إن ما يميز الدعوة إلى بناء نموذج تنموي جديد هو كونها نابعة من أعلى سلطة في البلاد، وبذلك فهذا النموذج يعبر عن إرادة ملكية ومشروع مجتمعي، فالمطلوب إذن من الفاعلين فيه التحلي بالموضوعية، واقتراح الحلول. إن المقاربة الملكية تتسم، عادة، بكونها مقاربة بالنتائج، ومن هنا تأتي ضرورة التركيز على تفعيل المضامين، لأن برنامج هذا النموذج في حد ذاته وسيلة وليس غاية، ولذلك فهو يتسم بتبنيه لسياسة مندمجة (سياسية واقتصادية واجتماعية). وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن هاجس العدالة الاجتماعية لدى الدولة جعلها مضطرة إلى تبني عدة أنماط للسياسات العمومية، سواء وطنية أو قطاعية أو ترابية، وذلك بغية الوصول إلى عدالة قطاعية في التعليم مثلا. لقد أجمعت أغلب الدراسات والتقارير الدولية والوطنية، والدراسات التربوية، على الجرأة في الحكم على الاختلالات والأعطاب المتنوعة التي تتخبط فيها المنظومة التعليمية المغربية. وهكذا يعتبر خطاب جلالة الملك في 20 غشت 2013 بمثابة بداية جريئة لاقتراح حلول عملية لإشكالات التعليم بالمغرب، وفي الوقت نفسه دعوة صريحة إلى الحكومة، ولمختلف المسؤولين والفاعلين والمتدخلين في قضايا التربية والتكوين، للتعجيل بمعالجة الوضعية التي توجد عليها المنظومة التعليمية ببلادنا؛ إنه خطاب الوضوح والكشف والصراحة والتشخيص، واقتراح توجهات عامة حول إصلاح مرتقب لمنظومة تربوية وتكوينية وطنية فعالة؛ فهو إذن بمثابة خارطة طريق، وبرنامج عمل لكل المتدخلين. ومن نافلة القول، إن إصلاح التعليم شأن مجتمعي بامتياز، وليس من اختصاص الوزارة الوصية لوحدها وإن كانت مسؤوليتها عنه تأتي في الطليعة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الأهمية القصوى التي تحتلها المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين في المنظومة التعليمية برمتها، وفي العملية التعليمية التعلمية على وجه الخصوص، باعتبارها مؤسسات لتكوين الأطر العليا غير التابعة للجامعة، فهي مشتل الأطر التعليمية والتربوية، سواء كانوا إداريين أم مدرسين على اختلاف مستوياتهم، ومحط تكويناتهم الأساسية والمستمرة، وهي الحلقة الرابطة بين الجامعة والمدرسة المغربية. ومعلوم أن هذه المراكز قد تم إحداثها بالاستناد إلى المرسوم 2.11.672 الصادر في 27 محرم 1433/23 دجنبر 2011، وقد أنيطت بها مجموعة من المهام، إلا أننا وإيمانا منا بضخامة وجسامة وأهمية هذه المهام، نلاحظ أن عملية الإحداث بقيت حبرا على ورق؛ إذ إلى حدود اليوم، لم تتم عملية هيكلتها، مما عرقل سيرها، بل إنها في سنوات عدة تكون في حالة عطالة تامة، كما هو شأن السنوات التكوينية الأخيرة، لذلك وجب الترافع من أجل تفعيل المراسيم المنظمة لها في أقرب وقت ممكن، ونعتبر كل تأخير في ذلك تبذيرا للجهد وللرأسمال البشري والمالي، وإهدارا للزمني التكويني. وعليه، فإنه لضمان نجاعتها وفعاليتها، وتماشيا مع الرغبة الملحة للدولة في تنزيل الجهوية المتقدمة، فإننا ندعو إلى تعديل المرسوم السالف الذكر، باعتماد أحد الخيارين: الأول، إلحاقها بالجامعة على صعيد كل جهة، وإدماجها مع المدارس العليا للأساتذة، والرقي بها إلى مستوى "كلية لمهن التربية والتكوين"، بغية تجميع الكفاءات، وتفادي تشتيت المشهد التكويني بين المؤسستين، كما أن هذا الإدماج سيضمن وجود قنوات للتنسيق؛ إذ الجامعة هي المزود الوحيد لهذه المراكز بالعنصر البشري/الطلبة؛ فالملاحظ اليوم أن الجامعة تبنت إصلاحها الأخير (LMD) الذي من خلاله تم الفصل بين المسالك (مسلك التاريخ ومسلك الجغرافيا، ومسك الفيزياء ومسلك الكيمياء، ومسلك الجيولوجيا ومسلك البيولوجيا، وغيرها من المسالك الأخرى)، أو مسالك تخصصية، وإلى جانبها مسالك تربوية مهنية. وفي مقابل ذلك، فإن المراكز الجهوية لمهن التربية احتفظت في صيغتها الجديدة بنظام الشعب المزدوجة (شعبة الاجتماعيات، وشعبة علوم الحياة والأرض، وشعبة الفيزياء والكيمياء، وغيرها من الشعب الأخرى)، في إطار تكوين أحادي، لا يراعي هذه الفروقات، مما خلق جوا من عدم تكافؤ الفرص بين الطلبة المقبلين على التكوين، واضطرابا في بناء كفاياتهم، والسحنة المبتغاة من تخرجهم. أما الخيار الثاني، فإننا ندعو من خلاله إلى إحداث وحدات جهوية لتكوين الأطر، تسهر على السير العادي لها بالإضافة