شكل قرار جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، بصفته أميرا للمؤمنين والناظر الأعلى للوقف بالمغرب، والقاضي بالإعفاء المؤقت (طيلة فترة الحجر الصحي) من أداء الوجيبة الكرائية لفائدة المكترين لبعض المحلات الحبسية الذين تضرروا من آثار جائحة "كوفيد 19"، التفاتة ملكية جد هامة، وإشارة رمزية لها أكثر من دلالة، ليس على مستوى الإحساس بمعاناة الفئة المستفيدة من هذا الإعفاء فقط، وإنما على مستوى تفعيل الأهداف العامة والمقاصد الكبرى للوقف، باعتبار فلسفته تقوم على التبرع والتبرر واستدامة العطاء، وأولى أولوياته تنفيس الكرب والنهوض بالشؤون الاجتماعية وبث روح التكافل والتضامن والتعاضد بين أفراد المجتمع، مما يجعل الجانب الاجتماعي أولوية في مختلف الأنشطة الاستثمارية التي تديرها المؤسسات الوقفية، تتقدم على الجانب الاقتصادي الذي يهدف إلى تعظيم عائدات الأصول الوقفية من أجل تحقيق أكبر نفع للجهات الموقوف عليها. لقد شكلت الأوقاف طيلة تاريخ مغربنا الحبيب خير سند في الملمات، للدولة والمجتمع على السواء، وأفضل وسيلة لتغطية ما يظهر من عجز وسد ما يطرأ من نقص أو خلل، حيث يهب أفراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم العلمية، وبشتى فئاتهم الاجتماعية لنجدة ومؤازرة بعضهم البعض طلبا للأجر، وتعبيرا عن نكران الذات والإحساس بالآخر. وإن تعجب فعجب أن تجد فقراء لم يتخلفوا عن ركب الواقفين، شعارهم في ذلك قول الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته. ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله). واليوم ونحن نستعيد هذه الصور المشرقة، والمعاني الراقية، لابد أن نتساءل عما يمكن للأوقاف أن تقوم به في واقعنا لتستعيد وظائفها التاريخية، وتحقق مقاصدها الخيرية، ولاسيما في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها وستفرزها جائحة "كوفيد 19". وقبل الإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا التنبيه إلى أن ما قبل هذه الجائحة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشبه ما بعدها، ليس على المستوى الوطني فحسب، بل على المستوى العالمي. ونقصد بذلك أن هناك تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة وعميقة بدأت تتشكل معالمها، تفرض على المؤسسات الخيرية، ومنها المؤسسة الوقفية، أن تضطلع بدور أكبر. مما لا مناص معه من إعادة النظر في عقليتها وطرق اشتغالها، لأن التعاطي مع هذه التحديات بنفس الحلول النمطية والتقليدية التي كانت سائدة إلى اليوم سيكون ضربا من العبث الذي تُنزه عنه أفعال العقلاء، لاسيما وأن أكثر السيناريوهات تفاؤلا بخصوص ما سيترتب عن هذه الجائحة لا تستبعد حدوث معضلات اجتماعية وخاصة بالدول الفقيرة، من أبرزها: ارتفاع نسب البطالة، وازدياد معدلات الفقر، فضلا عن إنهاك القطاع الصحي وحدوث مشاكل اجتماعية ونفسية. إن الجهود الوقفية ببلادنا في ظل هذه التحديات ينبغي أن تترجم في خطوات عملية، منها ما ينبغي اتخاذه عاجلا وبشكل فوري (أولا)، ومنها ما يمكن أن يقبل البرمجة على المدى القريب والمتوسط (ثانيا). أولا: الإجراءات الاستعجالية اللازمة يمكن إجمال أهم الإجراءات التي ينبغي أن تتخذها الإدارة الوقفية بشكل مستعجل في إجراءين