في إطار سياق الأزمة الصحية التي يعيشها المغرب اليوم، بادرت وزارة التربية الوطنية إلى إغلاق المؤسسات التعليمية والجامعية، كإجراء وقائي للحد من انتشار فيروس كوفيد 19 بين التلميذات والتلاميذ. ولتدبير وضعية التوقف المؤقت عن الدراسة عمدت الوزارة الوصية إلى تبني "الاستمرارية البيداغوجية" كاستراتيجية جديدة لتمرير المنهاج الدراسي. ويعتبر هذا النموذج الجديد من الأدبيات التربوية الذي عرف انتشارا واسعا. إذ تبنته مجموعة من الدول كفرنسا وكندا وغيرهما، كخيار بيداغوجي فرضته الظرفية الراهنة، يهدف إلى استمرارية الزمن المدرسي، وكذا الحفاظ على العادات المدرسية ( التفاعلات الصفية أستاذ/تلميذ، إنجاز الواجبات المدرسية، الحفاظ على زمن التعلمات) بالإضافة إلى خلق بيئة محفزة على التعلم والتحصيل الدراسي داخل المنازل. وبغية المساهم في مأسسة المبادرات الرامية إلى إرساء وتمرير نموذج "الاستمرارية البيداغوجية"، وتأطيرها منهجيا، ارتأينا تقاسم التجربة الفرنسية المرتبطة بتبني هذا النموذج في تدبير أزمة التوقف عن الدراسة، مع تكييفها مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المغربي، وكذا الظروف المؤسساتية التي تعرفها مدارسنا التعليمة: من غياب للموارد الرقمية، والمنصات التعليمية الالكترونية، ونقص في الخبرة المرتبطة بتدبير عمليات التعليم عن بعد، وكذا المرتبطة بالتحكم في الأنظمة المعلوماتية. وتتناول هذه الورقة ثلاثة محاور رئيسة، يرتبط أولها بتحديد دور القيادات التربوية في عملية إرساء الاستمرارية البيداغوجية، بينما يتطرق الثاني إلى عمليات تدبير زمن التعليم الافتراضي، أما المحور الأخير فيقترح منهجية تمرير الأنشطة البيداغوجية الرقمية. تدبير الاستمرارية البيداغوجية: قيادة مدرسية أم قيادة افتراضية؟ إن تدبير عمليات نموذج "الاستمرارية البيداغوجية" يتطلب الانتقال من قيادة مدرسية إلى قيادة افتراضية، يتكون أعضاؤها من ممثلي المجلس التربوي ومجلس التدبير، بالإضافة إلى بعض الأساتذة المتطوعين والذين يمكن أن يشكلوا إضافات نوعية لقيادة "نموذج الأزمة". وتتمثل أهداف القيادة الافتراضية في: عقد الاجتماعات التنسيقية قصد: تشخيص وضعية المؤسسة (تقييم نتائج الأسدوس الأول، تفييء التلاميذ وإحصاء المتعثرين منهم، تحديد حاجيات التكوين المرتبطة بالتحكم في المهارات المعلوماتية التي تتطلبها التفاعلات الافتراضية...)، وكذا تحديد استراتيجيات تمرير عمليات التعليم عن بعد، وتنسيق عملياتها وتحديد طرق تقويمها وتتبع وتيرة إنجازها؛ التنسيق بين أساتذة المادة الواحدة حول:( منهجية العمل، طريقة انتقاء أو إنتاج المحتويات الرقمية، الجدولة الزمنية وطريقة تمرير مقاطع المنهاج الدراسي الافتراضي، تحديد الفئات المستهدفة)؛ تعزيز الخبرة المرتبطة بإرساء الاستمرارية البيداغوجية من خلال الاطلاع على التجارب الرائدة في مجال التعليم الإليكتروني والتعليم عن بعد، بالإضافة إلى التواصل مع المؤسسات الأخرى قصد تقاسم التجارب وإغنائها، وتجاوز مختلف المعيقات التقنية والمنهجية التي يمكن أن تعترض عمليات إرساء البرنامج؛ تحفيز جمعية أمهات وآباء وأولياء التلاميذ وجمعيات المجتمع المدني والسلطة المحلية على إيجاد حلول بديلة لإدماج الأسر التي لا تتوفر على حواسيب أو هواتف ذكية أو ربط بشبكة الأنترنيت (توفير نسخ ورقية كبدائل). من الزمن المدرسي إلى الزمن الافتراضي ولتدبير الزمن المدرسي الافتراضي المرتبط ببرنامج الاستمرارية البيداغوجية يجب على القيادات المدرسية تحديد الجدولة الزمنية للتفاعلات الافتراضية الخاصة بتمرير مقاطع المنهاج الدراسي، والتي يجب أن تحترم المعايير التالية: تحديد الجدولة الزمنية لفترات التفاعلات الافتراضية الخاصة باللقاءات التزامنية، وكذا فترات تسليم الأنشطة البيداغوجية الرقمية وفترات استرجاع المهام المطلوبة بعد انجازها. ويبقى للتلميذ الحرية في تدبير زمن التعلم الذاتي الخاص به. ويجب الأخذ بعين الاعتبار، أثناء تحديد فترات التفاعلات الصفية المشتركة أو خلال تكليف التلاميذ بإنجاز مهام مرتبطة بدراسة وثائق مكتوبة أو مرئية، الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للمتعلمين وأسرهم (عدم التوفر على معدات معلوماتية، ظروف العمل داخل المنزل غير مناسبة بسبب ارتفاع عدد الأفراد، تعدد الأفراد المعنيين ببرنامج الاستمرارية البيداغوجية، درجة استقلالية التلميذ خلال إنجازه لمهامه، درجة التحكم في المهارات المعلوماتية ..)