(الجزء 2) في المقال السابق بينت أن خصوم الأمازيغية (السياسيون)، الذين يريدون فرض الحرف العربي عليها كحرف رسمي، إنما تحركهم دوافع أيديولوجية صرفة، لأنهم يخافون من الإنطلاقة السريعة للأمازيغية وخروجها من حالة الضعف والسكون فيريدون حرمانها من "الوقود الممتاز" الذي يمثله الحرف اللاتيني. وبينت أن معظم المتخصصين اللسانيين والمؤلفين يرون أن الحرف اللاتيني هو الأنفع للأمازيغية حيث ما زالوا يستخدمونه لحد الآن، أحيانا بجانب تيفيناغ. كما استعرضت عددا من اللغات (الإندونيسية والتركية والماليزية والأوزبكية...) التي تستخدم الحرف اللاتيني. وبينت أن حرف تيفيناغ له قيمة بصرية ورمزية وعاطفية وتراثية لكنه لن ينفع الأمازيغية كثيرا من الناحية العملية، وأنه يتسبب في إبطاء تطورها ويؤدي إلى تكريس احتكار الفرنسية للحرف اللاتيني بالمغرب مما يضع الأمازيغية على الهامش ويحفظ للفرنسية هيمنتها. على هامش استطلاع هسبريس حول الحرف الأصلح للأمازيغية: يجب أن نفهم أنه ليس كل من يساند جعل الحرف العربي حرفا رسميا للأمازيغية هو خصم أو عدو كاره للأمازيغية، بل إن الكثيرين يساندون الحرف العربي بحسن نية. وإنما المقصود بخصوم أو أعداء الأمازيغية هي تلك الشريحة الضئيلة المتكونة من السياسيين أو الكتاب أصحاب الرأي الذين عارضوا صراحة ترسيم الأمازيغية أو أنكروا كونها لغة في حد ذاتها. وبالتالي فنسبة ال48% التي صوتت لصالح الحرف العربي في استطلاع هسبريس هم أشخاص عاديون تعودوا على الحرف العربي في حياتهم اليومية والدراسية وعبر الإعلام المغربي والعربي الشرق أوسطي. فالناس غالبا ما ينحازون إلى ما تعودوا عليه. ويمكن إضافة عوامل الثقافة العربية والإسلامية وميل سكان المدن إلى خطاب الإسلام السياسي وتأثير خطاب القومية العربية الوافد من الشرق وأفكار "التنصير والمؤامرة الفرنكوفونية" كعوامل إضافية تدفع بعض الناس (سواء كانوا ناطقين بالأمازيغية أو بالدارجة) إلى رفض الحرف اللاتيني وتيفيناغ وتفضيل الحرف العربي، دون أن تكون لديهم أية معرفة بسيطة بكتابة الأمازيغية وقواعدها. ولابد أن الجميع يعلم أن كثيرا من خصوم الأمازيغية والمستخفين بها والمعارضين لترسيمها هم ناطقون بها، وفي نفس الوقت هم مؤدلجون عروبيا أو إسلاميا. وبالتالي فالعامل الحاسم هنا هو "الميل الثقافي" أو "الميل الأيديولوجي" وليس الإتقان الشفوي للغة. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة ال48% منخفضة جدا بشكل لافت بالنظر إلى أن 100% من المغاربة درسوا بالحرف العربي ويستهلكون مواد الإعلام العربي يوميا 24/24 ساعة. وبالمقابل فإن نسبة المغاربة الذين تعلموا حرف تيفيناغ في حياتهم الدراسية هي 0% (باستثناء بضعة آلاف من أطفال بعض مدارس الإبتدائي منذ 2003)، ورغم ذلك صوت 41% لصالح حرف تيفيناغ. والأرجح هو أن معظم المصوتين لتيفيناغ فعلوا ذلك لكونهم ناطقين بالأمازيغية وواعين بالهوية الأمازيغية ورافضين لأيديولوجيا القومية العربية، ولأنهم يعتبرون أن الأمازيغية "تستحق حرفا خاصا بها". وتبقى نسبة الناشطين والمهتمين الذين يتقنون فعلا الكتابة بحرف تيفيناغ (رغم سهولته الجمة) جد ضئيلة. أما المصوتون للحرف اللاتيني (5%) فصوتهم مسموع نسبيا رغم قلة توفر المطبوعات والدراسات الأمازيغية المكتوبة بالحرف اللاتيني في المكتبات وانعدام الوعي الشعبي بالمنجزات الهائلة للغويين في ميدان الأمازيغية على مدى القرن الماضي. ثم إن هناك سببا إضافيا يتمثل في عدم وجود "تصور شعبي" شائع لفكرة كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني. فالناس يتخيلون أن الحروف اللاتينية خلقت فقط للغات "الأعجمية". ويتخيلون أن الأصوات "اللاأوروبية" كالقاف والحاء والعين لا يمكن كتابتها إلا بالحرف العربي. ويتخيلون أن كل ما يكتب بالحرف اللاتيني يجب أن يخضع لحساسيات اللغة الفرنسية. لهذه الأسباب لا يستطيع عامة الناس تصور كتابة كلمة "عبد القادر" مثلا إلا هكذا: Abdelkader. ويتخيلون أنه لا يمكن كتابة أسماء المدن ك"القنيطرة" و"الرباط" و"مكناس" و"فاس" و"تاوريرت" و"بني ملال" و"وجدة" و"طنجة" إلا على "الطريقة الفرنسية" هكذا: Kénitra وRabat وMeknès وFès وBéni Mellal وTaourirt وOujda وTanger. أما طريقة الكتابة الأمازيغية: Ɛebdelqader وQniṭra وErrbaṭ وMeknas وFas وBni Mellal وTawrirt وWejda وTanja (حسب النطق الواقعي الأمازيغي والدارج) فهي أنماط تنتمي إلى مجال اللامفكر فيه. هذه الصورة الذهنية النمطية حول الحرف اللاتيني وأنه "لا يصلح إلا للفرنسية" وأنه لا يمكن استخدام الحرف اللاتيني إلا على مقاس الفرنسية، هي ما يَحُول دون تقبل فكرة كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني لدى الكثيرين. إذن فمربط الفرس يكمن في ضرورة الفصل بين الحرف اللاتيني واللغة الفرنسية لأنهما شيئان مختلفان. "الأمن الحرفي" على وزن "الأمن الروحي"! إن ظروف اختيار المعهد لحرف تيفيناغ عام 2003 طبعها التدخل غير المشروع للسلطة والأحزاب في المسألة. إن بصمات الضغوطات السياسية والأيديولوجية واضحة جدا. حيث إن كثيرين من أعضاء المعهد الملكي اضطروا لتغيير قناعاتهم "الحرفية" الرسمية (من اللاتيني إلى تيفيناغ) استجابة للضغوطات والتهديدات والحملات الإعلامية الهوجاء التي شنها الإسلاميون والعروبيون. إن تدخل السلطة والسياسيين في اختيار الحرف أو "المصادقة" عليه يبرز بوضوح "المقاربة الأمنية" التي تتعامل بها السلطة والأحزاب مع الأمازيغية. حيث أصبحت حروف اللغة موضوعا للمساومات السياسية والقرارات الرسمية ومدعاة للإستنفار الأيديولوجي المتمثل في حملات الإبتزاز والقذف والتخوين والإرهاب الفكري زيادة على المضايقات المخزنية المعهودة. والسلطة ومعها الأحزاب كانت ومازالت حريصة على أن لا "تشوش" الأمازيغية على التوازن اللغوي (ومن ورائه: السياسي) القائم. إذن فالأمر يتعلق ب"الأمن الحرفي" على وزن "الأمن الروحي" و"الأمن الغذائي" و"الأمن الوطني". الحرف اللاتيني (حينما يستخدم في كتابة الأمازيغية) يخيف حراس