لقد كان تركيز القانون الدولي، عبر التاريخ في إحدى زواياه، على مكافحة الأمراض المعدية، وعلى تنسيق تدابير الحجر الصحي على الحدود في مختلف البلدان، واتباع النموذج الفني للسيطرة على الطوارئ. فمنذ عام 1851م، كان الهدف الرئيسي لمعاهدات الصحة العامة الدولية هو تنسيق تدابير الحجر الصحي على الحدود البرية والمطارات والموانئ في مختلف البلدان، في محاولة لإبقاء مسببات الأمراض خارج البلاد، وفرض إجراءات "صارمة" على الأشخاص والمركبات والمعدات تفاديا لعواقب عدم الامتثال لضوابط حصار الأمراض المعدية. أولاً: التحول من التحكم في حالات الطوارئ إلى إدارة المخاطر مع ذلك، وعلى الرغم من المراجعات المتكررة لمعاهدات الصحة العامة الدولية، فإنها لم تتمكن من تعزيز العمل المتضافر بشأن الحجر الصحي الحدودي في حالة تفشي المرض. مما يجهض كل النوايا الحقيقية للحجر في الرغبة في تقييد تصدير الأوبئة (عن حسن أو سوء نية)؛ وبطبيعة الحال، يرجع ذلك إلى تردد الدول في اتخاذ تدابير من شأنها الإضرار بتجارتها الدولية، في حالة الإبلاغ عن حالات الوباء. لكن هذا لم يمنع اللوائح الصحية الدولية، التي اعتمدت بعد إنشاء منظمة الصحة العالمية في عام 1951، من أن تواصل نماذجها في التحكم في حالات الطوارئ لأكثر من مائة عام، وإن كانت فشلت -إلى حد ما- في نهاية المطاف، في تحقيق نتائج عملية في الحد من "التدابير المفرطة"، وتعزيز الإبلاغ عن الأوبئة. من منظور قانوني وتقني بحت، فإن سبب هذا مرده إلى أن القانون الدولي لمكافحة الأمراض المعدية قد فشل في إرساء نظام سيادة القانون بموجب "نظام الدولة الحرة"، ويفتقر إلى قواعد للتنسيق الفعال لتدابير الحجر الصحي في حالات الطوارئ في البلدان المختلفة، وبلورة آلية ملزمة لتسوية المنازعات. ومع ذلك، كما أشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، فإن السبب الأساسي هو أن نموذج التحكم في حالات الطوارئ هذا مناسب فقط ل "عصر الأمراض المستقرة نسبيًا": يحتاج الناس فقط إلى منع بعض "الأمراض المعدية للحجر الصحي" على الحدود كالطاعون، والكوليرا، والحمى الصفراء. لذلك، لم تستجب "اللوائح الصحية الدولية" للإيدز المزمن AIDS (طاعون القرن) لفترة طويلة، كما عجزت عن التصدي لوباء كورونا المستجد COVID-19، بحيث أنه، مثلاً، في عام 2003م، عندما واجهت البلدان حادث السارس SARS المفاجئ، لم يكن لديها قانون دولي يعتمد عليه. ومن الواضح أنه في عصر اليوم من التدهور البيئي، وتحول الفيروس، فمن الصعب التنبؤ بوقت ومكان ظهور المزيد من الجراثيم والفيروسات الشرسة! علاوة على ذلك، ليس للجراثيم حدود، ففي سياق العولمة الاقتصادية يمكن أن تنتشر إلى العالم في غضون ساعات دون أن تعوقها الحدود السياسية أو الجغرافية. وقد أثبتت أزمة الأمراض المعدية المكتشفة والمتكررة حديثاً، مثل السارس والإيدز و"الأنفلونزا" وآخرها الكورونا، مرارًا وتكرارًا، أن النموذج التقليدي لمكافحة الطوارئ على الحدود يصعب عليه مواجهة التحديات المتكررة للأمراض المعدية المختلفة، ولا يمكنه أن يعيق انتشاره العالمي من المصدر؛ فعنصر الصحة العامة العالمية لا يمكن فصله عن الأمن في مفهومه الشامل. ولا يمكن بناء نظام استجابة سريعة، وفي الوقت المناسب لأصل الجراثيم، إلا عن طريق بناء نظام صحي، عام، ومتسق، وشامل، في كل بلد. ورغم