تباينت ردودُ أفعال الأسر والأولياء والتربويين والنقابيين وقليل من الخبراء والعارفين، حول التعلم عن بعد وحيثيات وملابسات اللجوء إليه في إطار تفعيل التدابير الاحترازية التي لجأت إليها الحكومة والوزارة الوصية لمواجهة تفشي كوفيد 19، بين المُرحِبين والمُنتقِدين والمُذبذبِين، وبين هؤلاء هناك منْ لمْ يستوعبُوا بعد أسباب النزول، وكيفية التنزيل، وما مدى قدرة هذا النوع من التعلم على تعويض الزمن المدرسي والطرائق والمناهج والوسائل والوسائط الذي ظلت مُحتكرة لأنماطِ التعلّم الحُضوريِّ في صِيغِه التقليديّة المتوارثة...لكن ما استرعى الاهتمام، هو تطفُّل بعض القوم على نقد هذا النوع من التعلم والتعليم، وزعم بعضهم الآخر، أن الحاجة ماسة للإعداد والاستعداد لهذا الشكل من تحصيل المعارف واكتساب الكفايات والمهارات والقدرات قبل الإقدام على القرار وتعميمه... هكذا صوّر – بعضهم- العملية وكأنّها ارتجالٌ صاحب الإجراءات الوقائية التي لاذتْ بها البلدان والمجتمعات والحكومات من أجل السيطرة على الوضع ومنعه من الخروج عن السيطرة، واستراتيجية لإبقاء الأطفال والشباب والطلبة في البيوت والمنازل حتى لا يُفكِّروا في مغادرتها ويختلطوا مع الأقران والجيران والأقارب؛ مما يعتبر نَسفًا للتدابير الاحتياطيّة والوقائيّة.... وفجأةً نسِي أو تناسى كثير من الخائضين في التعلّم عن بعد، والذي اعتبر لدى بعضهم، شكلاً مُستجدًّا طارِئًا غير متقدم به العهد، أن أبناءهم وبناتهم وشبابنا وشاباتنا الذين قد وُلدوا في عصر الصورة...وفي عصر الفايس بوك واليوتيوب والواتساب...إلخ، وأنهم لا يستطيعون التحرر من سلطة الوسائط التي سميت إعلاما جديدا، ومن ربقة سحرها وعظيم تأثيرها، في ظل استحواذ شبكات التواصل الاجتماعي بتغريداتها وأخبارها المتهاطلة بشكل مباشر ويومي في كل دقيقة وثانية، على الجميع صغارا وكبارا، نساء ورجالا...إلى حد الإدمان لدى فئات ! ألا يمكن اعتبار أفراد الجيل الذي واكب هذه الشبكات، وكأنهم ولدوا مُهيئين ومُبرمجين وفي أتمِّ الاستعداد لاستقبال الوسائل ووسائط التكنولوجيا وثمارها واستخدامها لاسيما نحن دول الجنوب التي تعد من أكبر مستهلكيها؟ قد يقول قائل إن ذلك الاستعمال والاستخدام لدى الكبار كما الصغار والشباب، يظل محصورًا في اللهو واللعب والاستمتاع بالبرامج والتطبيقات والألعاب الالكترونية الحرة المتاحة بالمجان والمفتوحة المصدر، فكيف يتم الانتقال بسرعة نحو استعمالها في مقامات الجدِّ مثل أنشطة التعلم والتعليم؟ هذا صحيح، لكن ألم يتعوَّد التلاميذ والطلبة على الشاشات اللمسية والهواتف الذكية بتطبيقاتها وبرمجياتها؟ ألا يحمل التلاميذ والطلبة – وبعضهم على الأقل- الهواتف والحواسيب واللوحات المتقدمة التي ربما أحيانا لا تتوفر لدى مدرسيهم؟ في ضوء ما سبق، نستنتج بأن العصر الذي يعيشه أبناؤنا وبناتنا وتلاميذنا وطلبتنا، وبيئتهم الاستقباليّة، غنية بعشرات، إن لم نقل المئات من الرسائل التواصلية التي يتلقونها كل يوم، بل في كل ساعة، وفي كل ثانية...من هنا فالاستعداد موجود لاشك للتفاعل مع الوسائط الرقمية المتنوعة والمختلفة، التي سيتم استعمالها في عملية التعليم والتعلم، هناك تطبيع مع التكنولوجيا الرقمية. بقي أن نسجل أن الجديد في عملية التعليم عن بعد التي يشارك فيها الأساتذة والأستاذات في جميع المستويات والأسلاك، من خلال توظيف الوسائط والوسائل والمنصات والمواقع والأقسام الافتراضية، هو الانتقال بالتلاميذ والطلبة من سياقات استخدام تلك التكنولوجيات في اللهو والتسلية واللعب، إلى سياقات جديدة أملتها الظرفية الحالية المتولدة عن تفشي فيروس كورونا، حيث سيتم استبدال محتويات الجد والدراسة بمضامين التسلية واللهو التي عهدها المتعلمون... بل إن الانتقال