الوضع القائم لأنه يحرر الأمازيغية من وصايتهم وسيطرتهم، ويحرر من خلالها الشعب من وصايتهم. السياسيون والزعماء الأيديولوجيون لا يحق لهم التدخل في جزئيات اللغة الأمازيغية في كل الأحوال، بسبب تضارب المصالح Conflict of interest، زيادة على كونهم جاهلين جهلا مطبقا باللغة الأمازيغية! ما معنى أن يدلي زعيم سياسي لا يفقه "حتى زفتة" في اللغة الأمازيغية برأيه في حرف كتابة الأمازيغية أمام الحكومة أو أمام الرأي العام؟ ما القيمة المعرفية لذلك الرأي السياسي الخالي من أي محتوى علمي أكاديمي؟ ما المنفعة التي سيأتي بها ذلك الرأي إلى الشعب أو إلى الأطفال في قاعة الدرس؟ ليس سرا أن كل العاملين والباحثين في ميدان الأمازيغية، بمن فيهم المشتغلون في المعهد الملكي الآن، كانوا ومازالوا يفضلون الحرف اللاتيني والدليل على ذلك هو أنهم اشتغلوا بالحرف اللاتيني طيلة حياتهم الأكاديمية والمهنية في ميدان كتابة الأمازيغية بالذات. فكيف يتخلى "مول الحرفة" عن أدواته بين ليلة وضحاها؟! لابد أن يكون هناك سبب ضاغط قاهر. إن اختيار المعهد لحرف تيفيناغ عام 2003 (بالتصويت المتسرع المعلوم) جاء ك"حل وسط" اضطراري ومتعجل خوفا من خروج المسألة عن السيطرة وخوفا من الإنزلاقات السياسية التي كان يهدد بها السياسيون المروجون للحرف العربي الرافضون للحرف اللاتيني (فقط حينما تكتب الأمازيغية به). الفرنسية هي المستفيد الأول من منع الحرف اللاتيني عن الأمازيغية؟ يغفل الكثيرون عن أن الفرنسية (في المغرب) هي المستفيد رقم 1 من عدم كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني، لأنها (أي الفرنسية) ستبقى بذلك محتكرة للحرف اللاتيني في المغرب ومسيطرة على مجالات الحياة الإقتصادية والأكاديمية وميدان تكنولوجيا المعلومات وبقية مجالات الحرف اللاتيني. أما تخيلات أصحاب الأيديولوجيات العروبية والإسلامية حول تقوية العربية وحمايتها عبر كتابة الأمازيغية رسميا بالحرف العربي فهي هواجس لا يدعمها دليل منطقي. فالعربية لديها مجالها الديني والثقافي والأدبي المنفصل عن الأمازيغية. ولا يمكن للعربية أن تتطور وتزدهر إلا بقدراتها الذاتية وليس بمنع اللغات الأخرى من التطور! أما المبرر المعلن من طرف خصوم الأمازيغية الراغبين في فرض الحرف العربي عليها (أي: "حماية الوحدة الوطنية") فهو كلام للإستهلاك الشعبي والإعلامي ولا علاقة له بحقيقة نواياهم، والدليل على ذلك هو أنهم جاهدوا بشراسة ضد ترسيم الأمازيغية في الدستور باستخدام نفس المبرر بالضبط ألا وهو: حماية الوحدة الوطنية! لن تستفيد العربية على الإطلاق من فرض الحرف العربي أو تيفيناغ على الأمازيغية. بل إن الأمازيغية ستخسر وحدها. كما أن العربية لن تخسر شيئا إذا كتبت الأمازيغية رسميا باللاتيني، وإنما الخاسر الوحيد في هذه الحالة هي اللغة الفرنسية (بالمغرب) التي ستزاحمها وتنافسها الأمازيغية بالحرف اللاتيني داخل المؤسسات والمدارس ووسائل الإعلام وقد تطردها من المغرب نهائيا، بمجرد أن تتمكن الأمازيغية من اقتحام مجالات التكنولوجيا والتعليم العالي والإقتصاد التي يسيطر عليها الحرف اللاتيني. ما علاقة الفرنسية بالحرف اللاتيني الأمازيغي؟ يخيل للبعض أن استخدام الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية "سيفرنس" الأمازيغية أو سيفرنس المغرب ككل، بينما المغرب مفرنس أصلا بسبب سياسة الدولة الحريصة على نشر الفرنسية والعناية بها عناية فائقة. مسألة تفضيل الأكاديميين المتخصصين في الأمازيغية لكتابتها للحرف اللاتيني ليست جديدة، وهي معروفة للمتتبعين. ولكن الأفكار المغلوطة التي تربط قضية كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني مع قضية اللغة الفرنسية والفرنكوفونية، هي التي تزرع في عقول الناس هواجس "التبعية للفرنكوفونية" و"المؤامرة الفرنسية" حينما يتعلق الأمر بالأمازيغية. بينما أن كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني هو شأن أمازيغي صرف لا علاقة له بالفرنسية ولا بغيرها. أما السيطرة الفرنكوفونية على المغرب فهي موجودة برضى الدولة المغربية وكل الأحزاب والنخب السياسية والإقتصادية والعائلات الإقطاعية. إن من يقول بأن استخدام الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية سيخلق تبعية للغة الفرنسية لا يملك رؤية واضحة عن اللغة الأمازيغية وعن نحوها ونطقها وإنتاجاتها الأكاديمية، ولم يقرأ يوما كتابا أمازيغي اللغة مكتوبا بالحرف اللاتيني. ولا يمكن لأحد أن يزعم بأن اللغات التركية والإندونيسية والماليزية (التي تستخدم الأبجدية اللاتينية) هي تابعة للإنجليزية أو الإيطالية أو الألمانية فقط لأنها اختارت الحرف اللاتيني! إن عدد الحروف اللاتينية الفرنسية أو الإنجليزية هو 26 حرفا لاتينيا. أما عدد الحروف اللاتينية الأمازيغية فهو 33 حرفا لاتينيا. فمثلا حرف C في الكتابة الأمازيغية ننطقه (ش)، وحرف X في الأمازيغية هو (خ)، وحرف G في الأمازيغية ننطقه دائما (گ). زيادة على ذلك فإن الأمازيغية تستخدم 10 حروف لاتينية إضافية لا توجد في الفرنسية ولا في الإنجليزية ولا في الإيطالية وهي: Č Ḍ Ɛ Ǧ Ɣ Ḥ Ṛ Ṣ Ṭ Ẓ. ماذا عن منجزات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؟ قد يتصور البعض أن الدعوة لكتابة الأمازيغية رسميا بالحرف اللاتيني (أو حتى بجانب حرف تيفيناغ) في المدارس ومؤسسات الدولة هي تبخيس وتسخيف لمنجزات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ 2002، خصوصا فيما يتعلق بالكتب المدرسية المطبوعة بتيفيناغ. وهذا غير صحيح. فمنشورات المعهد الملكي ودراساته اللغوية وقواميسه ستحتفظ بقيمتها العلمية والبيداغوجية مهما كان الحرف التي كتبت به، وحتى لو تغير الحرف الرسمي في وقت لاحق. فالمعجم العربي الأمازيغي مثلا، والذي ألفه محمد شفيق بالحرف العربي تماشيا مع ضغوط المرحلة السابقة لتأسيس المعهد، لم يفقد أبدا مرجعيته وقيمته العلمية. ويمكن أن نقول نفس الشيء عن مرجعية وقيمة المخطوطات الأمازيغية القديمة المكتوبة بالحرف العربي، فضلا عن الدراسات