ذلك، وكما علّق على ذلك خبراء التخصص، فاللوائح الصحية الدولية تمثل "تطوراً تاريخياً" في القانون الدولي لمكافحة الأمراض المعدية. فلا يقوي نظام سيادة القانون في مجال المراقبة الدولية للأمراض المعدية فحسب، بل ويوضح، بشكل أساسي: نموذج "إدارة المخاطر الاستباقية" الذي تقوده منظمة الصحة العالمية. ويشدد على أنه ينبغي على الدول الكشف والوقوف على مصدر الوباء استباقاً، قبل الانتشار الدولي الواسع له، وليس عبر تدابير لاحقة كإغلاق الحدود؛ وبعبارة أخرى: انتقال تركيز القانون الدولي على مكافحة الأمراض المعدية من تنسيق الحجر الصحي إلى المراقبة العالمية. وتحقيقا لهذه الغاية، لا توسع اللوائح الجديدة نطاق المراقبة ليشمل جميع "مخاطر الصحة العامة" فحسب، بل تحدد أيضا منظمة الصحة العالمية، باعتبارها "حامل لواء" الوقاية من الأمراض المعدية ومكافحتها، وتمكينها من آليات إعمال الشبكة العالمية للاستجابة لحالات الطوارئ (GOARN) لإجراء التفويضات القانونية المنسقة دوليًا، وذلك عن طريق: مراقبة وجمع المعلومات حول مستجدات الصحة العامة، وتقييم احتمالية أن يتسبب الحدث في انتشار المرض دولياً، والتدخل لضبط حركة المرور الدولية؛ إرسال المعلومات العامة عن المخاطر الصحية، ذات الصلة، الواردة "من خلال القنوات الأكثر فعالية في الوقت الحالي؛ رصد والتأكد من تفشي المرض ميدانياً، في مختلف البلدان. وفي الوقت نفسه، يجب على الدول إبلاغ منظمة الصحة العالمية بحالات الطوارئ، وتدابير التجاوب، عبر وسائل الاتصال، والتعاون مع إجراءاتها لأداء الوظائف اليومية في منافذ الدخول. ومن جهة ثانية، ومن أجل تنفيذ إستراتيجية إدارة المخاطر الاستباقية بنجاح، تحدد اللوائح معايير محددة ل"القدرات الأساسية الوطنية"، من خلال الإدارات الصحية في كل بلد والمطارات والموانئ والمعابر البرية المعينة، دون تجاهل التجاوب المجتمعي والشعبي. ويجب، على جميع المستويات، تطوير وتعزيز والحفاظ على قدرات الاكتشاف والتقييم والإخطار والتحقيق والتفتيش، والتحكم في أقرب وقت ممكن. إن توفير "القدرات الأساسية الوطنية" يفضي إلى تعزيز إنشاء نظام قوي للصحة العامة في جميع البلدان، مما يمكّنها من الوقوف على أصل الوباء، وعزله، والإبلاغ عنه، والاستجابة له، وتجنب المزيد من تدويل آثاره. كما تتضمن اللائحة مفهوم مبادئ الوقاية من المخاطر في القانون البيئي الدولي. ويمكن للدول الأطراف أن تتخذ "تدابير صحية إضافية"، وذلك في الحالة التي تكون فيها الأدلة العلمية غير كافية لمعالجة مخاطر صحية عامة ومحددة. ويمكن ملاحظة أنه، بدلاً من إبطال دور مراقبة الطوارئ الحدودية تمامًا، فإن الأمر يتعلق بالمضي قدمًا عن طريق زيادة قدرة الاستجابة، والشفافية، وإدارة المخاطر، عن طريق تحسين التأهب، وتقليل التعرض المستقبلي للأمراض المعدية. فمن تنسيق الحجر الصحي إلى تعزيز المراقبة العالمية للوباء، ومن الطوارئ الحدودية إلى تعزيز بناء القدرات الوطنية للصحة العامة، من كل ذلك يظهر أن القانون الدولي أكثر مشاركة في تنسيق الشؤون الداخلية للدول. إذ من الواضح أن العالم عبارة عن تجمع جرثومي موحد، وينبغي تفسير القانون الدولي والقانون الوطني على أنهما نظامان متكاملان. ويمكن أن يكون القانون الدولي، أحياناً، مصدراً مباشرًا للقانون الداخلي. وفي السنوات الأخيرة، وضعت معظم البلدان