أساسيين: أولهما تعديل الميزانية السنوية للأوقاف العامة للعام 2020، والثاني استثمار الزخم التضامني الذي أفرزته جائحة "كوفيد 19". تعديل الميزانية السنوية للأوقاف العامة للعام 2020 تنص المادة 134 من مدونة الأوقاف على أنه: " توضع للأوقاف العامة ميزانية سنوية خاصة بها، تكون مستقلة عن الميزانية العامة للدولة، وتقوم على أساس التوازن المالي بين الموارد والنفقات طبقا لأحكام هذه المدونة والنصوص المتخذة لتطبيقها". وتضيف الفقرة الثانية من نفس المادة بأنه "يجب أن تراعى في إعداد الميزانية المذكورة صدقية التقديرات في ضوء معطيات الظرفية الاقتصادية والاجتماعية". وحيث إن مشروع ميزانية الأوقاف العامة لسنة 2020 أعد في ضوء المعطيات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت متوفرة في سنة 2019، حيث لم يكن حاضرا حينها المعطى المتعلق بجائحة "كوفيد 19" والآثار المترتبة عنها، فإن التقديرات التي أعدت على أساسها ميزانية 2020 أصبحت متجاوزة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستمرار في اعتمادها، مما يفرض تعديل الميزانية في ضوء المعطيات المستجدة، طبقا لمقتضيات المادة 149 من مدونة الأوقاف. ومما نقترح أخذه بعين الاعتبار في تعديل الميزانية إعادة النظر في أولويات الصرف، سواء في الجزء المتعلق بالتسيير، أو الجزء المتعلق بالاستثمار. وذلك بالتركيز على الجهات الأكثر ضرورة واحتياجا، وتأجيل أو إلغاء النفقات التي يتعذر صرفها أو تلك التي تندرج ضمن ما يمكن أن نسميه بالنفقات "الكمالية". ومن أمثلتها في الجزء المتعلق بالتسيير: المصاريف المتعلقة بالحج والمصاريف المتعلقة بإحياء الأعياد والمواسم (الفقرة 10 من المادة 20 من الفصل 4 من الباب 1 من القسم 1 من الجزء 2 من مصنفة الميزانية كما حددها قرار وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية رقم 257.13 الصادر بتاريخ 03 أبريل 2013). وفي الجزء المتعلق بالاستثمار: كل المشاريع التي لا تشكل ضرورة ملحة تقتضيها مصلحة الوقف المتمثلة أساسا في المحافظة على الأصول الوقفية وتنمية عائداتها، طبقا لما تنص عليه المادة 148 من مدونة الأوقاف والتي جاء فيها: "يجوز لإدارة الأوقاف أثناء السنة المالية وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار إذا استلزمت مصلحة الوقف ذلك، وكان الهدف من هذا الإجراء حماية أموال الوقف. وفي هذه الحالة يتعين إحاطة المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة علما بذلك خلال الثلاثين يوما الموالية لتاريخ اتخاذ هذا الإجراء". استثمار الزخم التضامني المترتب عن جائحة كوفيد 19 إذا كانت كل محنة تحمل في طياتها منحة، وإذا كان كل تحد يخلق فرصة، فإن من أهم المنح التي حملتها المحنة المرتبطة بجائحة "كوفيد 19" حجم التضامن الطوعي الذي ميز سلوك المغاربة، والذي تجسد في مظاهر متعددة لم تقتصر على الجانب المادي، بل شملت أيضا الجوانب المعنوية. لكن أهمها وأوضحها هو حجم التفاعل مع الصندوق الذي أحدث بتعليمات ملكية سامية لمواجهة تداعيات هذه الجائحة. وبقدر ما شكلته جائحة "كوفيد 19" من تحد، بقدر ما أظهرت المعدن الحقيقي للمغاربة، واستعدادهم الدائم للعطاء والتبرع، وهو ما يشكل فرصة مواتية لإدارة الأوقاف من أجل استثمار هذا