رغم ما يروج من حديث عن احتمال خروج دول أخرى من "الاتحاد الأوروبي" مثل إيطاليا عقب أزمة جائحة "كورونا"، ترى ورقة بحثية نشرها مركز المستقبل للأبحاث والدّراسات المتقدّمة أن هذه التحليلات "غير دقيقة في تناولها، لأنه من المبكر جدًّا الحكم على هذا الأمر وتداعياته على الكيان الأوروبي". وتقول الورقة التي أعدّها الباحث باسم راشد إنّ "حالة الغضب الشعبي في دول الاتحاد الأوروبي مثلًا لم تنعكس سوى في تصرفات فردية، ولم تعبر عن توجه عام داخل المجتمع الإيطالي حاليًّا، خاصة مع قيام ألمانيا بعلاج المواطنين الفرنسيين والإيطاليين الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي التي يسببها فيروس كورونا في المستشفيات الألمانية". وتضيف ورقة مركز المستقبل أنّ حالة الاستياء على المستوى الرسمي في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال بسبب رفض الاتحاد سندات كورونا "لا تعبر عن رغبة تلك الدول في مغادرة الاتحاد بشكل فعلي، لكنها تستخدم تلك النبرة في خطابها للضغط على الاتحاد الأوروبي للاستجابة لمطالبها". وتذكر الورقة أنّ أزمة فيروس "كورونا" كشفت محدودية دور الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمة، وفقًا لحدود صلاحياته المنصوص عليها في معاهدات تأسيس الاتحاد، ووفقًا لمدى التزام الدول الأعضاء بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه في بروكسل لإدارة الأزمة بشكل مشترك. ويزيد الباحث باسم راشد مدقّقا: "يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي، على عكس ما يُشاع، يقوم بالدور المنوط به في التعامل مع أزمة كورونا، وهو الدور الذي فرضته عليه معاهدات الاتحاد الأوروبي، والصلاحيات الممنوحة له في بعض الملفات كالصحة وغيرها؛ بيد أن ما قد يُؤخذ عليه في التفاعل مع الأزمة هو بطء الإجراءات والقرارات التي تم اتخاذها، والتي كان من الممكن لو تم اتخاذها مبكرًا إنقاذ القارة العجوز من إحدى أخطر الأزمات التي تواجهها مؤخرًا". وترى الورقة أنّ من أهمّ ما تنبع عنه "الانتقادات" عدم فهم "الخط الفاصل بين دور الاتحاد وأدوار الدول الأعضاء طبقًا لمعاهدات تأسيس الاتحاد، خاصة في بعض الملفات؛ وذلك لأن الاتحاد ككيان فوق- وطني له سلطة التنسيق بين الدول الأعضاء، وصلاحية إبداء النصيحة والرأي وليس فرض قراراته عليها"، كما حمّل جزءا من مسؤولية الانتقادات المعبّر عنها ل"التّلاعب بسياسة مدح الحكومات الوطنية في حالة الإنجاز، وانتقادِ الاتحاد في حالة الفشل والأزمة"، وهو التوجه الذي يقول إنّ بعض الساسة اعتادوه "للحصول على دعم مواطنيهم بالاعتماد على عدم الفهم الجمعي الكافي لحدود دور الاتحاد ومحدوديته". وتذكّر الورقة بامتلاك الاتحاد الأوروبي سلطات محدودة للتصدي لمثل هذه النوع من الأوبئة بشكل عام، لأن الدول الأعضاء هي التي تشرف على القطاع الصحي، ويمكن للمفوضية الأوروبية فقط تنسيق ودعم الدول الأعضاء في مجال الصحة، وتقديم توصيات وإعطاء المشورة، من خلال الدور عبر – الحكومي؛ فيما تظلّ الحكومات الوطنية حرة في اعتماد هذه التوصيات. كما توضّح الورقة أنّ الدور الثالث للاتحاد، بعد الدورين الحصري والمشترك، هو "الدور الداعم للدول الأعضاء فقط؛ إذ تقع السلطة النهائية في اتخاذ القرار على عاتق الدول الأعضاء، والذي تندرج تحته أزمة كورونا، لأن دور الاتحاد فقط هو دعم الإجراءات الوطنية في المجالات الاجتماعية كالصحة"، علما أنّ دول الاتحاد الأوروبي "مازالت مترددة في تسليم السلطات الصحية إلى المستوى فوق الوطني، خاصة أن السياسة الاجتماعية مجال يتضمن عادة ميزانيات وطنية كبيرة، تظل عرضة للتغييرات في الحكومة والائتلافات السياسية". وتذكر الورقة أنّه رغم هذا يمكن تفعيل "المادة 222" من "معاهدة الاتحاد الأوروبي"، التي تشترط التضامن بين الدول الأوروبية في حالة وقوع دولة في الاتحاد ضحية لهجوم إرهابي، أو كارثة من صنع الإنسان، أو كارثة طبيعية؛ إذ إنها "تُلزم دول الاتحاد الأوروبي بالعمل بشكل مشترك "بروح التضامن" ومساعدة الدول الأعضاء التي طلبت المساعدة"، وهو الأمر الذي سيكون "متروكًا لرئاسة المجلس الأوروبي لتولي القيادة وتنسيق استجابة الاتحاد الأوروبي للأزمة"، من خلال تفعيل ما يسمى ترتيب "الاستجابة المتكاملة للأزمة السياسية"، بما يعني أن على الاتحاد الأوروبي أن يفعل كل ما بوسعه، بما في ذلك الوسائل العسكرية التي تتيحها الدول الأعضاء، من أجل دعم أولئك