نموذجاً تنطبق عليه اللوائح الصحية الدولية بشكل مباشر، وبالتالي عززوا بناء أنظمة الإنذار والمراقبة الخاصة بهم. ثانياً: ترسيخ أولوية "الإنساني" في احترام حقوق الإنسان يستهدف القانون الدولي التقليدي الدول والمنظمات الدولية بالأساس، ويُشرك الأفراد، بشكل غير مباشر، فقط في ظل ظروف الحمايتين الدبلوماسية والدولية. ومن الطبيعي أخذ المصلحة العامة كسبب للسيطرة على الأمراض المعدية التي تحد من حرية الأفراد؛ فعلى سبيل المثال، تشتهر إجراءات الحجر الصحي في الدول الأوروبية الحديثة بسوء معاملتها للسياح الأجانب أو رجال الأعمال. ففي الأزمة العالمية للأمراض المعدية، استأنفت بعض البلدان الانتهاكات التاريخية لحقوق الإنسان. وحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية، تم تشديد تدابير أخرى، على مستوى الفحوصات الطبية الإجبارية، والحجر الصحي، واللقاحات...، على الرغم من أن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية. في سنوات عديدة من ممارسة الصحة العامة، أدرك المجتمع الدولي تدريجياً أن تحديات تعزيز حقوق الإنسان، وحمايتها، وتعزيز وحماية الصحة يصعب فصلها، وأن الصحة العامة وحقوق الفرد متسقة، بل يقوي كل منهما الآخر". ويتغلغل القانون الدولي لحقوق الإنسان، بشكل متزايد، في مجال الصحة العامة. فشكلت، بذلك، حقوق الإنسان استراتيجية أساسية لمكافحة الوباء. وقد أثر ذلك تأثيرا عميقا على المراقبة الدولية للأمراض المعدية. وأبرز مظاهر ذلك هو أن المبدأ الأول، الذي حددته اللوائح الصحية الدولية، هو: "الاحترام الكامل لكرامة، وحقوق الإنسان، وحرياته الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي على فصل خاص ب"أحكام المسافرين"، يؤكد على ضرورة احترام حقوق الإنسان عند اتخاذ التدابير الصحية. ووفقاً للوائح، يجب على البلدان تحديد مخاطر الصحة العامة لتبرير التدابير الصحية المفروضة على الأفراد، وتطبيق إجراء صحي مناسب لمعالجة هذه المخاطر، والتي يجب ألا يتم تنفيذها بأكثر من طريقة معقولة، لتحقيق المستوى المطلوب من الحماية الصحية، دون التدابير التي تتعارض وحقوق الأفراد أو تنتهكها. ويجب تطبيق جميع التدابير بطريقة شفافة وغير تمييزية. كما يجب على الدول أن تعامل المسافرين وفق أساليب تحترم كرامتهم، وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بما في ذلك مراعاة الاعتبارات الجنسية، والاجتماعية، والثقافية، والعرقية، والدينية...، مع تجنب كل ما من شأنه أن يخلق انزعاجاً أو معاناة، والحرص على توفير الغذاء الكافي، والماء، والسكن، وحماية الأمتعة، والعلاج الطبي، والحجر الصحي، وتأمين الاتصالات من داخل الحجر الصحي للمسافر". من المسلم به أن الأحكام المتعلقة بالاستخدام الصحيح للسلطات القسرية لا تزال واسعة للغاية، ولا تنضبط للمعايير القانونية، والإجراءات المحايدة اللازمة للحجر الصحي، وغيرها من التدابير القسرية. لذلك، لا يمكن وصف أحكام حقوق الإنسان في اللوائح الجديدة إلا على أنها إعلان بسيط، إلى حد ما، عن حقوق الإنسان والأخلاق. ومع ذلك، فإن إدراج مبادئ حقوق الإنسان، بعد كل شيء، يعد خطوة كبيرة إلى الأمام. وهذا يعني أن تفسير وتنفيذ قانون حقوق الإنسان الدولي تم الأخذ به في تلك اللوائح. *دكتور في الحقوق-باحث في القانون الدولي العام والعلاقات الدولية