الزخم التضامني لتحويل الاستعداد اللحظي إلى عطاء يتسم بالاستدامة، ويأخذ بعين الاعتبار أن آثار وتداعيات هذه الجائحة غير لحظية. إن هناك اليوم العديد من الأدوات الوقفية التي يمكن الاستعانة بها في هذا الصدد، ومن ذلك ما يسمى ب"وقف الوقت"، والذي يتبرع من خلاله أصحاب الكفاءات والمهارات بجزء من أوقاتهم على سبيل الدوام لفائدة المؤسسات الخيرية، ويمكن استثمار هذا النوع من الوقف في القطاع الصحي، والقطاع التعليمي، والقطاع الخدماتي. فضلا عن الأشكال الجديدة للوقف الجماعي من مثل: الصناديق الوقفية، والمنصات الإلكترونية للوقف النقدي. غير أن ما نقترح التعجيل به في هذا الإطار هو تفعيل سندات الوقف المنصوص عليها في المادة 140 من مدونة الأوقاف والتي جاء فيها: "يجوز للسلطة الحكومية المكلفة بالأوقاف التماس الإحسان العمومي تلقائيا ودون سابق إذن لفائدة الأوقاف العامة عن طريق جمع تبرعات نقدية أو عينية أو عن طريق إصدار سندات اكتتاب بقيمة محددة تسمى "سندات الوقف"، تخصص مداخيلها لإقامة مشاريع وقفية ذات صبغة دينية أو علمية أو اجتماعية". ونقترح أن يكون أول مشروع لهذه السندات هو دعم صندوق مواجهة تداعيات جائحة "كوفيد 19". ثانيا: الإجراءات اللازمة على المدى القريب والمتوسط تتمثل أهم الإجراءات التي يتعين اتخاذها في قطاع الأوقاف، على المدى القريب والمتوسط، حتى يتم التعاطي بشكل إيجابي مع تداعيات جائحة "كوفيد 19"، في ثلاثة إجراءات تروم إعادة النظر في نمط التدبير المالي للأوقاف، وفي الموارد الوقفية، وفي شكل الإدارة الوقفية. إعادة النظر في نمط التدبير المالي للأوقاف يعتمد التدبير المالي الحالي للأوقاف على النمط التقليدي الذي يقوم على ميزانية سنوية تضخ فيها مجموع موارد الأصول الوقفية لتغطية مجموع النفقات المدرجة في هذه الميزانية، ضمن ما يسمى بوحدة الخزينة، مثل ما هو عليه الأمر في الميزانية العامة للدولة والقائمة على مبدأ عدم التخصيص. ولئن كان لهذا النمط بعض الإيجابيات من حيث إنه يسمح بتغطية العجز الحاصل في بعض المصارف الوقفية، ويتيح فرصا أكبر لتنمية عائدات الأحباس واستثمارها. لكن هذه الإيجابيات لا ينبغي أن تحجب عنا بعض السلبيات والمتمثلة أساسا في عدم تحقيق إرادة المحبسين، خصوصا عندما تكون أولويات الإدارة الوقفية مخالفة لهذه الإرادة، أو عندما لا يتحقق الاكتفاء لبعض المصارف الوقفية نتيجة توزيع العائد بالتضامن بين مختلف هذه المصارف، وهو ما يعطي صورة سلبية للأفراد عن تدبير إدارة الأوقاف، وربما يزعزع ثقتهم بها، وبالتالي يحجمون عن التحبيس نتيجة فقدان الثقة. لذلك، فإنه ينبغي اعتماد نمط مرن يسمح بالتخصيص إلى أبعد حد ممكن، ولو على مستوى الأغراض الوقفية، إن تعذر الأمر على مستوى الجهات الوقفية التي يسميها الفقهاء ب"الأوقاف المعينة". إعادة النظر في الموارد الوقفية تتشكل معظم موارد الميزانية الخاصة للأوقاف العامة من مداخيل كراء الأملاك الوقفية، الفلاحية منها وغير الفلاحية. وكذا من الإعانة المقدمة من الدولة لفائدة الحسابات الخصوصية للأوقاف. وغني عن البيان أن أقل ما يمكن أن نصف به هذه الموارد هو أنها تتسم بعدم الوثوقية، أي لا يمكن الوثوق بها لأنها قابلة للتغير في أي لحظة ولأكثر من سبب. فبالنسبة للكراء، يمكن التأكيد