يعتبر شهر رمضان الفضيل وأجواء الحجر الصحي فرصة سانحة للتعرف على العديد من نخب المغرب العلمية من خلال كتاباتها واجتهاداتها، خصوصا وأن المتلقي متلهف لقراءة الكلمة العالمة الموجهة والصادقة والصادرة عن أئمة العلم ورموزه. وسنلتقي طيلة شهر رمضان المبارك مع مقالات قاصدة وموجهة، عكف الدكتور إدريس ابن الضاوية على كتابتها بلغة علمية رصينة وبيان عربي قلما تجده اليوم، يذكرك بالأصيل من الكتب والمؤلفين. شكر الإحسان، نهوض بواجب الإيمان إن من أبرز ثمار الاستجابة لله سبحانه وتعالى، ظهور شاهد التعرف عليه، الذي تقوم على أساسه من خلال اعتقاد أحديته، واستحضار جلاله، والعَجِّ بأسمائه وإدامة التفكر في آلائه، المنبئة عن سعة رحمته، واتساع لطفه بعباده، وانبساط فضله المورث لاستشعار رقابته، والإحساس باطلاعه، والمُسْتحْضِرة لكمال علمه، وطاعة جنده، وحفظ ملائكته، وأمانة شهدائه، والمذكرة بإحاطة علمه الذي لا يخفى عليه به شيء من أحوال خلقه، ولا يعزب عنه حظ من كسب عبيده، ولا يغيب عنه نصيب من اكتساب عديده، مهما اجتهدوا في إخفائها، أو تذرعوا يائسين إلى حجبها، أو تكلفوا إبعادها عن مجال إعمال الحواس. إن ذكر الله تعالى المستحضر لجلاله، والمستبطن لاطلاعه، والمتفكر في جزائه، هو باب الاندراج في أهل الإحسان في التدين الحميد المؤسس على التصديق الرشيد الذي يتبصر بالغيب بكامل اليقين، ويستسلم للسمع بالنقل الأمين، الذي لا يُسكن إلا إليه ولا يعول في الدين إلا عليه، لأنه أصل الفرج المورث للفرَح، ودليل الرَّوْح الضامن للرِّبْح، بل هو خير ما ألقي إلى القلب، وأقوى ما صرف به الذنب، وآمن ما أنجى من الكرب، وهو من متع الرُّوح التي بها تحصل السعادة الحقيقية التي غفل عنها الكثير من الناس. وقد كان ذِكْرُ النبي صلى الله عليه وسلم لربه بحكم كمال معرفته به بقلبه ولسانه يستغرق جميع أحواله، ويملأ كل جوانحه لعلمه بقدر ذلك عند الله تعالى ثم لأداء واجب شكره المُجَلَّى في حسن عبادته التي أقام عليها شرط الاستخلاف المورث للرضوان. إن من ينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتفرع للحاظ مضامين كتب عمل اليوم والليلة، أو أذكار الصباح والمساء المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم المؤرخة لوظائفه العمرية، يعلم أهمية الذكر، ويفقه سياسة توزيعه على الأوقات بما يناسبها، ويؤدي بعض ما يجب في أحوالها لحمدها وشكرها. ويجتهد في التعرض للأوقات المباركات التي يتجلى الله تعالى فيها لعباده باسم الرحمة وَطَوْل المغفرة التي عين النبي صلى الله عليه وسلم مواعيدها، ودل على وقوتها مثل رجب، وشعبان، ورمضان، والعشر الأواخر منه، وليلة القدر، وشهر ذي الحجة، وتخصيص العشر الأولى منها بالاجتهاد في العمل فيهن، ويوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، وشهر المحرم، ويوم عاشوراء، ويوم الجمعة، ويوم الإثنين والخميس، والأيام البيض التي هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر قمري.. ثم يعمل ما أطاقه وسعه ليتأول بصدق عملي قول الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 205 206 ]. ليكون حقيقا من الذين لا يشغلهم شيء مما تتعلق به النفوس من اللذات والأفراح وأسبابهما عن ذكر الله والتفكر في آياته، والقيام بحق أوقاته، فيكون من الذين مدحهم الله تعالى في قوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ النور 36 37 ]. لا جرم أن أعظم ما يجتنى من إقامة النفس على مقام الذكر الجامع لحق التنزيه والتمجيد لله تعالى، أن يكون الله عز وجل مع العبد، معية حق يستقيم بها القلب، ويخضع بها اللسان، ويلقى بها القبول، وتنضبط بها الجوارح في عَامِّ تصرفاتها على ما يُرضي الله تعالى، ويعين على القيام بحق عبوديته في أوقاتها المعلومة التي يتعاقب فيها الملائكة على المكلفين. ويكفي لمعرفة فضل ربط النفس بفضيلة الذكر تسبيحا وتحميدا وتوحيدا وتكبيرا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ". ويغني في فضل السمو به في السابقين، وعلو مقامه المُدْرِج في الذاكرين، قول أبي هريرة رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ» . ويُقْنِع العاقل بعظم فضل مثوبته، وكثرة أجره التي قد لا تدرك بالاجتهاد في باقي صالح الأعمال من النوافل المشروعة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ". وَيُنَشِّط للمداومة على الذكر بالغدو والآصال، وفي جميع الأحوال، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلا إِنَّ الدُّنْيَا [أي ما يشغل عن الله ويوقع في عصيانه] مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» . إن الذي يُلهج اللسان بالذكر ويُلظ القلب بالفكر استدعاءُ مواجب الشكر التي لا يطيقها الإحصاء، ولا يحيط بها عَدُّ الأكفاء، لقيام الوجود المنظور وغير المنظور بها؛ لأنه كلما عظم لحاظ تعدد النعم وكثر شهود صَرْف النِّقم، وحصل تصور التقلب فيها، واستذكر العقل فاقديها، انتفت صفة الكبر، وقويت إرادة الشكر، التي يدعو إليها النظر فيما بالقلب من الإيمان، وما بالبدن من عافية، وما في المحيط من نعمة، يُلحظ تعداد أنواعها، ويُبصر تفنن مواردها، ويعتقد يقينا اختصاص الله وحده بها. إن استشعار الافتقار إلى الله تعالى في الإيجاد، واستبصار رحمته في الإمداد والإسعاد، بوجوب الإكثار من الثناء عليه، ويحث على الخضوع بين يديه، اعتقادا فيما هو أهله، وأداء لما يستحقه، وموافقة فيما يريده، وتسليما لما يشاؤه وعجلة إليه بفعل ما يحبه، وترك ما يكرهه، في أفق استعمال تفضله فيما يرضيه، واستثمار مزيده فيما يقضيه، بإحسان استئذان وحيه، وإجادة استنطاق حكمه، وما يليق بهما من صنوف الخير، وضروب البر. ويقتضي شكر الله تعالى شكر الوسطاء المستحضَرين عند بلوغ كل نعمة بالغة، وبين يدي كل منة سابغة، يدفع الله بها الاحتياج، ويقوم به صنوف الاعوجاج، بفضل نعمة التسخير التي شاءها بين الخلق لتبادل المنافع التي بها قوام الحياة، في السكن والأمن والائتلاف والطعام والشراب والكساء والصحة والمال والأهل والولد… إعمالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ. وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ". وأحق ما تقيد النفس لشكره، ويشغل القلب بحمد فعله، خصوصا في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها بلادنا العزيزة بعد القيام بحق شكر مصدر النعمة ومُتِمِّها في الأشياء كلها، رَبِّنا سبحانه، استحضارا لجمال خالقيته، واستذكارا لقيوميته وعافيته، وانتباها لسعة رزقه وعطيته، واستبصارا لتتابع كرامته وعنايته ؛ ثم شُكْر من دلنا عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي عرفنا بصنعه وإحسانه، وذكرنا برحمته ودلنا على مراده، ثم شكر من أقامه الله حكما في أرضه وبلاده، وأسعفه بوسائل تأمين شعبه، مولانا أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله المذكور بوفائه بأمانته، وقيامه بشرط بنود بيعته في رعاية مصلحة مملكته وسلامة دولته وتطور أفراد شعبه؛ ثم الأطر الصادقة المساندة في جميع مؤسسات إمارته، الذين كتب لهم أن يكونوا الصف الأول في معركة محاربة هذا الوباء الجارف كورونا المستجد المصطلح عليه ب كوفيد 19، ثم القائمون على الأمن على اختلاف أصنافهم وتعدد رتبهم، ثم رجال قطاع الصحة على تنوع شهاداتهم وتباين مواقعهم، اعترافا بأنهم لا يعيشون في هذه الأيام العصيبة الضاغطة لذة الراحة ولا التنعم ولا التكسب السهل، ولا الاستسلام الصَّفْو أمام نداء الواجب، يحدوهم في ذ لك استحضارهم لمهامهم، واستشعارهم لمسؤولياتهم، ووفاؤهم لمقتضى وطنيتهم، القاضية بوجوب القيام بخدمة بني قومهم، ومواساة أبناء شعبهم، الذين هاجمهم هذا الفيروس فأنقض ظهرهم، وأوقف سعيهم، وأعظم همهم، وأشهر كربهم، وأفسد عليهم جل ما نيط بهم من مهام. إن أحق ما ينبغي أن تكافأ به هذه الأصناف المتفانية المجاهدة الذي لا تكاد تشكر أن يحمد فعلها ويشكر سعيها ويبارك دورها، ويسمع نصحها، ويساند بذلها، ويدعى لها بالغيب بخير يرفعها، إعمالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». إن الشكر العملي الزمني أيها الأحبة الذي يقتضه واجب مواجهة هذا الفيروس النُّكْر، أن نرضى بوضعنا وأن نلتفت إلى من هو دوننا وأن نؤدي أمانة القدوة في بيتنا جودا ولطفا ورفقا وابتسامة وتحملا ووقاية وإرشادا ودلالة على الخير، وأن نكبر إكبارا كل من يخدمنا ويلبي احتياجاتنا من رجال سلطة وأفراد أمن ومسؤولي إدارة وأطر طبية وشبه طبية ومن يقوم بحق السخرة التي بها قوام العيش من من قريب أو بعيد… وأن نعزز هذا الإكبار بملاحظة الرحمة الكامنة في الحجر الصحي الظرفي المصلحي المأذون فيه شرعا لحماية بلدنا وأنفسنا وذوينا ومن له صلة قريبة بنا من أحبائنا ومخالطينا، وأن تتشبه بالخيار منهم ممن تعبد في هذا الظرف العصيب بخلق الجود كل بحسبه ومجال اختصاصه وسعة رزقه وقدر الرحمة التي فيه، جود يتعزز بقيم المحبة والقسط والكرم والأخوة والإنسانية التي تعطي النموذج الأسمى للخلق الحسن الذي يستبق به الفضل، ويسارع به إلى الخير، ويبادر به إلى التعاطي مع صنوف البر التي تنوعت صورها وتعددت مجالاتها وعظم قدرها وثوابها.