الأمازيغية الحديثة المكتوبة بالحرف اللاتيني الأمازيغي وهي الأضخم عدديا والأفضل علميا. إن منجزات المعهد الملكي منذ 2002 لا يمكن أن تذهب هباءا منثورا في حالة انتقاله رسميا إلى الحرف اللاتيني. فنحن نعلم أن كل الكتب الصادرة عن المعهد مخزونة إلكترونيا في كومبيوتراته وقواعد بياناته. وإذا ما قرر المعهد يوما ما التحول من تيفيناغ إلى الحرف اللاتيني فإنه يمكن تحويل كل الكتب المدرسية والقواميس المكتوبة بحرف تيفيناغ إلى الحرف اللاتيني أتوماتيكيا باستعمال برمجيات الكومبيوتر وفي وقت قصير جدا، مع طباعتها حسب الحاجة أو نشرها عبر الإنترنت بتكلفة زهيدة. وبالتالي فعملية التحول من تيفيناغ إلى الحرف اللاتيني أو العكس ليست مشكلة تقنية ولا حتى مالية. المعهد الملكي: تيفيناغ للأطفال وعموم الشعب، واللاتيني للأكاديميين! مفارقة عجيبة تلك التي يعيش فيها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. فهو يصدر الكتب المدرسية بحرف تيفيناغ للأطفال وفي نفس الوقت ينشر دراسات لغوية رفيعة المستوى يستخدم فيها الحرف اللاتيني في كتابة الكلمات الأمازيغية، حسب ما هو متعارف عليه في أوساط اللسانيين المستمزغين في المغرب والجزائر وأوروبا. ومثال واحد بسيط من بين عدة هو الكتاب Quelques aspects d'un parler amazighe de Figuig وهو منشور عام 2010 من طرف المعهد الملكي. وبعض تلك الدراسات التي يستخدم فيها الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية ينجزها المعهد الملكي بشراكة مع باحثين جزائريين ومغاربة يشتغلون في القسم الأمازيغي بمعهد اللغات الفرنسي INALCO في باريس، ذي الثقل الكبير في مجال الدراسات الأمازيغية. وكمثال بسيط على ذلك لدينا الكتاب Néologie et terminologie grammaticale amazighe المنشور عام 2009 من طرف المعهد الملكي. ثم هناك القاموس الأمازيغي العربي الإنجليزي الفرنسي لمصطلحات النحو: Amawal n Tjerrumt (بالفرنسية: Vocabulaire grammatical) الذي يستخدم كلا الحرفين اللاتيني والتيفيناغي في كتابة الكلمات الأمازيغية. وهذا الكتاب صدر عن المعهد الملكي بتعاون مع INALCO عام 2009 أيضا. ثم هناك القاموس الجيولوجي الأمازيغي الفرنسي Lexique amazighe de géologie الصادر عن المعهد عام 2006 والذي يستخدم أيضا الحرفين اللاتيني والتيفيناغي في كتابة الكلمات الأمازيغية. فلماذا يتم منع الأطفال في قاعات الدرس المغربية من تعلم كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني بينما يتم نحت اللغة الفرنسية وإملائيتها وحروفها اللاتينية في أذهانهم منذ نعومة أظفارهم؟ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يعيش إذن حياة مزدوجة. فهو يعترف بأهمية الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية وبحتمية استخدامه للتواصل مع المحيط الأكاديمي الأمازيغي داخل وخارج المغرب، ويستعمل التسهيلات الرحبة التي يوفرها الحرف اللاتيني للأمازيغية. ولكن حينما يتعلق الأمر بالتعليم العمومي فإن "شفرة تيفيناغ" هي أحسن وسيلة لإشاعة الأمازيغية وتدريسها لأبناء الشعب المغربي! الحرف اللاتيني يصلح لتداول الأمازيغية في الأوساط الأكاديمية المغلقة، أما "شفرة تيفيناغ" فهي الطريقة الأكثر فعالية لنشر الأمازيغية في المدرسة والإدارة العمومية والإعلام التلفزي!! سرعة السلحفاة، أم سرعة الحمار، أم سرعة القطار؟ إن كتابة الأمازيغية بأي حرف ستساهم دائما بشكل أو بآخر في تطورها. وجميع الحروف هي في النهاية اختراعات إنسانية. ولكن ما هي السرعة التي نريد للأمازيغية أن تتطور وتتقدم وتنتشر بها؟ هل هي سرعة السلحفاة التي يوفرها تيفيناغ؟ أم سرعة الحمار التي يعد بها الحرف العربي؟ أم سرعة القطار التي يمنحها الحرف اللاتيني؟ وباستعمال المقارنة التشبيهية بالوقود، فتيفيناغ يمثل المازوت، والحرف العربي هو الإيسانس، والحرف اللاتيني هو الوقود الممتاز! "الإجماع الوطني" بعد نصف قرن من "تهراس" الأمازيغية: لا يفهم مستخدمو مصطلح "الإجماع الوطني" مضامينه وتوابعه الحقيقية، سواء كانوا من مساندي الأمازيغية أو من خصومها. وهذا المصطلح يدل عادة على استفتاء رأي الشعب في مسألة ما تحت ظروف معقولة وشروط عادلة، أي أن يكون الشعب على بينة من المسألة المطروحة. وفي المسائل التقنية الدقيقة (كالحرف والتدريس) فالمتخصصون هم الأجدر بإبداء الرأي. ونحن نعلم أن المتخصصين في الأمازيغية (بما فيهم د. أحمد بوكوس، عميد المعهد الآن) عبروا بالإجماع لوزارة التربية الوطنية في إطار اللجنة التقنية الوزارية عام 2002 عن رأيهم الأكاديمي بضرورة تبني الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية. ووافقت اللجنة الوزارية على ذلك بالفعل. ولم يتراجعوا عنه إلا تحت الضغط والإبتزاز والحملات الإعلامية فيما بعد. أمّا أن تنفق الدولة المغربية 50 عاما في "تهراس" الأمازيغية ومحاصرتها وفي تعريب الشعب وتجهيله وغسل أدمغته ثم تأتي الدولة بعد ردح من الزمن تكون الأمازيغية فيه "مهرسة" و"مهلوكة" لتتحدث عن "الإجماع الوطني" فذلك عبث شيطاني شرير. فلا أتذكر أنه كان هناك يوما ما "إجماع وطني" أو استفتاء شعبي حول جعل العربية لغة رسمية للمغرب، أو حول جعل الفرنسية لغة رسمية غير معلنة. ولا أعتقد أنه كان هناك إجماع وطني شعبي حول "تهراس الأمازيغية" ومنعها من الترسيم والتدريس والتنمية في الفترة ما بين 1956 و2001. وبما أن الدولة المغربية الحديثة ألحقت كل هذا الضرر الجسيم بالأمازيغية بشكل متعمد وممنهج (في نفس الوقت الذي منحت فيه للعربية والفرنسية كل العناية والرعاية) فهي ملزمة بتدارك هذا الجرم الفادح، الذي اقترفته في حق الأمازيغية، بتنفيذ إجراءات الترسيم الفوري الكامل والتدريس الشامل والتنمية الثقافية والإعلامية، وإعطائها نسبة 50% من البث التلفزي كميا ونوعيا، وتعميم الأمازيغية داخل كل المؤسسات بالمغرب والتعريف بها في الخارج، مثلما تفعله مع لغتيها الرسميتين: العربية والفرنسية، داخل وخارج المغرب منذ 1956 وإلى حد الآن. الإجماع حول الحرف يكون بين