تعد هذه السنة هي الأولى لانطلاق تجربة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، المحدثة بالمرسوم 672.11.2، إلا أنها تعرف تعثرات في انطلاقتها، لاسيما تنزيل عدة التكوين الجديدة في غياب النصوص التنظيمية الخاصة بالتسيير الإداري والتربوي وبمختلف المتدخلين في تأهيل الأساتذة المتدربين.. في هذا الحوار يحدثنا الدكتور محمد أمزيان، الأستاذ الباحث في علوم التربية، عن قراءته لعدة التكوين الجديدة ووضعية المراكز الجهوية كمكون أساس لنظام التربية والتكوين في بلادنا، وكذا باعتبارها مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي تساهم في تكوين الأطر العليا التي تعنى بإنتاج المعرفة والرموز الثقافية وتوجيه عمليات التعليم والتعلم للأجيال الصاعدة. - بداية، ما هو تقييمك لطبيعة الظروف التي سبقت التهيىء لعدة التكوين في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين؟ لا يسعني، في البداية، إلا أن أسجل الملاحظات الشكلية التالية: التكتم الذي واكب عملية الإعداد لهذا المشروع، والزمن القياسي الذي أنجز فيه، ثم طبيعة العلاقات الخاصة التي طبعت المجموعات المحصورة التي تولت إنجاز الوثائق التربوية.. ولعل أبرز صفة يمكن أن ننعت بها «عدة التكوين» هي كونها عُدّة ممنوحة تم تنزيلها «من فوق» على «رؤوس» الأساتذة الباحثين والمكونين، في غياب أي مشاركة جدية ومسؤولة. وكان حريا بالمسؤولين على تكوين الأطر فتحُ نقاش واسع لاستطلاع الآراء ووجهات النظر لمختلف الفاعلين والمتدخلين التربويين لضمان مشاركة واسعة ومتنوعة (شركاء اجتماعيين، خبراء في التربية، ممارسين، مفتشين، إداريين، أساتذة التطبيق).. -هل تقصد بهذا أنه لم تتم استشارة كافة الفاعلين؟ من الناحية المنهجية تقوم هندسة التكوين، كما هو متعارف عليه في الأدبيات التربوية، على تصور واضح يحدد الجدوى من الإصلاح أو التعديل، من خلال توسيع هامش التفكير والانفتاح على مختلف الفاعلين لاستقراء آرائهم حول جاهزية المنهاج وقابليته للتطبيق ومدى استجابته للانتظارات ومدى ملاءمته لحاجات المستهدفين.. ولذلك، لم تسبق عملية الإعداد أيُّ مشاركة فعلية لفاعلين ومتدخلين، بمختلف مستوياتهم (مدرسين، مفتشين، أساتذة التطبيق، رؤساء المؤسسات، مديري المراكز).. سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الجهوي. فقد تركزت الاجتماعات المكوكية على الصعيد المركزي، وانحصرت الاتصالات في لقاء وحيد (7 -8 مارس 2012) وهذا ما يوضح بجلاء استمرارية النزعة المركزية المتمركزة في تدبير الشأن التربوي، إذ يكفي إحداث لجن مصغرة، يُعَدّ أفرادها على رؤوس الأصابع، للشروع في إعداد أي مشروع، كيفما كان حجمه ووزنه الاجتماعي والثقافي. - هل استندت عُدّة التكوين المقترَحة على دراسة تقويمية؟ مما تجدر الإشارة إليه هو كون مشروع عُدة التكوين المُنزَّلة لم يستند إلى دراسة تقويمية جادة للعُدة السابقة من أجل الوقوف على الثغرات والعمل على تفاديها، وكذا على تحليل نقط القوة والعمل على تثمينها.. لذلك نتساءل: لماذا لم تُنجَز دراسة تحليلية لتقويم المردودية الداخلية والخارجية لعُدة التكوين السابقة قبل تنزيل العدة الحالية؟.. -ما هي، في نظرك، انعكاسات هذا الفراغ القانوني على عملية التكوين؟ -رغم الجهود المبذولة، ففي غياب القوانين التنظيمية الكفيلة بأجرأة المرسوم رقم 672.11.2، فإن الوزارة الوصية والوحدة المركزية تتحمّلان كامل المسؤولية في هذا الغموض الذي أدى في بعض المراكز إلى تغييب الهياكل المُنتخَبة واستفراد الإدارة بالقرارات البيداغوجية والمالية والتربوية.. كما أن المراسلة الوزارية الموجَّهة لمديري المراكز الجهوية لاقتراح مديرين مساعدين خلفت نوعا من الاحتقان في غياب معايير واضحة ودقيقة وفي غياب مهام مضبوطة ومحددة للمدير المساعد. - وما هو دور الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين في هذا الموضوع؟ لا تزال العلاقة غامضة بين المراكز الجهوية والأكاديميات الجهوية، فعلاقة التنسيق التي يشير إليها المرسوم القاضي بإحداث المراكز الجهوية يشوبها نوع من التذبذب، فالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين مؤسسات لتكوين الأطر العليا يحكمها القانون 01.00، وهي في الوقت نفسه خاضعة في تسييرها الإداري للأكاديميات، وهي بالتالي تابعة لقطاع التربية الوطنية، وهذه الوضعية الشاذة تجعلها في منزلة بين المنزلتين. - هل هناك إطار تعاقديّ بين المراكز والجامعات؟ ينص الميثاق الوطني (الدعامة 13) على ضرورة ربط مؤسسات تكوين أطر التربية والتكوين بالجامعة لتمكين الطلبة من تكوين فعّال وملائم، قبل استلامهم مهامهم، ثم تدعيم البحث التربوي في جميع ميادينه وتسخيره لخدمة جودة التربية والتكوين. إلا أن الملاحظ هو تنزيل عُدة التكوين المقترحة في غياب الإطار التعاقدي الذي يجمع بين المراكز الجهوية والمؤسسات الجامعية.. فلما اعتبرت هذه المرحلة انتقالية كان من الأجدى وضعُ خطة تكوين أو تأهيل تكون، هي أيضا، انتقالية، في انتظار وصول أفواج الطلبة الوافدين من المسالك الجامعية للتربية، ما دامت العُدّة موجَّهة لهم بالأساس. فقد تم تهيئ عُدة لغير أصحابها، حيث نعمل على تطويع الطالب الحاصل على الإجازة في الدراسات الأساسية مع نظام للتكوين وضع على مقاس مواصفات آخرى. - كيف تتصور طبيعة العلاقة بين المراكز الجهوية والجامعات مستقبلا؟ في غياب إصلاح بيداغوجيّ واضح المعالم للتعليم العالي يكون قادرا على خلق الانسجام مع الاختيارات والتوجهات التي نادى بها الميثاق الوطني، ثم ملاءمة هندسة المسالك الجامعية للتربية مع إستراتيجية التكوين في المراكز الجهوية، يتعذر الحديث عن إستراتيجية للتكوين، وهذا ما يُكرّس القطيعة بين المؤسسة الجامعية الحاضنة والمركز الجهوي المستقبل. - هل يتعين، في نظرك، إلحاق المراكز الجهوية بالجامعات؟ تعتبر المراكز الجهوية مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي، ويحكمها القانون 00.01، وانسجاما مع روح الميثاق الوطني، يتعين أن تتبع المراكز الجهوية للجامعات ضمانا لاستقلاليتها المالية والإدارية، من جهة، ثم ضمانا لربطها بمراكز البحث العلمي، من جهة أخرى، أسوة بالمدارس العليا للأساتذة. وهذا ما سيفسح المجال للأساتذة بمزاولة البحث الأكاديمي في ظروف مناسِبة وأكثرَ ملاءَمة. أما الوضعية الحالية للمراكز فهي -في أحسن الأحوال- شبيهة بمعاهد التكوين المهني.. - لكنْ كيف يتم تدبير الموارد البشرية في هذه المراكز في ظل هذا الوضع؟ كان من المنتظر أن يُعهد بتسيير هذه المؤسسات إلى أطر ذات كفاءة عالية تنتمي لإلى هيأة التعليم العالي، لكنّ الواقع الحالي هو عكسُ ذلك في غالبية المراكز. وبالنسبة إلى الأطر الإدارية فهي «مكلفة» بمزاولة مهامّها في انتظار النصوص القانونية وفتح باب التباري حول المناصب لتعيين المديرين المساعدين والكتاب العامّين. أما من حيث هيأة التكوين والتأطير فقد عرفت بعض المراكز تضخّما في عدد أساتذة بعض الشُّعَب. ومن المؤسف أن تهدر الكفاءات التعليمية في الوقت الذي تعرف أغلب الجامعات نقصا مهولا في الأطر. - وماذا عن وضعية البحث التربوي في المراكز إذن؟ يشكل البحث التربوي الحلقة المفقودة في المراكز، رغم كونها تتوفر على طاقات كبيرة، خصوصا بعد التحاق مجموعة من الأساتذة الباحثين مؤخرا بهذه المراكز.. ولا تزال عملية إرساء وتفعيل فرق البحث متعثرة في أغلب المراكز، سواء على الصعيد المحلي أو الجهوي، في الأكاديميات، فالتوجه الحالي لمنهاج التكوين يختزل دور المراكز في التأهيل المهني فقط، وهذه نزعة مُغرقة في التقنية.. كما أن إلحاق البحث التربوي بالأكاديميات هو خطأ فادح، وفي غياب أي دعم مالي من الميزانية العامة. - ستحيلنا هذه الوضعية لا محالة على التساؤل عن علاقة المراكز الجهوية بمؤسسات التطبيق؟ في غياب النصوص القانونية التي تحدد آليات التنسيق القائم بين المراكز الجهوية والأكاديميات، تبقى علاقة المراكز بمؤسسات التطبيق غيرَ واضحة المعالم. وبالنسبة إلى عُدّة التكوين الجديدة فهي لا تقوم على أجرأة واضحة لكيفية تحقق كفايات التدريس لدى المُتدرّبين.. وهذا ما يوضح الشرخ القائم بين فضاءي التكوين بالتناوب، من جهة، وكذا غياب التنسيق بين كافة الفاعلين، من جهة أخرى، الشيء الذي نجم عنه مقاطعة المفتشين في بعض الجهات عملية انتقاء المُرشدين التربويين لعدم إشراكهم في تهيئ عدة التكوين، مما يؤثر سلبا على جودة التأهيل للأساتذة المتدربين. - كيف يتم تدبير عملية التكوين بالتناوب إذن؟ يمكن تشبيه تجديد منهاج تكوين المدرسين بمثابة عملية تجميل أفضت إلى تشويه، إذ تم بموجبها الإجهاز على ما تضمّنته عُدة التكوين السابقة من عناصر لها ارتباط وثيق بالتفكير النقدي والتبصّري، كما هو الشأن بالنسبة إلى سوسيولوجيا المدرسة وبيداغوجيا الإبداع.. وتم بذلك الإبقاء على العناصر التقنية فقط، حيث تم اجتثاث المدرسة المغربية من تاريخها ومحيطها السوسيولوجي باعتبارها فضاء للصراعات التي تعطي معنى للتربية وتؤثر في مسارها، كما تم «تدجين» الفكر الإبداعيّ لدى المدرّس، بحبسه في خانة «المهني والممهنن»، وهذا ما سيحجب على المتدرب استيعاب مدلول عدد من المفاهيم والتصورات السوسيولوجية، كما سيمنعه من إدراك حقيقة عدد من الظواهر التاريخية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بالمدرسة المغربية خاصة، وبالتربية المدرسية، عامة.