؛ اعتماد وسائل التواصل الاجتماعي التي اعتاد التلاميذ على استعمالها وأبدعوا في استثمار إمكاناتها (الوات ساب والفيس بوك) بدل الوسائل الجديدة التي ظهرت مع الأزمة والتي تتطلب الوقت والتكوين، حتى يعتاد التلاميذ على ضبط طرق استعمالها على أن يتم اعتمادها لاحقا حسب الحاجة والطلب؛ نحو مأسسة الأنشطة البيداغوجية الرقمية تعتبر عمليات نموذج الاستمرارية البيداغوجية من الأنشطة الجديدة التي تخرج عن سياق التفاعلات الصفية المباشرة المعتادة: (الالتزام بالزمن المدرسي الرسمي وكذا بالتسلسل الأسبوعي للمواد، مدة الاشتغال بالمادة الواحدة، التفاعلات الصفية المباشرة أستاذ/تلميذ، الإطالة في الشرح الشفهي). فهي تتطلب سياقا دراسيا افتراضيا مختلفا، يتكون من أنشطة بيداغوجية بسيطة، واضحة ومركزة تستجيب لإيقاعات تعلم جميع التلاميذ، كما تنتظم على مدد زمنية قصيرة. فهي تتجه إلى الانتقال من التوجيهات الشفهية إلى التعليمات المكتوبة، المفهومة والواضحة ، كما تتطلب أيضا فترات للتفاعلات الافتراضية القصيرة تتم عبر الغرف الصوتية واللقاءات التزامنية إن أمكن ذلك. وفي إطار إرساء عمليات الاستمرارية البيداغوجية، من الأفضل البدء بأنشطة لدعم المكتسبات السابقة وإغنائها كمرحلة أولى حتى يتمكن الأساتذة والتلاميذ وأولياؤهم من الاستئناس بوسائل ومنهجية العمل الجديدة، قبل الانتقال إلى مرحلة موالية تستهدف إتمام البرنامج الدراسي. وتتكون منهجية تمرير النشاط البيداغوجي الرقمي من عدة مراحل نقترحها على الشكل التالي: تحديد الموارد الرقمية المناسبة لمستوى عموم التلاميذ ولإيقاعات تعلمهم. وتتوزع بين موارد لتمرير الدروس وأخرى خاصة بالتمرن والإغناء. أما الأولى فمن الأنسب اعتماد مقاطع فيديو، أو مقاطع صوتية بحيث تتضمن شروحات شفهية تحل محل التواصل المباشر مع الأستاذ. أما الثانية فترتبط بأنشطة التمرن والإغناء والتقويم. وتتم عمليات التواصل بإرسال موارد رقمية يتم استرجاعها لاحقا من التلميذ بعد الاطلاع على مضمونها وإنجاز المهام المرفقة بها. التأكد من أن الموارد الرقمية المرسلة للتلاميذ، في إطار الأنشطة البيداغوجية، تتضمن تعليمات واضحة ودقيقة، وآجال مناسبة، وإشارة واضحة لمنهجية العمل (التعرف، الفهم، التلخيص، إنجاز التمارين،...) وطريقة استرجاع المهام المنجزة، وشروط الانجاز "عمل فردي أو جماعي"، ليتمكن التلاميذ وأولياؤهم من فهم المطلوب وحتى يتم تجنب التشويش الذي يمكن أن يترتب عن كثرة الاستفسارات والتساؤلات. متابعة أنشطة التلاميذ وتحفيزهم على إرجاع الواجبات في الوقت المحدد مع إمكانية المصاحبة الفردية للتلاميذ الذين يجدون صعوبة في استعمال الوسائل المعلوماتية أو الولوج والاطلاع على محتويات المنصات الإلكترونية. مصاحبة وتشجيع وتحفيز التلاميذ ودعم المتعثرين منهم. وتتم عمليات الدعم والمعالجة من خلال تثبيت ملاحظات مكتوبة على المنتوج الرقمي لكل تلميذ، أو توجيههم إلى الاطلاع على موارد عبر الأنترنيت أو تكليفهم بمهام إضافية. خاتمة إن نجاح نموذج الاستمرارية البيداغوجية في التخفيف من آثار التوقف عن الدراسة، رهين بمدى استعداد التلاميذ وأسرهم تقبل فكرة مفادها: أن المؤسسات التعليمية ليست المصدر الوحيد للتمكن من الكفايات، وأن الأستاذ ميسر للمعرفة وليس مصدرها، وأن الهدف من التعليم والتعلم ليس اجتياز الاختبارات المدرسية، وإنما تكوين الشخصية المتوازنة القادرة على التكيف مع مختلف المستجدات والظروف. وختاما يبقى الكتاب المدرسي الملاذ المتاح لكل تلميذ، لذلك وجب تطويره حتى يستجيب لمتطلبات الفئات الهشة من أبناء هذا الوطن.