إلى مهام أخرى تعضدها وتدخل في صميم الرقي بالمدرسة على الصعيد الجهوي. ونطمح-في هذا الصدد-إلى جعل المراكز الجهوية في مستوى كلية تربوية هدفها المهننة. وبالجملة، نعتبرها قاطرة للنهوض بالتعليم جهويا، كما ندعو إلى تأهيل بنياتها، وتزويدها بالأطر الكفؤة. واستنادا إلى المادة (3) من المرسوم سالف الذكر، فإنه وجب الترافع لأجل الحفاظ على الزمن التكويني، وذلك بالحرص على وضع رزنامة زمنية، تبتدئ بالانتهاء من مباراة الولوج إلى المراكز بنهاية شهر يوليوز، حتى يتسنى انطلاق الموسم التكويني مع بداية شهر شتنبر، الذي سيتزامن وانطلاق الموسم الدراسي، مما سيوفر فرصة للانضباط لمقتضيات التكوين بالتناوب ولدفاتر تحملاته التي تنص عليها عدة التكوين الواجب العمل بها، عكس ما يتم الآن، على اعتبار أن المؤسسات التعليمية، على اختلاف درجاتها (الابتدائية والثانوية الإعدادية والتأهيلية)، تعتبر مؤسسات للتداريب الميدانية. ولا بد كذلك من وضع جدولة زمنية للتكوينات المستمرة لأطر القطاعين التعليميين العمومي والخصوصي. وبخصوص هذا القطاع الأخير، فإنه وجب سن قوانين ملزمة لمؤسساته، تجعل من المراكز الجهوية وجهة وحيدة لجلب أطر هيئة تدريسها وإدارتها، وكذا تكويناتها المستمرة مقابل أثمنة تفضيلة، باعتبارها مؤسسات يجب أن تتوفر فيها صفة المواطنة (مقاولات تعليمية مواطنة). ونشير إلى أن هذه الإجراءات، ستوفر دعما ماليا يتم توظيفه في البحث التربوي التدخلي العملي وكذا النظري. وبالموازاة مع ذلك، ندعو إلى إصدار قوانين، يمنع بموجبها على موظفي قطاع التعليم العمومي الاشتغال بمؤسسات التعليم الخصوصي، وذلك بهدف محاربة بطالة حاملي الشواهد، الذين يكونون قد خضعوا للتكوين بالمراكز الجهوية، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الحالات الضرورية والملحة والنادرة جدا، حفاظا على السير العادي لهذه المؤسسات الخصوصية. وندعو كذلك إلى جعل هذه الأخيرة مفتوحة أمام الأساتذة المتدربين لإنجاز وضعياتهم المهنية، أسوة بنظيرتها العمومية، مما سيشكل فرصة لخلق ألفة لهم معها، مما قد يشجعهم على الانخراط في الاشتغال بها (مع استحضار كل الضمانات التي يوفرها لهم قانون الشغل المغربي). كما ندعو إلى تعديل المادتين (3) و (34) من المرسوم المذكور، وذلك بالتنصيص على إحداث مراكز بحثية جهوية، بمواصفات علمية وعالمية إلى جانب المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بعد البث في تسمية وتبعية هذه الأخيرة للجامعة أو للمديرية الجهوية لتكوين الأطر العليا، وسيكون من مهامها ما يلي: القيام بأنشطة البحث العلمي، التربوي النظري والتطبيقي في المجالات التربوية، والبيداغوجية والديداكتيكية وحكامة المؤسسات، وكذا إنجاز الدراسات والأبحاث في المجالات التي تدخل ضمن اختصاصات المركز مع الجهات المعنية. إرساء وتفعيل مختبرات وفرق بحثية. ملاءمة البحث العلمي التربوي مع أولويات قطاع التعليم المدرسي. نشر نتائج البحوث والتعريف بها، واستثمارها في الرفع من جودة تكوين الأساتذة وتأهيلهم. التنسيق مع المختبرات البحثية بالجامعة على صعيد الجهة، وكذا مع المتدخلين في هذا المجال وطنيا ودوليا. تنظيم ندوات وملتقيات في مجال البحث العلمي التربوي. وإيمانا منا بأهمية الدفع بهذه المراكز لاستكمال أهدافها ومهامها، فإننا ندعو كذلك إلى تعديل مرسوم الإحداث، بالتنصيص على إضافة مهمة أخرى لها، تتمثل في تخويلها فتح تكوينات لنيل شهادة الماستر والدكتوراه في التخصصات التربوية الميدانية التدخلية العملية، بهدف الاستجابة والاجابة عن الاشكالات الآنية أو الاستشرافية التي تواجهها المدرسة المغربية. وأمام جسامة المهام المنوطة بهذه المراكز، فإننا نطالب بمساهمة جميع الفاعلين والمتدخلين والشركاء على صعيد كل جهة، وفي مقدمتهم الجماعات الترابية (مجالس الجهة والإقليم والجماعة)، بإقامة شراكات فعالة معها، وكذا الأخذ بعين الاعتبار أهمية ومكانة هذه المراكز أثناء إعداد برامجها التنموية. وفي الأخير، لا بد أن ننوه إلى أن الإنتاج في زمن العولمة يتطلب المعرفة، والمعرفة تنتج الثروة، لذا يجب الاستثمار في الموارد البشرية، وتطوير قدرات الأفراد حتى تساير حاجيات بلدنا الحضارية والثقافية والاجتماعية والعلمية والسياسية. *أستاذ باحث عضو المنتدى الأوربي للوسطية ببروكسيل