المتخصصين ثم الكتّاب والمدونين: لا يحق إلا للمتخصصين اللغوين في الأمازيغية والكتّاب والمبدعين بها البت في اختيار الحرف الرسمي الأساسي وبحرية كاملة وبدون ابتزاز ولا تهديد ولا ضغوط. في مجالات العلم (الفيزياء، البيولوجيا، اللغويات...) لا تبنى الحقائق العلمية على "إجماع وطني" أو "شرعية شعبية"، وإنما تبنى على إجماع المجتمع العلمي Scientific community المتكون من العلماء والمتخصصين الذين يشتغلون وفق المنهج العلمي Scientific method. وقياسا على ذلك، فلماذا تصبح آراء الجاهلين بالأمازيغية مشروعة وملزمة وجزءا من "الإجماع الوطني حول الأمازيغية"؟! فهؤلاء الذين لا يتكلمونها ولا يقرأونها ولا يكتبونها بأي حرف كان غير مؤهلين لمناقشة أمورها اللسانية والتقنية الدقيقة أو الإفتاء في حرف كتابتها وفي مصيرها. ثم كيف يعقل أن نستفتي من عارض ترسيم الأمازيغية وتدريسها وأنكر وجودها كلغة، حول الحرف الأنسب لها؟! فخصوم الأمازيغية (السياسيون) لا نتوقع منهم أن يختاروا ما يصلح لها، بل سيختارون ما يعيقها ويضعفها. وهم لا يريدون لها أن تكون لغة رسمية على أرض الواقع أو أن تصبح لغة عالمية متألقة، وإنما يريدون لها أن تنقرض في أقرب الآجال. إن فاقد الأمازيغية لا يعطيها، وعدوها لا يحميها. الحرف العربي كوسيلة بيداغوجية انتقالية للإستئناس بالنطق الأمازيغي: إن تبني الخيار المنطقي بإقرار الحرف اللاتيني حرفا رسميا للأمازيغية في المدرسة والإعلام والإدارة المغربية، أو حتى إقراره بجانب حرف تيفيناغ، لا يعني إلغاء حرية الإبداع الأدبي والإعلامي الأمازيغي بالحرف العربي. لا أحد يمنع المغاربة من نشر الكتب الأمازيغية بالحرف العربي. بل إنه من العملي استخدام الحرف العربي كوسيلة بيداغوجية انتقالية ومؤقتة للإستئناس بالنطق الأمازيغي في الدروس الموجهة للكبار الذين يصعب عليهم التكيف مع حرف لم يألفوه. أما تدريس الأمازيغية بالحرف اللاتيني بشكل نظامي فهو أنسب للأطفال والشباب. ثم إن الإزدواجية الأمازيغية تيفيناغ - لاتيني نلاحظها بوضوح في مجال النشر الأمازيغي في المغرب والجزائر وأوروبا (دراسات لسانية، روايات، شعر، قواميس، مواقع الإنترنت...)، وبالتالي فلا فائدة من إنكار أهمية الحرف اللاتيني للأمازيغية. أما من يدعو لكتابة الأمازيغية بالحرف العربي بشكل رسمي فيجب عليه أن يتعلم الأمازيغية ويكتبها ويبدع بها بحرفه المفضل، أي أن يطبق مبادئه وقناعاته مع نفسه أولا، قبل أن يطلب من الآخرين اتباعها. ثم إنه لا يوجد أحد يمنع المغاربة من كتابة العربية نفسها بالحرف اللاتيني أو بحرف تيفيناغ. ولكن بما أن المتخصصين في العربية وكتابها وفقهاءها قد ارتضوا الحرف العربي حرفا رسميا أساسيا لها فالمسألة محلولة تلقائيا من دون "إجماع وطني" ولا تدخلات سياسية. ولكن كيف سيشعر محبو العربية والناطقون بها إذا جاءهم أحد يأمرهم بكتابة العربية بحرف تيفيناغ أو بالحرف اللاتيني أو بالحرف العبري والتخلي عن الحرف العربي؟ ماذا تراهم فاعلون؟! للحديث بقية...