= لنتفق أولا : ليس التفكير في "ما بعد كورونا" ترف ولا بذخ ولا عبث، بل هو في صُلب فكر التوقعات والتدبير العقلاني المستشرف، تخطيطا إجرائيا، لتحدياتٍ حتمية هي من طبيعة الوجود السياسي والممارسة العملية للتنظيم وللنظام بالمعنى العام والمجتمعي للكلمة. سيدة التفكير القبلي في المقبل واستشراف آفاق المحتمل الآتي هي ما يميز المستعد أكثر لنوائب الزمن وانقلاباته. إن امساك الإنسان، وبكل ما يملك من معرفة علمية ومن أدوات السيطرة، بالظاهر الطبيعية منها والإنسانية مسألة أكثر من نسبية كما يبين التاريخ الإنساني، فقد يتغير كل شيء في لحظة انتشاء باستقرار يتوهم الإنسان معه أنه قد تربع على عرش الظاهر وغضب الطبيعة وافلات الغريزة البشرية من عقال العقل والحكمة. يتعلق الأم بما يشبه قشرة الأرض التي تستقر لعقود لتتزلزل وتطمر ما فوقها في دقائق معدودات، محيلة قرونا من البناء والتقدم إلى غبار وأوحال. من هذا المنطلق ينبغي التفكير باستمرار وفي سياقات ومن زوايا متعددو ومتنوعة بتنوع الظواهر الطبيعية والإنسانية وتعقيدها، ليس في الماضي لاستخلاص العبر وفهم الحاضر فقط، وليس في الحاضر لتصحيح المسارات والتقاط الإشارات فقط، وبل وفي المستقبل لاستشراف الاحتمالات والتهيؤ للمخاطر وللمفاجآت، والتجهيز للحاجات وللتعثرات أيا كان مصدرها وطبيعتها. أساس ما سبق قراءة الماضي والتطورات، ورصد التحولات ومساراتها والتحولات، ووضع الإنسان وصحته واستقراره وتمتعه بحياة سعيدة وعادلة في قلب هذا التفكير وهذه التوقعات. العدالة أساس التفكير وغايته. تتطلب المساهمة في التفكير فيما – بعد - كورونا، فيما أعتقد، تركيزا على نقط مُحدّدة وتمحورا حول مفهوم محدد، كما تتطلب استحضار نسبيةِ الحقيقة في قلب التفكير ذاك ومُمارسته. من هذا المنطلق نعتقد بأن صُلب كل السّعي الإنساني، تفكيرا فلسفيا وتدبيرا سياسيا، يتمحور حول مفهوم أساسي هو مفهوم العدالة: فكل السّياسات وكل التنظيرات وكل الثورات وكل المطالب والاحتجاجات عبر التاريخ، وحتى ما هو قيد الدراسة والنقاش العمومي والتوقعات والاجتهادات، إنما يهدف، سواء أعلن ذلك بوضوح أم أعلنه من خلال تجزيئية معينة، إلى عدالة تجعل الناس تعيش بعيدا عن حيف يرتبط كما يكمن وراء ما ذكرناه من أشكال الشكوى والانحراف ثم الاحتجاج فالتمرد فالثورات بغض النظر عن مآلاتها ونتائجها التي غالبا ما تكون غالية الثمن. العدالة مطلب تحت الضغط. شكلت العدالة كقيمة مطلقة غير قابلة للتطبيق، كما هو الأمر مع كبار الفلاسفة منذ أفلاطون، وكمطلب عملي منذ الاحتجاجات الأولى التي عرفها نظام القبيلة في أبسط التنظيمات السياسية الإنسانية، بتصورات متعددة ومتنوعة بتنوع الرؤية السياسية وما يقبع وراءها من نظريات فلسفية ونماذج تنموية – نسقية أو مبتورة ومعلنة باكتمال نسبي أو بمزاجية عشوائية – شكلت العدالة إذا، قلب السياسات التي غالبا ما تتحول معها إلى شعار فارغ أمام ضغط داخلي وآخر خارجي. يتمثل الضغط الداخلي في مصالح مالكي وسائل الإنتاج والقرار في كل أبعاده وطنيا، كما يتمثل الضغط الخارجي في مصالح القوى الكبرى، المُمسِكة