على أنه لم يعد الوسيلة المثلى التي يمكن التعويل عليها لعدة اعتبارات أهمها: ارتباط الكراء الفلاحي بالعوامل المناخية، وقوة المنافسة التي توفرها بدائل أخرى للمستهلك فيما يخص الكراء غير الفلاحي، والتي تستعمل الكراء وسيلة للتمليك تحت شعار "الشراء بثمن الكراء"، والازدياد المطرد لحالات التقاعس عن الأداء، والنظرة الخاطئة للأملاك الوقفية باعتبارها أملاكا مستباحة بذريعة أن الهدف منها خدمة العمل الاجتماعي، مما يؤدي إلى غبن الأوقاف في حقوقها، والإثراء على حسابها، وتراكم الديون على المكترين، والدخول في متاهات التقاضي التي تتسبب على الأقل في تعطيل المداخيل لمدة غير يسيرة. أما بالنسبة للإعانة المقدمة من الميزانية العامة للدولة، فلا نجادل أن من مسؤولية الدولة الإنفاق على ما يقتضيه تدبير الشأن الديني. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو مدى قدرة الدولة على الاستمرار في تقديم هذه الإعانات بنفس الحجم والوتيرة، ولاسيما في ظل الصعوبات المالية التي أفرزتها جائحة "كوفيد 19". وحتى إذا ما استطاعت الدولة الاستمرار في ما تقدمه لإدارة الأوقاف من إعانة، فهل بمقدورها الاستجابة لمتطلبات الدعم التي ستفرضها الحاجات المستجدة أمام عجز الموارد الوقفية عن الوفاء بها؟ لذلك، فإنه يتعين اقتحام المجالات الاستثمارية التي توفر أكبر عائد، مع إعطاء الأولوية للاستثمار في القطاعات ذات البعد الاجتماعي كالصحة والتعليم، والبحث عن الفرص الاستثمارية الأكثر مردودية بدل التركيز على البناء أو الاقتناء من أجل الكراء. إعادة النظر في شكل الإدارة الوقفية ليس جديدا إذا قلنا بأن الشكل الحالي للإدارة الوقفية بالمغرب، والذي لا يختلف عن أي إدارة حكومية، لا يمثل الشكل الإداري المناسب لإدارة القطاع الوقفي، باعتباره قطاعا اجتماعيا خدماتيا. وقد بينا أسباب ومبررات ذلك باستفاضة وبما فيه الكفاية في أطروحتنا للدكتوراه بعنوان "الحماية المدنية للأوقاف العامة بالمغرب"، والتي صدرت ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لسنة 2009. غير أننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أن هذا التوجه أصبح الخيار الأمثل لعدد غير قليل من الدول الإسلامية. كما أن مقارنة بسيطة بين ما حققته تجارب الإدارة الحكومية للأوقاف في مقابل ما حققته الإدارة المؤسسية للأوقاف بالعالم الإسلامي، يجعل كفة الخيار المؤسسي راجحة، بالنظر إلى ما يتميز به هذا الخيار من تخصص واحترافية، وما ينتج عنه من تخلص من الجمود والبيروقراطية الإدارية، وما يسهم به في تطوير الأداء الوقفي، واستفادته مما يزخر به قطاع المال والأعمال من مهارات وفرص للاستثمار بما يعظم العائد الوقفي، ويستجيب بالتالي للحاجات المستجدة بسرعة وكفاءة وفعالية. وبالموازاة مع الخيار المؤسسي للإدارة الوقفية، فإننا ندعو إلى إتاحة الفرصة للخواص لمن شاء منهم أن يتولى إدارة أوقافه بنفسه، أو ينتدب لذلك من شاء، تحت رقابة الدولة، حتى نضمن ألا يساء استعمال الأوقاف في أغراض مشبوهة أو ممنوعة، أو لأغراض الدعاية السياسية البعيدة عن أهداف ومقاصد الوقف. وختاما، نسأل الله تعالى أن يحفظ بلدنا والبشرية جمعاء من كل سوء وداء، وأن يصرف هذا الوباء بما شاء وكيف شاء، إنه سبحانه لطيف لما يشاء.