منذ أن ظهرت آثار "فيروس كرونا" بمدينة "ووهان" الصينية وأهل الاختصاص يبحثون عن لقاح فعال ضد الفيروس الخطير، ولقد أبرمت لهذا الغرض عقود واتفاقيات بين كبرى المختبرات العلمية. لكننا إلى حدود كتابة هذا المقال لم نسمع بخبر يقيني يبشر بالوصول إلى النتيجة المبتغاة، وهذا ما يؤكد أنه مهما ما بلغه الإنسان من تطور على مستوى التقنيات والتكنولوجيا والاكتشافات الطبية يبقى ضعيفا وعاجزا إذا لم تتداركه رحمة الله تعالى القائل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (سورة الإسراء: 85). ومهما يكن الحال، فالمطلوب من المسلم أن يبقى دائما معللا نفسه بالأمل، فإن تحقق له مبتغاه فعليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، ويشكر كل من كان سببا في تحقيقه، وإن لم يظفر بما يرجوه، أو تأخر عنه فإنه سيعيش في مرحلة الانتظار على الأمل الذي يحقق له السعادة والراحة النفسية. ولله در الشاعر الطغرائي (ت514 ه) القائل في قصيدته " لامية العجم": أعلل النفس بالآمال أرقبها ** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل إنني لم ولن أفاضل أبدا بين الأساليب (اللقاحات) الروحية التي أوصى بها الشرع لدفع الضر، وبين تلك الأساليب المادية التي يسعى العلماء والخبراء المختصون لاكتشافها كلما نزلت نازلة وبائية بالبشرية؛ لأن المفاضلة في هذا المقام لا تصح أبدا، علما أن في كل خير، أقصد الجمع بين الأساليب الروحية (المعنوية) والأساليب المادية (الملموسة) بعيدا عن التصنيفات الضيقة: إديولوجية كانت، أو سياسية، أو إثنية... عملا بالوصية "خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت". وكم نحن في هذه الأيام التي يعيش فيها الإنسان عبر أرجاء العالم "جائحة كورونا" إلى تجاوز المواقف المسبقة، وتضافر جهود الجميع للبحث عن كل ما يسهم في رفع البلاء ودفع الوباء، كل واحد من موقعه وتخصصه، وكيفما كانت ديانته، أو مذهبه، أو فكره... إن واجب الوقت في "زمن كورونا" يقتضي من الجميع المنافسة في البحث عن "اللقاحات" الممكنة لرفع الوباء عن الناس، ولو في الحدود الدنيا، حتى يأتي الله بالفرج التام. واستحضارا لهذا القصد رغبت في الاسهام من موقعي، وانطلاقا من تخصصي، بالتذكير بما أومن به حتى يعم نفعه، ويجد من يضيف إليه من منطلق التكامل بين سبل الخير "لأن الأضواء لا تتزاحم". وتبعا لذلك، فمن أهم اللقاحات الروحية التي يمكن الاعتماد عليها في هذه الظرفية الاستثنائية، ما يلي: الدعاء بتضرع واستكانة وخضوع لله تعالى: لاشك أن الإنسان وهو يعيش الحجر الصحي يكون في خلوة مع نفسه بعيدا عن كل مشوشات الحياة التي تصرفه عن التأمل والنظر باعتبار فيما حل فجأة بالناس ، وقد يفضي به التفكير العميق إلى أن انفراج الأزمة النفسية التي يعيشها عموم الناس من جراء تداعيات فيروس كورونا هو الرجوع إلى الله تعالى، ما دام الجميع في حالة اضطرار، لأنه "لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه"، قال سبحانه: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون" (سورة النمل: 62)، وقال أيضا: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" (سورة النحل: 53 ). إن الغمة التي نحن فيها لن تنجلي إلا بالإكثار من الدعاء والتبتل إلى الله تعالى في الأسحار ودبر كل صلاة، شريطة أن يتم ذلك بإخلاص وتضرع واستكانة وخضوع وتذلل لله عز وجل. ولنعلم أننا بقدر ما نعبد الله تعالى بالتضرع إليه في أيام العافية والسراء، فإننا نكون أشد حاجة إلى هذه العبادة أثناء نزول المكاره والأوبئة والمضار. يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "فإن الله سبحانه لم يبتله (أي الإنسان) ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن الله تعالى على العبد عبودية الضراء، وله عبودية فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن إعطاء العبودية في المكاره،...