بمسارات وآليات وممرات إنتاج الثروات المالية والصناعية والفلاحية والتجارية والمعرفية والتكنولوجية والطبيعة، فالعالم اليوم شبكة مُعَولمةٌ يرتبط بها مصيريا ما هو قطري وقاري ووطني بشكل استراتيجي. العدالة ودروس التاريخ. مقابل دروس التاريخ القريب، التي تعلمنا الواقعية والاعتدال وتنويع العلاقات الاستراتيجية وصناعة المرونة الاقتصادية والعمل على الاكتفاء الذاتي الذكي، وذلك لصيانة استقلالية نسبية تصون الكرامة والهوية والوحدة وحقوق الأجيال مستقبلا، هناك دروس التاريخ البعيد التي تفيدنا في الاستحضار الدائم للأهمية الاستراتيجية لمنظومة القيم والصحة العمومية والتواصل الجماهيري، الإعلام اليوم، والتربية الحداثية، (نقصد التربية المنفتحة على التطور والابتكار والتجديد آليةً في تلقين المهارات المقرونة بالقيم الكونية وبمبادئ الدقة والتخصص والعمل الجماعي إلخ). إمبراطوريات وقوىً جبارة وحضارات هي سادت وهيمنت، بقوة الحديد والنار والبئس الشديد والدهاء السياسي الثاقب، بدت في زمانها وكأنها ستخلد لكنها انتهت إلى أطلال ودروس على الورق، لا تنفع إلا في ما ينبغي تجنبه، في السياسة وتدبير تاريخ الأمم، لترك إرث لا يفنى من المفيد والمدهش والممتع والجميل على صفحات التاريخ الإنساني. كل شيء فانٍ. ودوام التقدم المقرون بالسيطرة لم يتحقق، ولن يتحقق، لأي أمة مهما كانت قوتها ومهما كان جبروتها وعلمها وتكنولوجياتها. وحدها الثقافة بالمعنى النسقي الكوني والقيمي للكلمة تدوم وتتراكم لتصنع، ليس مجد أمة من الأمم، بل ومجد الإنسانية جمعاء. تشهد بهذا القول كتب ودروس التاريخ وفلسفات العباقرة ونظريات الإبستيمولوجيون العلماء والأعمال الفنية الرفيعة، موسيقيةً كانت أو سينمائية أو مسرحية أو تشكيلية إلخ. العدالة مطلب ما - بعد – كورونا. نعتقد أن مطلب العدالة هو أساس ما - بعد – كورونا لسبب يتضح مع مرور الزمن وقد بدى اليوم أوضح للملاحظين والدارسين. التقدم الرأسمالي المبتور. نستخلص مما سبق أن الوعي بالتقدم الإنساني الكبير عموما، وبالسلبي العميق في هذا التقدم الرأسمالي وآليات العولمة التي لا تحقق غير تعميقه بصفة خاصة، جعل القادة والمدبرين والمفكرين وبعض المُمسكين بنواصي الثروة ووسائل إنتاجها، أكثر وعيا بوحدة المصير بين الأفراد والأمم. فالجائحة سوَّت الأرض بالفوارق ولم يعد هناك مأمنٌ لأي كان من مصير محتوم هو الموت المقرون، قبل حدوثه، بالخوف والألم وفقدان الإحساس بالامتلاء النيتشوي. إن المسألة في العمق مجرد تذكير بالموت كمصير حتمي للجميع مهما كانت الامتيازات وأنواع الحماية والثروات من أي طبيعة كانت. إذا كان التقدم مضطرد بالتأكيد ويسير بمنحى تصاعدي منذ قيام الحضارة الإنسانية، فلا أحد يستطيع الجزم بأن التدمير قد يكون لحق حضارات سبقت وسادت وتطورت انتشى منها الإنسان واعتقد أنه حقق فكرة الفيلسوف روني ديكارت في سيادة الإنسان على الطبيعة. التفاوت والفقر بين غضب الطبيعة وأخطاء الإنسان. من المحتمل أن الدمار لم يكن دائما نتيجة للطبيعة ولغضبها فقط، كالزلازل والبراكين وسقوط نيازك كما يخبرنا تاريخ العلم، بل من الأكيد أن أنانية الإنسان وسيطرته الهوجاء على الطبيعة، استغلالا أنانيا وجاهلا بأسرار الكون وبدون حدود، كان لمرات وراء الفقر والأمراض والأوبئة والمظالم والحروب والدمار وتخريب المُكتسبات الثقافية واندحار السلم وزعزعة توازن الطبيعة إلخ. ربما تراجع الفقر وجودة الحياة وتيسيرها والاستمتاع بالحقوق الإنسانية وبالحريات العامة أكثر، مع التقدم التقني والتكنولوجي والسياسي، الذي تحت ظل المجتمع الرأسمالي، لكن لا أحد ينكر بأن الوعي بالفقر والمعاناة منه في ظل تحول العالم إلى قرية صغيرة وإتاحة إمكانية المقارنة ومشاهدة ما يستمتع به الآخر المتقدم، تجعل المعاناة أفظع لأنها تصبح مقترنة بالإحساس بالظلم وبالقهر وبالاحتقار وتنمو بسبب ذلك مشاعر الحقد والكراهية وتتبخر قيم التسامح والتعايش والسلم والغيرية لفائدة أضدادها. هنا تصبح التربية والتواصل والإعلام والصحة العمومية كخدمات عمومية معممة واستراتيجية أساس الإحساس بالمواطنة الذي لا يمكن أن يكون عميقا وحقيقيا وسائدا دون إحساس بالكرامة وبالعدالة بالتالي. وما العدالة في النهاية. إن العدالة هي التمتع بالحقوق وبالاهتمام السياسي الفعلي، وذلك من خلال إحساس المواطن بكونه يسكن صُلبَ التدبير والتسيير والتخطيط والتنمية في بلاده. وبذلك فحاجاته الأساسية تكون مُشبعة بحد أدنى من العدالة بينه وبين كل الآخرين، كما تكون حقوقه الأساسية مُصانة على قدم المساواة مع الجميع، ويكون وعيه المدني مبنيٌّ – لا هو مُعطى من السائد ولا هو موروث من التقليد - ومُحقق ومحمي بالتطوير والتجديد والتحيين بالتربية والعلم والإعلام العقلاني الديموقراطي. خلاصة القول. الثقافة والصحة وصنوهما الإعلام إذاً هي الأركان الثلاثة التي تستدعي القرار السياسي والصياغة الاستراتيجية لخطط التنمية ونماذجها في نظرنا لما – بعد – كورونا. التعليم. إنه أساس عدالة ما – بعد – كورونا ويتلخص في غايات لم تكن استراتيجيا القلب النابض من قبل: القضاء النهائي، بتعبئة غير مسبوقة، على الأمية بأبعادها المعاصرة، كتابة وقراءة ومعلوماتيا وعلى مستوى الصورة، مع تأطير الكل ببعد قيمي وجمالي رصين وذكي. فلا جدوى من محو أمية "تقنية" لغويا وفارغة من مضامين تحديثية قوية ورصينة وذكية. ربط قوي للتعليم بمتطلبات البلاد في سوق العمالة والإنتاج مع انفتاح واعٍ بعمق برهانات التقدم والثابت فيه والمتحول. الاهتمام الاستراتيجي بالبحث العلمي الجوهري، العباقرة الخلاقين المبدعين في كبريات نظريات العلوم في تعددها والعلم بمعناه الموحد كطريقة تفكير. أبن الشباب المغربي عبر الأجيال طاقاته الرائعة في هذا المضمار في المغرب وخارجه ولا مجال للتردد بتخصيص نسبة كافية من الإنتاج الوطني للبحث العلمي الأساسي. تجهيز وتشجيع وتحصين البحث العلمي التطبيقي بكل فروعه، والمرتبط منه بتنمية إمكانات الدولة وقوة وسائلها ورعاية المواطن وكرامته وثقافته أساسا. الثقافة. توسيع قاعدة الصناعات الثقافية والفنية من الكتاب حتى الفيلم السينمائي، مرورا بكل أشكال التعبير والتفكير والإنتاج اللامادي. يكون الاهتمام بإدماج الثقافة في قلب الاستراتيجية التنموية ونموذجها، وذلك باعتبارها مجموعة صناعات تنتج الثروة وتصون الوعي وتواكب العمل الاقتصادي والسياسي وتولِّدُه نجاحا واستيعابا، دون تبخيس أو إهمال لإرساء هذا الإنتاج على قاعدة قِيَمٍ تُسايِرُ الحرص على مواطَنة مدنيةٍ حداثية، وسيادة عقلانية تتسم بالكونية والتسامح والتعايش والإيمان بالتنوع والاختلاف، والالتزام الملائم للعيش المشترك. الغاية من بناء صناعات ثقافية وفنية: أن تكون لدينا سوق حقيقية ونسق متكامل للإنتاج والترويج والاحتفاء بالثقافة والفنون ونجومها تضمن كرامة العيش من تلقاء بنياتها النسقية وتمول نفسها ذاتيا وتواكب العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي بقوة وتمز وإبداعية. وضع بنيات وأسس ثقافة راقية إبداعية نخبوية لا ترتبط بالسوق وإكراهاته، ولا بضغط الكسب وما يفرضه من خنوع، استشرافا للمستقبل واقتحاما لمغامرات الجمال وفتحا لآفاق الابتكار كإلهام للعلوم وللسياسة وللصناعات الثقافية. تقوم بنيات الثقافة والفنون النخبوية إلى جانب البحث العلمي الجوهري بدور القاطرة في قيادة ثقافة وفكر وعلم المجتمع المغربي في الحاضر والمستقبل كما تشكل خزانا للابتكار والاختراع وأفقا خصبا للتخييل. الإعلام. سيكون بناء أسس خلق الثروات بالتعليم والثقافة والعلم والبحث العلمي والسياسات الاقتصادية والمالية والتجارية إلخ الرشيدة والحكيمة والسديدة ناقصا، ما لم يكن المُواطن مواكبا وملتزما ومسايرا ومتواصلا ومتصلا وفاهما لما يدبر وما يحدث وما يخطط له. إن الإعلام اليوم وفي عصر الصورة والحق في المعلومة والقول والاطلاع والخبر – الذي هو اليوم أكثر خطرا وموضوعا للتزييف والتوجيه والتضليل أكثر من أي وقت مضى – رافعة قوية وأساسية لصناعة المجتمع. يتم ذلك من خلال صناعة نماذج المجتمع ونمطيته وجانب هام من عاداته وسلوكياته، بواسطة آليات التكريس والتبريز والتفخيم. فالشاشات الكبرى والصغرى، وتلك المتواجدة في كل مكان بما فيه المحمولة فرديا بكل الأحجام، لا تتوقف عن تنميط الناس ووعيهم ولا تتوقف عن مخاطبتهم وجلبهم وتقديم القدوات والأفكار والأخبار والأشكال والتقليعات والوصفات لهم فما العمل؟ لا شك أن اعتماد استراتيجيات تحريرية تلتزم بالمطلوب تنمويا، والرفع من مستوى المؤهلين للتسيير والتدبير والبرمجة، ناهيك عن التنشيط والتقديم والمحاورة، أساسي بل جوهري في جعل الإعلام ما – بعد – كورونا مختلفا وملائما عما كان عليه من قبل. علينا إيجاد وسائل لجعل إعلامنا منتجا ومنافسا ومكتفيا ماليا وثقافيا لتلبية حاجيات البلاد في إطار وظائفه الحيوية من تربية وإخبار وتثقيف، بل وجعله ممولا ذاتيا من خلال تفتيق القدرات وفتح باب الإنتاج وتيسير المبادرة وربطه بمحيطه الاقتصادي والديبلوماسي والثقافي بقوة تجعله مكرسا لتحديث بنيوي أساسه عدالة ما – بعد – كورونا. ثلاثية عدالة ما – بعد – كورونا. إذا كان التعليم والعلم والسياسات العمومية في كليتها وتعددها، فيما بعد - كورونا تبني كل شيء ويطورانه، فإن الإعلام هو ذراع لحمة المجتمع واستراتيجية بناء الإنسان صانع الثروة فيها ولها.