الأيام. عابرة لشاشات الفضائيات والحواسيب والهواتف. كل سنة ومنذ عشرات السنين وهذه العبارة تخرج للتداول في كل استقبال جديد لرمضان. حتى أصبحت من لوازمه !!."رمضان كريم" نعم، هو شهر القناعة والصيام وترويض "النفس" على الصيام والصبر، لمدة شهر، لتتمكن أن تصوم طيلة العام عن قول وفعل كل ما يضر بالآخرين ، ويلحق الأذى بهم ماديا أو معنويا. لكن.. منذ سنين.. وأنا مفتون بقضية تشغلني كلما هل علينا رمضان، ما دامت "ملكة التفكير" غير معطلة لدي، ولم تتوقف عن طرح الأسئلة وإعادة طرحها. أرادنا "الصيام" أن نقف أمامه على قدم المساواة. ونتوقف عن الأكل والشرب من شروق الشمس إلى غروبها. هذا واضح، لكن المفارق والعجيب هو أن هذا يتم في "مجتمع" تطبعه الفوارق الطبقية الحادة المؤلمة، حيث آخر ما يمكن أن تسأل عنه داخل هذا المجتمع ذي الطابع الطبقي الصارخ هو "التوزيع العادل للثروة الوطنية". الأمر الذي يجعلنا غير متساوين في الاستعداد لصيام رمضان. شتان بين استعدادات الغني واستعدادات الفقير لمواجهة يوم كامل من الصيام، وعلم التغذية يعلمنا أن الطعام يختلف ويتفاضل، هناك الطعام العديم الفائدة، وهناك الطعام الذي فيه فائض الفائدة من حيث التعدد والقيمة. وعلمتنا "البيولوجية" أيضا أن الجسم لا يتوقف عن "الأكل"، وعندما لا يجد ما يأكله، يقتات من لحمه الحي. تقول البيولوجية إن "الحيوان "العاشب" يصبح "لاحما" عندما يجوع لمدة طويلة، لأن جسمه يأكل من لحمه الحي.. فيصاب بالضمور الشديد استعدادا للموت. إذن، أين يمكن أن يظهر، فعلا، "كرم" شهر رمضان ؟؟.. لا يكفي.. طبعاً.. أن تظهر عبارة "رمضان كريم" على الشاشات، حتى يغمر "الكرم" فقراء هذا البلد، وهم دون شك الأغلبية الساحقة من المواطنين. كما أن "رمضان" مجرد شهر للتعبد لا يصدر عنه "الكرم" من ذاته ولذاته، ولن يفيض الكرم، بكل تأكيد، تلقائياً عن تلك "الحفنة" من كبار التجار الجشعين المحتكرين لتسويق المواد الغذائية، الذين يقرأون "رمضان" بالمقلوب، ويستخلصون منه نتائج عكسية، يستغلون "صيام" المواطنين وانفتاح شهيتهم، ليستنزفوا آخر "درهم" في جيوبهم، وكلما "صاموا" هم أيضا وأحسوا بالجوع والعطش زاد جشعهم، وتغولت رغبتهم في الاحتكار، وأشعلوا النار في الأسعار، وطلبوا الغنى بأي ثمن، حيث يزدادون احتقارا للفقر والفقراء، وشماتة فيه وفيهم. من حق الناس، طبعا، أن يتبادلوا التهاني، وأن يقوموا بمبادرات "خيرية" تعاونية في هذا الشهر الاستثنائي، لكن الذي يثير السخرية والشفقة في آن معاً، هو أن تضحك علينا "الدولة"، بعبارات مثل "رمضان كريم" في وسائل الإعلام، وتنسى أن لها دوراً أكبر من مجرد الدعوات وإرسال التهاني، لها دور ميداني، عليها واجب القيام به. وهو النزول إلى الأسواق والمحلات التجارية لمراقبة الأسعار، والضرب على يد المحتكرين المستغلين لحاجيات الناس في هذا الشهر التي تستلزمها ضرورة الصوم، والحصول على إمكانيات الاستعداد لقضاء يوم دون ماء ولا طعام، وألا تكتفي بمغازلة المواطنين عبر الشاشات بعبارات لا معنى لها. خاصة، وأن الارتفاع الصاروخي للأسعار في رمضان أمر يتكرر كل سنة، ومنذ عشرات السنين، وعليها أن توفر "المواد الغذائية" الكافية لتغطية ارتفاع الطلب عليها. أي أن وظيفتها تلزمها أن تقدم "أشياءَ" ملموسة فعلية، تشعر "المواطن" أنه فعلا مكرم لديها، ليس في هذا الشهر فحسب، بل في سائر أيام الله.. من المؤسف والمحزن جدا أن تتخذ عدد من الدول الأوروبية، مثلا بريطانيا، قرارا بتخفيض أسعار المواد الغذائية بمناسبة حلول شهر رمضان، رغم خضوع "السميك" فيها للمعايير الدولية، وارتفاع مستوى العيش هناك. وألا تتخذ دولتنا أية إجراءات في هذا الصدد من شأنها أن تخفف الضغط المادي والنفسي على الفقراء، رغم وعيها بانتشار الفقر وانتشار التدني المهول لمستوى المعيشة، فأين يجد "رمضان" كرمه هنا في المغرب أم هناك في بريطانيا ؟؟.. سيقول قائل إن الفوارق الطبقية بين الناس أمر طبيعي،" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق". نعم، لكن هذا التفضيل له أحكام، أهمها الرزق الحلال، وألا يتجاوز التفاضل نسبة معينة، حتى لا نكون من " الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ". إن الفوارق يجب أن تكون حسب الجهد المبذول في العمل، وليس حسب الموقع الاجتماعي والسلطوي أو نتيجة القدرة على الاحتكار أو الاستغلال أو هما معا. رمضان شهر للصيام والتعبد، لكنه أيضا شهر لإعادة النظر في هذه الفوارق الطبقية المهولة. شهر العمل على تكريم "الإنسان" من خلال التفكير في تطوير مجتمعنا نحو بناء مجتمع قادر على انتشال "الناس" من البؤس والفقر والحاجة. انتشالهم من "واقع" يحط من كرامتهم وإنسانيتهم، حتى إذا ما أقدم "رمضان" وقلنا "رمضان كريم".. كان "رمضاناً" كريما قولا وفعلاً ، لأننا نكون قد أخذنا العبرة الجوهرية منه وحولنا "الكرم" إلى تكريم للإنسان عبر حفظ كرامته وصيانتها في كل وقت، على طول السنة، وليس في شهر يتيم، يأتي ويذهب، نسميه "شهر رمضان"....