فمن عبد الله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: "أليس الله بكاف عبده" (سورة الزمر: 36 )" (الوابل الصيب من الكلم الطيب: 11 12 ). إننا عندما نؤكد على التوجه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع إليه، فإننا لا ندعو إلى عدم الأخذ بالأسباب المادية المشروعة...وإنما القصد هو الإلحاح في السؤال واستصحابه في كل وقت وحين تذللا وخضوعا لذي الجلال الذي بإذنه تنفرج الكروب. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله:" واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار" (جامع العلوم والحكم: 181 ). علما أن الله تعالى هو المؤثر الحقيقي، وكل ما يتوصل إليه المختصون من وسائل مادية ما هي إلا أسباب وجب الأخذ بها مع الاعتقاد الجازم أنها غير مؤثرة بذاتها. وقريب من هذا أشار إليه الإمام ابن حجر العسقلاني قائلا: "علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية..." (فتح الباري: 10 /115). التحلي بالصبر الجميل، والرضا بقضاء الله وقدره: إن الإنسان وهو في الحجر الصحي الذي فرض عليه بسبب هذا الوباء، عليه أن يتقبل كل ذلك بطواعية واختيار، وأن يتعامل مع هذا الوباء دون تسخط أو جزع، وعليه أن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يتوجه إليه تعالى بكثرة الطاعات من حفاظ على الصلوات المفروضة في جماعة مع أفراد أسرته، ومن تلاوة للقرآن الكريم، والحفاظ على الأذكار والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الأوبئة، فضلا عن فعل الخيرات من إطعام الفقراء والمساكين وكل من تقطعت بهم سبل الرزق، والجود بالمال بحسب القدرة والاستطاعة في كل ما يعين على التخفيف من آثار هذا الوباء... وكل ذلك من مظاهر الصبر الجميل الذي أوصى به الله تعالى بقوله: "فاصبر صبرا جميلا"(سورة المعرج: 5)، وبقوله عز وجل:" فصبر جميل"(سورة يوسف: 18). التفاؤل بزوال الوباء، وعدم فقدان الأمل: إن إيمان الإنسان المسلم ويقينه في الله تعالى بأن كل شيء خلقه بقدر يجعله يتفاءل بزوال هذا الوباء، مما يبعث في نفسه الطمأنينة والسكينة، ويجعله ثابتا لا تحركه الأخبار المتداولة من كون الداء في انتشار متزايد، ولا يضطرب أيضا من شدة وقع ما يسمعه من أنباء تخص كثرة عدد الوفيات في بلدان أخرى. إنه يؤمن بأن " لكل أجل كتاب"، وإذا جاء أجل زوال "فيروس كورونا" بأي سبب من الأسباب فلا يتأخر ساعة ولا يستقدم، مادام هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى. ومن هنا لا بد من التذكير بأمر أساس، وهو ضرورة إشاعة ثقافة الأمل في النفوس، بعيدا عن تهوين الوباء أو تهويله حتى لا يسقط الإنسان في إحدى الآفتين: إما آفة عدم الانضباط لكل التوجيهات الصادرة عن الجهات الرسمية وأهل الاختصاص، فتجد من يهون من خطورة المرض لا يحتاط لنفسه؛ فيخرج من بيته من غير سبب ضروري، أو لا يأخذ بتلك الاحترازات الوقائية المتعلقة بالنظافة وغيرها ... أو السقوط في آفة التهويل التي تزكيها الأخبار الزائفة والمتداولة من طرف منعدمي الضمير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتجد المبتلى بهذه الآفة خائفا مضطربا، يظن أن الموت قريب منه... وبهذا يدمر نفسيا كل من حوله بنشر الرعب الشديد وتعكير صفو الحياة الاجتماعية. وبناء عليه، لا بد لا بد من فسح المجال لكل معاني الجمال من حب وابتسامة وكلام طيب، ولكل ما يدخل السرور والحبور على قلوب الناس خصوصا في زمن البلاء والوباء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة" (رواه البخاري). فاللهم يا منزل الشفاء نجنا من عضال الداء، واحفظ يا ربنا بلادنا وبلاد المسلمين من هذا الوباء، والطف بنا يا كريم إنك على كل شيء قدير... *أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس