دخل المعلم كورونا الجديد كوكب الأرض، فوجدها تعج بالعبث والفوضى، لم يكترث لدخوله أحد، نقر بعصاه على سبورة الأبدان، فانتبه الجميع، ثم قال : إليكم الدرس الأول : "كن نظيفا، وليسعك بيتك، تكن بخير". النظافة سنة كونية، من شادها أو شذ عنها غلبته، فالطبيعة جبلت على تنظيف ذاتها بذاتها، وفقا لقوانين ثابتة، محكمة ومتوازنة، وأي إخلال بهذه القوانين وهذا التوازن يستنفر عناصر الكون كافة "احتجاجا " على هذا الإخلال، فيأتي التقويم والتصحيح حتما، وإن كلف ذلك ثمنا غاليا. مصائب قوم عند قوم فوائد .. هكذا ضربت جائحة (كوفيد - 19 ) البشرية جمعاء، فأوقفت حركتها البرية والجوية وجمدت قطاعات ومرافق حيوية، وتضرر الاقتصاد العالمي، وانهارت البورصات وأغلقت المدارس والمساجد والمعابد وأصيب الناس بالذعر والهلع، وهرعوا إلى قبور دنياهم، لكنها في المقابل نزلت بردا وسلاما على المناخ والبيئة فقد خفض فيروس كورونا نسبة التلوث وتراجعت نسبة الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، ونجح المعلم (كوفيد-19) بسلطته الخاصة فيما أخفق فيه قادة العالم، هكذا حق للطبيعة اليوم أن تنشد شطرا من قصيدة الشاعر أحمد شوقي : قم للمعلم وفه التبجيلا... منظمة الصحة العالمية وعلماء الطب والصحة في العالم ما فتئوا يؤكدون أهمية النظافة وضرورتها في الحفاظ على صحة الإنسان بل على وجوده، وأطلقت شعارات من قبيل "أنقذوا الأرواح نظفوا الأيدي"، كما وضعت إرشادات ورسوما توضيحية على موقعها الإلكتروني تبين من خلالها الطريقة المثلى لغسل اليدين وبشكل منتظم، مستعملة ألفاظا من قبيل الفرك والدلك وتخليل الأصابع بالماء، حتى يخيل إليك أنك تقرأ في أحد كتب الطهارة : باب ما جاء في الوضوء ! نقرة المعلم كورونا الجديد على سبورة الأبدان، تردد صداها في أنحاء العالم، فانطلقت على إثرها حملات توعوية ووصلات تحسيسية كونية حول آداب العطس وغسل اليدين، انبرى للانخراط فيها بقوة وبحرص شديد، ليس خبراء الصحة فحسب، بل رؤساء دول ومسؤولون رفيعو المستوى في قطاعات مختلفة ومشاهير في مجالات علمية وفنية وثقافية ورياضية وغيرها، اجتمعوا في صعيد واحد يكررون بلا ملل درس المعلم الجديد في النظافة. يقول الدكتور محمد الحسن الغربي، أستاذ أمراض الغدد والتغذية بكلية الطب بالرباط ومدير سابق لمستشفى ابن سينا، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن للنظافة دورا كبيرا في الوقاية من أمراض كثيرة تعفنية وغير تعفنية على رأسها أمراض الجهاز الهضمي والتنفسي والجلدي والبولي والتناسلي، مشيرا إلى أن التفريط فيها لا سيما غسل اليدين يتسبب في أمراض قد تودي بحياة الإنسان، كما هو الحال بالنسبة لفيروس كورونا الذي يهيمن في الأوساط الملوثة والوسخة ويصيب الجهاز التنفسي ثم ينتقل من إنسان لآخر. وحول طبيعة فيروس (كوفيد-19) وسبل الوقاية منه، بي ن الأخصائي رئيس مصلحة أمراض الغدد الصم وداء السكري بمستشفى ابن سينا بالرباط، أن هذا الفيروس الذي سجلت أولى حالاته بالصين في دجنبر 2019 بولاية خوبي، ينتمي إلى عائلة معروفة، لكنه عرف تغيرا في حمضه النووي ولم تعرف حقيقته إلا بعد إصابة الحالة الأولى في الصين، "فثبت لدينا أن هذا الفيروس يصيب على وجه الخصوص الجهاز التنفسي ويمكن أن يؤدي إلى أعراض أخرى في الجهاز الهضمي وأجهزة أخرى". وأوضح أن العدوى بهذا الفيروس الوبائي تنتقل من الشخص المريض عبر رذاذ لعابه المتطاير إلى شخص آخر من خلال الفم أو الأنف أو العينين، فيمكث في حلق الإنسان ثلاثة إلى أربعة أيام ثم يمر إلى الجهاز التنفسي، دون أن يشعر الإنسان بحمله، وقد يصاب ببعض الأعراض في الجهاز التنفسي كالسعال وارتفاع درجة الحرارة، ويمكن أن تتطور حالته إلى الشعور بضيق في التنفس، وقد يؤدي إلى الإصابة بقصور تنفسي حاد يعرضه في بعض الأحيان للوفاة. ولفت الدكتور إلى أن وصول المريض إلى هذه المرحلة يستدعي نقله إلى غرفة الإنعاش حيث يركب له تنفس اصطناعي في انتظار أن تتحسن حالته الصحية، مشيرا إلى أن الرهان اليوم كبير على التدابير الوقائية والاحترازية لمحاصرة العدوى، بالنظر إلى محدودية عدد الأسرة المجهزة بمعدات التنفس الاصطناعي لإنعاش المرضى داخل المستشفيات. وفي هذا السياق، شدد الدكتور الغربي على ضرورة الالتزام بالنظافة والتركيز على غسل اليدين أكثر من مرة في اليوم بالماء والصابون أو بالماء المعقم، والتزام مسافة متر ونصف إلى مترين بين الأشخاص، والتقيد بجميع التدابير الاحترازية التي وضعتها الدولة لمواجهة هذا الوباء. أما بالنسبة للكمامات، فيستحسن، حسب الطبيب، وضعها في الأماكن التي يغلب فيها احتمال وجود الفيروس على سبيل الاحتراز، أما الأطباء والممرضون الذين يباشرون المرضى المؤكدة إصابتهم فهؤلاء يرتدون كمامات خاصة متطورة وبجودة عالية تصفي الهواء المستنشق. وحول التأصيل الشرعي للنظافة في الدين الحنيف، أكد السيد الغربي، وهو خطيب أيضا وعضو المجلس العلمي للرباط سابقا، أن النظافة لها مكانة عظيمة في الإسلام وهي من المعلوم في الدين بالضرورة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في أحاديث كثيرة بالعناية بنظافة الجسم ونظافة مكان الصلاة والبيت والشارع العام، فضلا عن الأعمال التعبدية الأخرى المرتبطة بالطهارة، مشيرا إلى أن لذلك كله دورا هاما في الوقاية من الأمراض التعفنية وغير التعفنية. وأضاف السيد الغربي أن هذه المرحلة العصيبة التي يجتازها العالم، والتي بدا فيها الإنسان ضعيفا للغاية، وعاجزا تماما أمام فيروس دقيق، لا يرى بالعين المجردة، "تدعونا للعودة إلى الله القادر تبارك وتعالى، والاعتراف بالتقصير في حقه وفي حق خلقه، وتصحيح النيات والأعمال، والتعاون في ما بيننا، ونشر السلم والأمن والسلام في مجتمعاتنا". من القصور إذن الاعتقاد بأن كارثة صحية عالمية بهذا الحجم، والمتمثلة في جائحة كورونا، جاءت لتصحح ممارساتنا في النظافة فحسب، بل إنها تشكل فرصة للتوقف مع الذات، والتفكر في حال الإنسانية ومآلها، من أجل الانطلاق في اتجاه تصحيح المسار في علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالكون، علاقة تنبني على التبادل الإيجابي، وعلى احترام النواميس وفقا لقاعدة رابح -رابح .. قاعدة ذهبية تسع الجميع. *و.م.ع