المعرضين للتهديد. وتقول الورقة إنّه رغم محاولات الاتحاد تنسيق استجابة مشتركة بين الدول الأعضاء، إلا أن العديد من الدول الأوروبية تتخذ تدابير غير منسقة إلى حد كبير، بل وحتى متناقضة، بما قد يُقوِّض في نهاية المطاف الجهود المشتركة لمكافحة تفشي الفيروس، مقدّمة مثالا على هذا بمنع ألمانياوفرنسا وجمهورية التشيك، في مطلع مارس، تصدير معدات مكافحة الفيروسات للدول الأوروبية، وقيام بعض الدول الأعضاء بإعادة إدخال ضوابط الحدود أو حتى إغلاق الحدود لغير المواطنين كما فعلت فرنسا، وهو ما أظهر نوعًا من التفكك في الاستجابة الأوروبية للوباء، وأثار انتقادات لفكرة التضامن الأوروبي من جانب قادة بعض الدول الأعضاء كإيطاليا وغير الأعضاء كصربيا. ودفعت هذه الانتقادات، وفق المصدر نفسه، المفوضية الأوروبية إلى اتخاذ قرار في اليوم الرابع عشر من شهر مارس، يلزم الدول الأعضاء فقط بإصدار تفويض لتصدير المعدات الطبية، استرشادًا بالقواعد الداخلية للاتحاد الأوروبي في حالات الأزمات وفقًا لقانون المفوضية الأوروبية، التي تشدد على ضرورة خضوع صادرات معدات الحماية الشخصية لتفويض يضمن كفاية الإمداد في الاتحاد لتلبية الطلب الحيوي. كما ذكّرت الورقة البحثية بعقد رؤساء الدول والحكومات الأوروبية في اليوم العاشر من شهر مارس الماضي، في السنة الجارية 2020، مؤتمرًا عبر "الفيديو كونفرانس" للاتفاق على السبل المشتركة لمواجهة فيروس كورونا، حيث تم التشديد على ضرورة اتباع نهج أوروبي مشترك وتنسيق وثيق مع المفوضية الأوروبية، والتأكيد على ضرورة تشاور وزراء الصحة ووزراء الداخلية يوميًّا لضمان التنسيق المناسب من أجل التوجيه الأوروبي المشترك. وعدّد المصدر ذاته الأولويات الأربع المحدّدة في هذا الاجتماع، وهي: التنسيق والمشاورة: باتفاق الدول الأعضاء على ضرورة استناد التدابير التي سيتم اتخاذها إلى المشورة العلمية والطبية من خلال المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، وأن تكون تلك التدابير متناسبة ليست لها نتائج مفرطة على المجتمعات الأوروبية، مع اتفاق القادة كذلك على تبادل جميع المعلومات ذات الصلة، وأولوية توفير المعدات الطبية، وأولوية دعم البحث العلمي بتعزيز الجهود فيه، خاصّة في إنتاج اللقاح، وهو ما وفّرت من أجله المفوضية مائة وأربعين مليون أورو، واختارت له سبعة عشر مشروعًا، وأولوية مواجهة تداعيات الوباء باتفاق الدول الأعضاء على الاستعداد لاستخدام جميع الأدوات اللازمة لمواجهة تداعيات الفيروس بالتركيز على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات المتضررة وموظفيها. كما ذكّرت الورقة بإعلان المفوضية الأوروبية في شهر مارس الماضي تخصيص نحو أربعين مليار دولار لمواجهة أزمة "كورونا"، ودعوة تسع دول أوروبية في مارس 2020 نظراءَها في الاتحاد الأوروبي إلى إصدار ما أسمته "سندات كورونا"، كأداة دين جديدة تجمع بين الأوراق المالية من دول أوروبية مختلفة، وعرض المفوضية مبادئ توجيهية بشأن الحدود للحفاظ على تدفق البضائع بين الدول الأوروبية، إضافة إلى "تفعيل الاستجابة المتكاملة لأزمة انتشار وباء كورونا في أوروبا" خلال الأزمة الراهنة، و"تفعيل دور مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ التابع للمفوضية الأوروبية الذي يلعب دورًا رئيسيًا في جهود الإغاثة لمساعدة جميع البلدان التي تطلب دعمًا محددًا". وتخلص الورقة في ختامها إلى أنّ بعض الحكومات الوطنية تريد تحميل الاتحاد الأوروبي مشاكل إخفاقها الداخلي في مواجهة أزمة كورونا، وتنتقده لعدم القيام بدور غير منصوص عليه في المعاهدات الأوروبية ولا تسمح به حتى الدول الأعضاء، ثم تضيف: "صار التوجه العام داخل بعض المؤسسات الأوروبية في الوقت الحالي هو المطالبة بتمكين الاتحاد الأوروبي ككيان فوق وطني في ملفات مثل الصحة وغيرها، خاصة أن أزمة كورونا قد أظهرت ضعف سلطات الاتحاد على الدول الأعضاء، بعدما قامت بعض الدول الأوروبية بوضع نفسها أولًا؛ فاشترت وخزّنت الأدوية على المستوى الوطني، ما زاد من صعوبة وصول هذه المنتجات إلى دول في أمسّ الحاجة إليها، وأدى إلى انتشار المرض في سائر أوروبا". وبالتالي، ترى الورقة أنّه قد أضحى من الضروري لمكافحة مثل هذا النوع من التهديدات: "إعادة النظر في المعاهدات الأوروبية بما يُعطي مزيدًا من السلطات للاتحاد الأوروبي لممارسة دوره بفعالية أكبر، ومزيدًا من الصلاحيات لتعزيز المواجهة "المشتركة" لأي أزمة".