لا يمكن الحديث عن النقد المغربي المعاصر بمعزل عن منظومة مركّبة من الإبدالات الثقافية التي تتحكم، باستمرار، في نشوئه وتشكيل مساراته، مثلما يتعذر استيعاب محرِّكات المشهد النقدي دون اطّلاع على شروط انبثاق المؤسسات الثقافية، وما يتصل بها من إنتاجات وقيم وممارسات في الإبداع والنقد والمواكبة؛ لذا كان حَريّا بالمشتغلين في مضمار نقد النقد أن يوجهوا عنايتهم صوب آليات اشتغال هذه المؤسسات، وأن يبحثوا في أوجه التأثير التي تمارسها على حركية النقد، وأن يُلِحّوا على معرفة موجِّهات التنظير نحو فئات تجنيسية ونصية دون غيرها؛ باعتبار ذلك كله ممّا يتوقف عليه إرساء دعائم صرح ثقافي ونقدي مغربي قوي وغني. نسعى من خلال هذه الفقرات إلى لفت الأنظار إلى بعض الأطر الثقافية (بالمعنى العام) التي تحكمت في حركية الثقافة النقدية المغربية المعاصرة، والوقوف على تمظهرات المفاهيم الشِّعارية (من الشعار)؛ من قبيل: النهضة والحداثة والمعاصرة والتجريب، في المُنجَز النقدي المغربي منذ النصف الثاني من القرن الماضي، بل ومحاولة استجلاء تطبيقات المفاهيم والبنيات المستوردة من الغرب عن طريق الاحتكاك والترجمة والمثاقفة، تليها محاولة إبراز خصوصية التجربة النقدية المغربية، ولاسيما تلك التي تبلورت في سياق السعي إلى تجاوز التراث، وأخذ مسافة من النقد المغربي القديم. تعنينا، إذاً، محاولة إعادة تركيب هُوية ثقافة النقد المغربي المعاصر، أولا ببيان المرجعيات التي استندت إليها التجارب النقدية المغربية، فلسفية كانت أو دينية أو معيارية. وثانيا باستعراض الزاد المنهجي الذي لجأ إليه النقاد المغاربة المعاصرون، والوقوق على مستويات الالتزام بالأجهزة المفاهيمية والمصطلحية المميِّزة لكل منهج على حدة، وتحديد مدى نجاعة إواليات النقاد المغاربة في استدرار الدلالات والتأويلات من قلب الحركة الإبداعية المغربية؛ من خلال ما أعلنوه من إحاطات منهجية مشار إليها بالاسم. وثالثا من خلال تتبع الامتدادات الفكرية والثقافية التي سِيقَ إليها عمل النقاد المغاربة المعاصرين، وتجلية ما خاضوه من مساجلات دفاعاً عن خياراتهم المعرفية والمنهجية. فالمطلوب من الحركة الثقافية بالمغرب هو أنْ تسعى إلى تتبع الطريق الذي سار فيه النقد المغربي المعاصر؛ برصد محرّكاته الثقافية الفعلية، ووضعه في سياق الخطاب الثقافي المغربي العامّ، الذي ما يزال مطبوعا بحالةٍ من التردد بين الوفاء للتراث والتمرد عليه، منحصرا في أطر ضيقة أفرزها الوضع الحضاري للأمة. ومن ثم، يصبح اهتمام الباحثين في هذا المضمار منصبّا على البنيات الذهنية؛ تتبعا لمسيرة التراكم الثقافي لدينا، ورصدا لمحركات الفعل السوسيولوجي التي تم في رحابها رسم جانبية Profil الناقد المغربي، وتحديد المهام الثقافية (المؤسسية وغير المؤسسية) المُوكَلة إليه. وانطلاقاً من هذا الزعم، فإن البحث في ما تقدم من محاور مشروط بحافزية منهجية متعددة المقاربات، تستقي ذخيرتها المصطلحية، وبنياتها النظرية والتطبيقية، من حقول معرفية متعددة، في مقدمتها: سوسيولوجيا التراكم الثقافي، ونقد النقد، وتاريخ الأدب، ونظرية الأدب... إلخ.