لاستخدامها بإشراف أساتذة التلاميذ والطلبة، سيكون آمنا أكثر، أولا لتركيزها على المقررات والبرامج المصادق عليها من لدن الوزارة المشرفة على القطاع، ثانيا لحرص الأساتذة الأوصياء على المتعلمين والمتعلمات، على انتقاء المضامين الرقمية والأشرطة والمواقع الأنسب للفئات العمرية ومستواها الإدراكي بحسب الكفايات والقدرات المسطرة في المنهاج الدراسي. وبالنسبة للتعلم عن بعد، أؤكد من موقع التجربة والممارسة، أن كثيرا من أنشطته ووسائله ووسائطه لا تتطلب ولا تستلزم البتة علمًا مسبقا وقدما راسخة في مضمار التكنولوجيا الرقمية وأدواتها وبرامجها وأنظمتها، عكس ما يعتقده بعضهم إما جهلا أو تجاهلا، وأؤكد أن التلاميذ والطلبة هم على أتم الاستعداد للتواصل باستعمال التقنيات الجديدة في الإعلام والاتصال، شريطة أن يتلقوا دعما وتحفيزا وتوجيها من أساتذتهم. وأكبر دليل على صحة هذا القول، انخراط كثير من نساء ورجال التعليم والتربية والتكوين، في التعلم عن بعد منذ الأيام الأولى التي أعقبت توقيف الدراسة...ومنهم من بادر إلى مشاركة تجاربه الشخصية وبوسائله الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، وباعتماد هواتفهم بسبب عدم امتلاك كاميرات متخصصة عالية الجودة، وفضاءات للتصوير، وتجويد الصوت والصورة والمونتاج...هؤلاء الذين بادروا للبقاء على اتصال بتلاميذهم وطلبتهم بوسائلهم الخاصة واستجابة لنداء الواجب المهني والعلاقة التي تربطهم بمتعلميهم، ليسوا خبراء في التعلم عن بعد، لأنهم بالأمس القريب فقط كانوا يثابرون في إطار التعليم الحضوري الذي ألفوه وقضوا به سنوات ذوات العدد، لكنهم استطاعوا الانخراط في التجربة بسلاسة ولاشك أنهم سيتمكنون بعد زوال الأزمة (إن شاء الله)، من إجراء تقويم موضوعي لها واستثمارها في إطار التكامل بين التعليمين الحضوري والافتراضي... من هنا فاقتحام التعلم عن بعد ليس محتاجا للتنظير والعتاد الكثير والبيداغوجيات النظرية، كما يتصور بعضهم، بل هو في حاجة ماسة وملحة للرغبة والدافعية والممارسة، وتكرار الممارسة، وهي الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتفعيل البعد التبصُّرِي خلال تحليل أي ممارسة في إطار التكوين والنقد الذاتيين... علينا الاعتراف أنَّنا متأخرون عن كثير من الدول الرائدة في هذا المجال، والتي تبنت التعلم عن بعد منذ بدايات ظهوره مع الانترنيت في 1999. لا يجب أن نغفل العالم القروي حيث الهشاشة، ومن أجل معالجة مشكلة اختلال تكافؤ الفرص بين المجالين الحضري والقروي والحضري وشبه الحضري، لابد من استراتيجية ما بعد الأزمة، لاستدراك هذه التفاوتات المجالية التي يمكنها أن تسود في المدن أيضا، وبين القطاعين العام والخاص، ولا يجب بعد العودة للتعلم الحضوري، التفريط في التعلم عن بعد؛ الذي يجب أن يسير مواكبا التعليم الحضوري، لأنه يمكنهما الاستمرار وهما متساندان متعاضدان، من هنا لابد من التفكير في تخطيط منهاج رقمي متكامل صالح للقيام مقام المنهاج الورقي الحالي...ويكون رهن إشارة المتعلمين والمتعلمات في كل مكان.... التعلم عن بعد وسيلة فعالة لدعم المتعثرين بمراعاته الفروقات الفردية بين المتعلمين، لذا، يجب تمكين المدرسين والمدرسات من التكوين المستمر من خلال التكوين عن بعد. لا يمكن لمنتقدي تعثر منظومتنا التعليمية وتخلفها عن المراتب الأولى في التصنيفات العالمية، أن يجهروا اليوم بمعارضتهم القاسية للتعلم عن بعد، لأن كثيرا من المنظومات التربوية الناجحة دوليا، لم تفصل بيت التعلم الحضوري والتعلم عن بعد، فمتى ستلحق منظومتنا التربوية بالقافلة إن كان منا من يتوجس خيفة من التكنولوجيا وهي الجناح الذي حلق بالدول المتقدمة في عالم الريادة؟ * رئيس المركز المغربي مآلات للأبحاث والدراسات