قال عامر عبد زيد الوائلي، باحث عراقي متخصّص في الفكر الفلسفي الوسيط، إن "الواقع العربي يعيش في دوامة الحنين إلى الماضي"، وزاد: "يوجد شق إيجابي يتعلق بمقاربة التراث، وشق سلبي لا بد من إدخاله في خانة النقد، نتيجة التوظيف السياسي التبجيلي، بل هناك تضخيم لجزء من التراث يتم استعادته وتوظيفه وتخزينه وتعليمه دون مُساءلة". وأضاف عبد زيد الوائلي، الأكاديمي في جامعة الكوفة، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن "التأويل شهد تحولات متنوعة في التراث الإسلامي، مرتبطة بتنوع الرهانات السياسية التي كانت تتصارع على المشروعية الرمزية التي يمنحها النص القرآني، إذ بمقتضاها يمكن أن تغدو السلطة السياسية تتمتع بالمشروعية السياسية، ما جعل التأويل جزءًا من هذا الصراع". وأوضح صاحب كتاب "نقد العقل العربي عند محمد عابد الجابري" أن "الموقف السلفي فيه بعدان؛ الأول تراثي تيولوجي، والآخر معاصر يوظف الإيديولوجيا مثلما ظهر في التيارات السلفية من الموقف الوسيط، وما فيه من تصورات صراعية ظهرت تجاه الغرب المسيحي"، مستدركا: "ساد تصور لدى الطرفين يرفض الآخر ويعمل على إقصائه، لكن بعد عصر النهضة كانت هناك مساعٍ من أجل التحاور مع الآخر وتقليده على طريقة ابن خلدون". إليكم تفاصيل الحوار: توجد ثقافات إسلامية متعددة الجوانب تسم المشهد الإسلامي في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لكن نلحظ هيمنة، إن صح التعبير، لتوجه أصولي ينضح بالكره تجاه الآخر غير المسلم، بل أيضا يحمل أفكارا عدوانية وتعصبية في مواجهة المسلم نفسه الذي يعتنق قيما أخرى منفتحة. متى تبلورت ثنائية "الإسلام المنغلق" و"الإسلام المنفتح"؟ الموقف السلفي فيه بعدان؛ الأول تراثي تيولوجي، والآخر معاصر يوظف الإيديولوجيا مثلما ظهر في التيارات السلفية من الموقف الوسيط، وما فيه من تصورات صراعية ظهرت تجاه الغرب المسيحي؛ من خلال الحروب في إسبانيا والحروب الصليبية، وصولا إلى الحرب العثمانية، حيث ساد تصور لدى الطرفين يرفض الآخر ويعمل على إقصائه، لكن بعد عصر النهضة كانت هناك مساعٍ من أجل التحاور مع الآخر وتقليده على طريقة ابن خلدون؛ فظهر المثقف النهضوي الأفغاني ومحمد عبده. لذلك، مرّت العلاقة مع الآخر بمراحل متنوعة؛ من مقاومة الاحتلال الأجنبي إلى الانفتاح عليه والتثاقف معه في ظل النهضة، على أساس أن توصيف "الغرب والإسلام" عبارة لا تبدو قديمة في تبيان تلك العلاقة مع الآخر؛ فهي عبارة طارئة نقلت إليها بالترجمة الحرفية من اللغات الأوربية، بحيث لا يوجد هذا التعبير في النصوص القديمة، بينما من النادر العثُور على تقابل "الغرب" و"الإسلام" في النصوص الحديثة التي ترجع إلى بداية القرن الماضي. (مقاطعا) ما هي العوامل التي أدت إلى انقسام الإيديولوجيا الدينية نفسها بين تيار متشدد وآخر منفتح؟ لقد برزت في الخطاب العربي الإسلامي، خلال أواخر القرن ال20 وأوائل القرن ال21، عبارة "الإسلام والنصرانية"، وذلك في إطار المقارنة بين موقف كلٍ من الإسلام والمسيحية من حيث العلم والعقل (قارن مثلا كتاب محمد عبده: "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية")، لكن بعد ذلك انقسم الموقف الثقافي العربي على تيارين من تلاميذ محمد عبده؛ أحدهما تيار ليبرالي يمثله الشيخ الخولي وطه حسين، وموقف أصولي يمثله رشيد رضا وتلميذه حسن البنا. وظهرت مواقف متشددة في الشموليات الثلاث؛ القومية واليسارية والإسلامية، إذ اتفقت جميعها على نفي الغرب، ذلك أن كل هذه التيارات تدعو إلى الثورة من أجل إسقاط الدولة التي أقامها الاستعمار، وتعتمد على الكفاح المسلح طريقا للثورة من أجل الوصول إلى السلطة وإقامة النظام الشمولي، فالعلاقة بين الأنا والآخر قد أصابها تحول في الرؤية والمنهج بين السياق الوسيط والسياق المعاصر. لذلك، نجد أنها تحتوي على مضامين إيديولوجية، سواء كانت صريحةً أم مضمرةً، إذ تكتنز علاقات قائمة على القوة. ومن ثمة، فإن ذلك يقودنا إلى اكتشاف عنف رمزي؛ لأنه يحاول أن يفرض دلالات معينة على الآخر انطلاقاً من ادعائه شرعية ما، ويحاول من خلالها إخفاء أو اضمار علاقة القوة، لكن تبقى تلك القوة ذات طابع رمزي؛ فالنزوع الاستعماري جعل ردود الأفعال تعتمد على الهوية ومقاومة المُحتل وإسقاط دولته. ما زال "التيار السلفي" أسيرا للمضامين التراثية، بالنظر إلى أن هذه الرواسب التراثية تسهم في عرقلة تطور الدين الإسلامي وتُجهض الانتقال الديمقراطي، لأن مُعتنقي "التيار السلفي" يرفضون مختلف الأنظمة السياسية المعاصرة، مقابل تشبثهم بممارسة منطق الوصاية. هل تتفق مع الرأي الداعي إلى اعتماد المُنجز الغربي في صياغة تمثلات المجتمعات الإسلامية المعاصرة؟ الفكر الأصولي يُقدم الأصل ويتمركز حوله، سواء كان النص أم السلف الصالح، حيث يُقدم قراءة حَرفية للنص، ينعدم فيها العقل من الفعل ويتحول إلى مجرد خادم، علما أن الأصولية موجودة في كل المذاهب الإسلامية والأديان التوحيدية؛ ذلك أنها تحولت إلى العنف الرمزي عندما قامت بنفي الآخر وقتله، حتى صار في زمنها القتل متنوعا في الأشكال والآليات إلى حد بعيد. نتيجة ذلك، ينبغي التأسيس للتواصل الحياتي القائم على معايير العيش المشترك، الذي من أهم ضرورياته الابتعادُ عن التوظيف الرمزي العنفي للخلافات السياسية والدينية التي تبدو كأنها صراعٌ وجوديّ. إن النظرة العملية التداولية تجعلنا نتحول من أداة للعنف إلى صانعي سلامٍ وممارسي آليات الحوار التي لا تجعل شيئًا يعلو على مصلحة الناس، ما يقتضي تقبل حاكمية الأمة وفضائها المدني، من خلال جعل صندوق الانتخابات هو القاسم المشترك، بعيدا عن هيمنة الفرق والطوائف بخطابها الشمولي القائم على احتكار السلطة بالعنف والإكراه. تنتشر ثقافة "النوستالجيا" في المجتمعات الإسلامية، وهي تمثلات هادفة إلى استرجاع الماضي وتشويه الحاضر، إذ يتم التلاعب بالعقول من خلال نهج سياسة "التجييش" التي تستهدف شباب المنطقة الناقم على الأوضاع السياسية والاجتماعية. ما أهمية المساءلة النقدية في مواجهة المخيال الإسلامي "المزيّف"؟ إن الواقع العربي يعيش في دوامة الحنين إلى الماضي، حيث تشير "النوستالجيا" إلى الحب الشديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها، إذ يوجد شق إيجابي في القراءة يتعلق بمقاربة التراث، وشق سلبي لا بد من إدخاله في خانة النقد، نتيجة التوظيف السياسي التبجيلي، بل هناك تضخيم لجزء من التراث يتم استعادته وتوظيفه وتخزينه وتعليمه دون مُساءلة. لكن حالة الحنين ليست مرضا بقدر ما هي فعل مصطنع مخطط له مثلما يصفها بودريان الذي قال: "لم يعد لأشياء الحياة وموضوعاتها من قيمة بحد ذاتها زمن واقعية بذاتها، بل صارت قيمتها من قدرتها بفعل التوليد الإعلامي على غواية الناس"؛ فهذه الغواية موجودة بفعل السلطات السياسية، وتدعمها بعض مؤسسات المجتمع الأهلي تدعمها، حيث وصفها فوكو، ومن قبله نيتشه، أي القمع الأيديولوجي، ب "مثابة الغبار أو النقع الذي تثيره سنابك الخيل في المعركة". فهذه الهلوسة الإيديولوجية في استعادة الماضي لم تخلف إلا مزيدا من التشوية للماضي والحاضر معا، ما ولّد عقولا تفكر بطريقة مقلوبة، تريد خلق المستحيل بتحويل الحاضر الذي يتم تزييفه باستعادة الماضي، المتمثل ب "الخلافة " وما ارتبط بها من عوالم تخيلية يتم اصطناعها في المدونات الدينية والثقافية حتى تكون بديلا عن الواقع العربي. وقد خلق تجييش المشاعر وعيا مغتربا عن الواقع، بل يعمل على رفضه وتكفيره، نتج عنه آثار عنيفة مُولدة لمزيد من العنف والكراهية. ولعل الدليل على ذلك هو هذه العقول التي حولتها مؤسسات الدول العربية إلى أجيال ممسوخة إرهابية، تريد تدمير الحاضر من أجل استعادة حوادث الماضي. من هنا، تأتي ضرورة المساءلة النقدية التي لا تنظر إلى العقل بوصفه مجردا كمستودع للمقولات الجاهزة الثابتة، بل بوصفه حقلا للفكر تنبسط فيه دينامية الوجود التاريخية. بالحديث عن جوانب التقديس التي تطبع السلوك الجمعي للمسلمين في المنطقة، يختزن التراث العربي الإسلامي فقه الجهاد ولاهوت القرون الوسطى، مقابل الحضارة الغربية التي تمثل قيم الحداثة والتنوير. كيف تُشرّح هذا "الانغلاق اللاهوتي" الذي ما برح متلبثّا بالمجتمعات الإسلامية؟ يبدو أن للتأويل تحولات متنوعة في التراث الإسلامي، مرتبطة بتنوع الرهانات السياسية التي كانت تتصارع على المشروعية الرمزية التي يمنحها النص القرآني، إذ بمقتضاها يمكن أن تغدو السلطة السياسية تتمتع بالمشروعية السياسية؛ ما جعل التأويل جزءًا من هذا الصراع، إذ ورد في عشرة موارد من القرآن الكريم؛ وهي تفصِح عن الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي ظهر التأويل في ظله. ويبدو أنّه كان يمثل قاسمًا مشتركًا من الصراع على إعادة امتلاك الرأسمال الرمزي للنص، وهذا يظهر جلياً في حديث الإمام علي بقوله: "بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله"، حيث يرد التأويل هنا بوصفه مرحلة أخرى من الصراع على الرأسمال الرمزي بعد تلك الحرب التي كانت تدور رحاها بين الطرفين على التنزيل؛ لكن المرحلة الثانية من داخل الخطاب الإسلامي هذه المرة تحاول أن تجعل من القرآن ساحة صراع على المعنى، خصوصاً بعد حادثة التحكيم التي وصفها الإمام علي في حديثه مع ابن عباس، إذ بيّن أن المعنى هو من ينتجه القارئ للنص بقوله: "القرآن بين دفَّتي المصحف لا ينطق؛ وإنما يتكلَّم به الرجال". هنا، يغدو الرجال منتجين للمعنى عبر الغوص في معنى النص الذي يقوم بدوره بضخّ المعاني الكثيرة التي بإمكانها أنْ تزوّد الطرفين المتخاصمين بالحجج؛ بحسب قراءتهم لها كلٌّ من زاوية فهمه الخاص، كما يقول الإمام: "لا تحاججهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال أوْجُه، بل حاججهم بالسُّنَّة"، حيث يظهر التأويل بوصفه عملية فكرية مرتبطة بالعامل السياسي، وسعي كل طرف إلى إيجاد سند لما يطالب به من شرعية أو مسوغ ديني. لكن، كيف تحوّل "التأويل" في التراث الإسلامي حتى أصبح ذا حمولة سلبية في واقعنا اليوم؟ يؤكد نصر حامد أبو زيد أن معنى التأويل الذي يمكن أن نتلمّسه من تلك الأقوال للإمام علي لا يتضمن أي دلالة معيبة لكلمة "تأويل" التي لم تكن بعدُ قد تحولت إلى مصطلح، بل هي عبارة واصفة لطبيعة الخلاف؛ لكن سرعان ما أخذ هذا المعنى يصيبه التحول، فمصطلح "التأويل" اكتسب دلالتَه غير الحسنة تدريجيًّا، ومن خلال عمليات التطور والنموِّ الاجتماعيين، وما يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي. ولعل ذلك ما يظهر بنحو واضح مثلما كشف عنه نصر حامد ضمن قراءته الحفرية بشأن تحولات المعنى للتأويل في قراءة جلال الدين السيوطي الذي أحدث تمييزاً دلاليّاً بين مصطلحَي "التفسير" و"التأويل". من هنا، جاء هذا الجهد المعرفي في إحياء الخطاب التأويلي من أجل أن يستوحي مفروضات فلسفية هرمنيوطيقية كما حدث في الغرب. في المقابل، فالتراث الإسلامي، بفعل عدم وجود علم كلام جديد، ليس هناك بحوث تعتمد على مفروضات فلسفية متناسبة، على الرغم من أن المفروضات الفلسفية هي هرمنيوطيقية غربية، وهي متناسبة أكثر. أخيرا، لماذا أصبحنا المشكلة رقم واحد بالنسبة إلى العالم بأسره؟ سؤال تمحور بشأنه كتاب "الإسلام والانغلاق اللاهوتي" للكاتب السوري هاشم صالح، الذي يُحيلنا على مجموعة من المقولات اللاهوتية والانغلاقات التراثية السائدة في المجتمعات الإسلامية. في نظرك، لماذا أصبحنا المشكلة الأولى بالنسبة إلى العالم بأسره؟ أعتقد أنه من أجل الإجابة الموضوعية عن السؤال بعيدا عن ذهنية المؤامرة، وقريبا مما هو راهن في كثير من الدول العربية، هناك تأثير مباشر وآخر غير مباشر، ومن ثمة نجد أن الواقع العربي منفعل وليس بفاعل؛ فهو خاضع إلى مُوجّهات إقليمية وغربية، حتى بات الواقع العربي يقوم بدور سلبي تجاه الأزمات؛ وهذا ما تناولتُه في ورقة لِي بملتقى "أربيل" عن دول الإقليم وأثرها في الواقع العربي، بينها العراق، وهو ما يُسمى بصراع المحاور الجيوبوليتيكية في مواجهة القوى الإقليمية التي يُطلق عليها باللاعبين الجيو استراتيجيين. أما من الناحية الثقافية، فإن الثقافة تعد من الرهانات المهمة في تقويم الحاضر وصناعة المستقبل، بوصفها تعبر عن قدرة الإنسان على التذوق المتميّز للعلوم الإنسانية والفنون الجميلة والتفاعل؛ ذلك أن المتلقي الواعي يُدرك أن العالم قائم على التحولات. ومن ثمة، فإن الثقافة التي تُدرك التحول بإمكانها أن تؤسس إلى نمط ثقافي يدرك خصوصيتنا من ناحية، وينفتح على المستجدات في المعرفة والاعتقاد والسلوك، بحيث وجب عليه أن يعرف أن عالم الفكر المناظر لعالم الوجود لا بد أن يعيش التحول من اللاتحديد نحو الدقة، والتشخص أكثر فأكثر، إذ يعتمد بشكلٍ كبير على التعلّم والتفكير والقراءة والخوض في التجارب المختلفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع العربي يعيش حالة من الانفصام يمكن رصدها وتقويمها نقديا عبر رصد استجابتها الضعيفة لما يحدث اليوم عالميا وإقليميا، نتيجة إسهامات النظام الثقافي العربي، إذ جَعَلنا أسرى للثقافة الاستهلاكية على الصعيد الرسمي في الثقافة والإعلام والتعليم، في حين حوّل الثقافة التراثية إلى قلاع مُغلقة تحاول تسوير نفسها خوفا من رياح التغيير، إذ تحتمي وراء التقليد وترديد مقولات السلف الصالح، ما جعلها مَصنعا للأفكار المتطرفة التي تزيد محنة العرب، حيث نجد التقليد بدل الإنتاج والإبداع وتبْيِئَة للأفكار.