ما دفعني حقيقة لكتابة هذه التدوينة وبهذا العنوان المستفز؛ هو ما قرأته من تدوينات على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" من نقد واستنكار لما سموه شططا في استعمال السلطة، خصوصا شريطا مصورا يظهر فيه رجل سلطة وهو يصفع "مواطنين"، وأقول "مواطنين" تجاوزا فقط. لأني لازلت أتساءل هل الأمر يتعلق بمواطنين فعلا أم بمسمى آخر...فلا أعتقد بكونه "مواطنا" من لا يتحلى بأي حس مسؤولية إزاء كل ما يحدث الآن. لا أريد أن أصنف هؤلاء المدونين، لكن الأمر فعلا يتعلق بفئتين معروفتين، فئة الإسلاميين وفئة اليساريين، وليس لي أدنى مشكل مع كليهما. بل وجودهما ضروري في حد ذاته، وهو ما يعطي معنى للحياة السياسية في أعتى الديمقراطيات. التعددية ضرورة والنقد ضرورة للبناء. لكنه يكون كذلك (أي ضرورة للبناء) حين يكون موضوعيا علميا لا عاطفيا انفعاليا. فهنا يتعلق الأمر بنقد مجاني لأجل النقد فقط. لماذا أصدر هذا الحكم؟ لأني قرأت كثيرا من التدوينات أعرف أصحابها جيدا وأعرف توجهاتهم الإيديولوجية التي تفضح دوافعهم النفسية لكتابتها، إن الأمر يتعلق بأناس يتصيدون أخطاء الدولة ليعلقوا عليها. وطبعا هذا من حقهم، بل هو من صميم النقد البناء، لكن ما لا يريد أن يفهمه هؤلاء هو الظرفية الخاصة التي نمر بها الآن. يا سادتي نحن الآن أمام طوفان جارف، إما أن ننجو جميعا أو نهلك جميعا، وما هذا بوقت العتاب، بل هو وقت الوحدة والتوحد، وقت الإجماع والتضامن. أجلوا معاركم رحمكم الله إلى حين نجاتنا من هذه الجائحة، وتعلموا منها أن لا نجاة لنا إلا بدولة قوية صامدة، لا بدولة هشة تجرفها أول عاصفة. واعذروا أخطاء الدولة وقوموها باقتراحاتكم وخبراتكم، فالدولة نفسها بكل مؤسساتها في مأزق حقيقي لم تمرّ بمثله من قبل، ولكنها مع ذلك أبانت عن كفاءة كبيرة في التصدي لهذه الجائحة، وهذا باعتراف كل الملاحظين من الداخل والخارج. قد تكون هذه الكفاءة التي أبانت عنها الدولة المغربية في التعامل مع الجائحة، والتي خلقت إجماعا داخليا رهيبا حولها، هي ما دفع مثل هذه الأصوات لتصيد الأخطاء والتعليق عليها بالنظر إلى أيديولوجياتهم وأحقادهم النفسية، لكني لا أريد أن أذهب بعيدا في هذه الفرضية حتى لا أسقط في "التخوين" وإن كانت فرضية مفسرة. لهذا، سأعتبر دوافع هؤلاء وطنية بدرجة أولى، وأن غيرتهم على وطنهم هي دافعهم الأساسي. ومع ذلك أتوجه إليهم بمؤاخذاتي. فإن أخذنا بحسن نية أن دوافع هؤلاء وطنية بحثه، فإنهم مخطئون لا محالة في انتقادهم للسلطوية في هذه الظرفية بالذات، لماذا؟ لأن الأمر يتعلق بتصد جماعي للمرض وليس بمواجهة فردية، وهذا لا يخفى على أحد منهم طبعا، ولا أفهم سبب تجاهل هذا الأمر خصوصا مع ما يصلنا من أخبار عن جيراننا الذين يدفنون المئات كل ليلة لأنهم لم يتعاملوا بالحزم والصرامة المطلوبة منذ بداية تسجيل الحالات الأولى مثلما فعل المغرب. وإذا كان التصدي جماعيا مثلما أسلفنا بأن نمكث في بيوتنا، وبما أن كثيرا من المواطنين استجابوا لتعليمات الدولة، فما معنى أن يرفض آخرون الانصياع لهذه التعليمات التي تهم صحتهم وصحة أقربائهم وصحتنا جميعا. ولأن هؤلاء يرفضون الانصياع فإنهم يشكلون خطرا على المجتمع ككل، فلا علاج للمرض غير العزلة، ولا أحب إلى الفيروس من الاختلاط. فلماذا نتهاون مع هؤلاء؟؟ شاهدت كثيرا من الأشرطة لمواطنين من إيطاليا نادمون كل الندم على عدم التزامهم بيوتهم حين كان الوضع تحت السيطرة، ويتمنون الآن لو تم الحجر عليهم بالقوة في ذلك الوقت لكانوا تجنبوا أن يدفنوا المئات كل يوم. واسبانيا ذاهبة في نفس طريقهم. هل هذا ما يطمح إليه هؤلاء؟ هل يريدون لنا أن ندفن المئات عما قريب من أحبائنا؟ هل استغنيتم عن آبائكم وأجدادكم وحتى عن أنفسكم إلى حد الحد؟ هناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، وهي المتعلقة بالميدان، فأعتقد أن خبرتي كباحث سوسيولوجي من جهة تعطيني دراية في حدود معينة بميدان الأحياء الشعبية خصوصا، وبالمشاكل التي يتخبط فيها هذا المجال، وبالذهنيات التي تستوطنه، (ولا أريد هنا أن أخوض في دور الدولة في صناعة هذا الهامش، فقد أشرنا أن الوقت لا يسمح بذلك لأننا أمام وباء يهدد الحياة في هذا البلد)، أستطيع بناء على ذلك، وبناء على معطيات ميدانية من رجال السلطة أنفسهم (من أصدقائي) أن الأمر يتعلق بمقاومة وبتحايل في تنفيذ تعليمات الحجر الصحي. في هذه الأحياء بالذات تقع المشكلة، لأنها أحياء ضيقة ومزدحمة، ومجال جد ملائم لانتشار الفيروس بشكل قوي، والناس هنا يعطونه فرصة حقيقية للانتشار بمقاومتهم لأوامر السلطة؛ إما برفض الامتثال والاحتجاج بطرق شتى (وقد لاحظنا كارثة ما جرى بفاس وطنجة ومدن أخرى) وإما بالتحايل على دوريات الأمن (بالتجمع والتفرق كلما حلت الدورية ورحلت) إضافة إلى أشكال أخرى عديدة من التحايل والمقاومة. في ظل هذا الواقع الذي يهدد سلامة هؤلاء وسلامة أقربائهم وسلامة البلد بأكمله، كيف يريد "مناضلونا" -الذين يقبعون خلف شاشاتهم وينتقدون- كيف ستعامل السلطة في نظركم هذه الحالات الكثيرة التي تهدد أمن البلد، وكيف تناسيتم أن رجل السلطة نفسه معرض للمرض والموت بالفيروس وهو في هذا الميدان يؤدي عملا جليلا لهذا الوطن، أم أنه عدو يجب تصيد أخطائه مع المواطنين "الصلحاء". سامحوني أرجوكم فالأمر لا يتعلق ب"مواطنين" مثلما أسلفت في مطلع هذا المقال، سموهم ما شئتم لأن المواطن لا يعرض وطنه لخطر الفناء. رفض "مناضلونا" تعنيف السلطة للمخالفين، وطالبوا بتطبيق القانون، وذلك أن أصحابنا يؤمنون بالمفاهيم المجردة إيمانا أعمى يقوده جهلهم بالميدان الواقعي، هم لا يعلمون أن هذا المخالف الذي تلقى صفعة على وجهه يفضل هذه الصفعة ألف مرة على تطبيق القانون، اذهبوا لتنظروا إلى أي عينة ينتمي هؤلاء المخالفين، إن أغلبهم من الفقراء المعدمين...هل تريدون لهم حقا غرامة 1500 درهم في هذه الظروف المادية المزرية التي يمرون بها، أم تريدون لهم أشهرا من الحبس جزاء ما اقترفوه؟ أليس هذا هو القانون الذي تتبجحون به. أخبروني بالله عليكم من أرحم به؟ "مجرد صفعة" أم "شهور من الحبس"؟ ولا شك أنكم تعلمون حال سجوننا. إنكم سادتي سيداتي لا تريدون مصلحة المواطن والوطن، إما بنية مبيتة، وإما بحسن نية ساذجة، فالآن بالذات عليكم أن تتوجهوا للمواطن بالتوعية أولا، وبالنقد ثانيا، لكي يتجاوب مع حالة الحجر التي أعلنتها الدولة، بكل وطنية، لأنها طوق نجاتنا الوحيد، أما حساباتكم مع من تعتبرونهم خصومكم سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات فأجلوها من فضلكم رأفة بهذا الوطن وحبا فيه.