مواضيع شائكة يثيرها كتّاب مغاربة في عمل معنون ب"المعضلة التنموية في المغرب: حفريات في كوابح التّغيير"، في وقت يعرف نقاشا دعا إليه الملك محمد السادس من أجل "نموذج تنموي جديد" كلّف بصياغته لجنة ما تزال تلتقي بمختلف الفعاليات الاقتصادية والثقافية والسياسية والحقوقية، وتكثّف المنشورات والآراء المنشورة حوله. ويشارك في هذا الكتاب، الذي نسّقه الكاتب منير الحجوجي، كتّاب وباحثون من قبيل: عواطف المونى، بلال لهنا، عبد الحفيظ لحلو، منصف مرازق، لبنى المرزوقي، عبد الحكيم الزاوي، إبراهيم بجنيخ، مراد الضفري، هاشم علوي، فاطمة بوشيخة، عبد الواحد أيت الزين، عواد إعبدون، ياسين كني، وأنس مجيدي. ويتميّز هذا الكتاب بجمعه أصواتا حالِمَة قلّما يسمع صداها في النقاشات العمومية، من أساتذة في التعليم العمومي، بمراحله الابتدائية والثانوية، وباحثين شباب، تسائل تكوين اللعبة في حدّ ذاته، لا قواعدها فقط، وتنبّئ بأنّ "المحرقة آتية لا ريب فيها"؛ ف"ليست هناك في التاريخ جرائم لا يؤدّى عنها"، وبالتالي يقدّم هذا العمل "شهادتنا على هذه اللحظة المفصلية"، و"شيئا يسمح بالفهم". ويسائل هذا الكتاب النفسانية المغربية التي تربّت في حضن التواكل، وغابت عنها جرأة الاختيار الفردي والجماعي في اتخاذ القرارات المصيرية، والتجربة التاريخية المغربية التي "تزكّي الجمود على الموجود، والاستقرار في ظلّ الانحطاط"، كما في مقال الباحث مولاي عبد الحكيم الزاوي. ونظر الباحث نفسه إلى هذه النفسية بوصفها مربّاة على الانهزامية والتواكل، والخنوع والانبطاح، والاستنجاد بالأجنبي في لحظات التيه والضياع، والتماهي مع الاستبداد السياسي الماتح من تجربة المخزن التاريخية والاستسلام الوجودي أمام الآخر المتفوِّق. ويكتب الزاوي أنّ التعليم المغربي أخلف الموعد مع التاريخ، وأنتج قطاعات عريضة من البشر قادرة على القراءة؛ لكنّها غير قادرة على تمييز ما يستحقّ القراءة، ويسترسل واصفا سلوكيات "الابتذال الفكري، والكذب المتعمّد، والتلاعب الإعلامي، وتزييف الوعي، والتدنّي الثقافي، وتشويه الحقائق، ومداهنة صانعي القرار والنّفوذ.."، التي "تعتمل داخل مملكة الأولياء". ويرى الكاتب أنّ مدخل النضال والتّرافع في أهم قضايا المغرب الترابية يمرّ أساسا عبر قناة المواطنَة الحرّة، وتقاسم الثروة الوطنية، وإعادة توزيعها بشكل عادل، والتدبير المشترك لها دون صكوك اتّهام أو تخوين، بعيدا عن احتكار الملفّ من طرف "جهات معيّنة"، لم يعيّنها، وتقوية المجتمع المدني في رسم معالم سياسة ديبلوماسية وازنة. ويكتب الروائي مراد الضفري عن أهم سبب جعل المغاربة "على مرّ التاريخ خاضعين مستَسلمين لحكّامهم المستبدّين، مبجّلين لاستقرار "القوي" وعازفين عن الحقّ خوفا من "العنف""؛ وهو "نمط "التربية" التي تلقّاها الأطفال المغاربة في كنف عائلاتهم منذ العصور الحديثة على الأقلّ (...) الذي يُذْكي "فانتازم القوّة" ففي مخيال الطّفل، مواطن المستقبل، ويجعله يؤمن بأنّ من يملك وسائل القوّة والعنف والقادر على الطّغيان والاستبداد، هو من يحقّ له أن يحكم ويسود وبالتالي يستسلم له نفسيا بدون تردّد أو مقاومة ويُخَيَّل إليه أنّه "الحاكم الشرعي"". ومن بين نتائج عقدة الخوف من العنف الذي يربّى عليه الأطفال، وفق الضفري، تطوّر شخصية المجتمع ككلّ حتى صار مستسلما خاضعا بلا وعي للحاكم صاحب القوّة والبطش، ومن نتائج ذلك ما يُرى من "تمجيد المواطنين جلّادَهم واحترامهم له، وتغنّيهم باسمه، حتى أنّ الكثير يحنّ في المغرب مثلا إلى طغيان "الحسن الثاني"". ومن النتائج أيضا، وفق المصدر نفسه، عدم استطاعة الأطفال انتقاد وتوبيخ الطّفل القويّ "الزعيم" في حضوره ومواجهته، ولجوئهم إلى الشّكوى منه وانتقاده عند غيابه، أو عند أفراد العائلة، والأماكن المغلقَة، ويزيد: وهي تماما نفس العقدة النفسية التي تطوّرت عند البالغين من جموع الشعب الخاضِع المستسلم، فتراهم ينتقدون "الاستبداد" و"الطّغيان" في سيارات الأجرة، ووسائل النقل، والحمام، وكراسي المقاهي، والجامعات، والصالونات، لكن بمجرّد ما يقفون أمام المستبدّ والطّاغية يركعون له ويمجِّدون اسمه، وهي نفس العقدة التي يرى أن "المثقَّفين الخاضعين" لا ينجون منها. ويبحث عبد الحفيظ الحلو عن "لاهوت تحرير إسلامي" فيضع "الدين السلطاني" نقيضا ل"الدين الوحيانيّ"، ويتّهم الأوّل ب"إحداث أعطاب عميقة في سيكولوجية الفرد المتديّن، تنعكس في تصوّره للعالم، وفي مسلكه التعبّدي الذي يصبح فاقدا للرؤية التغييرية، مسكونا بهاجس الاستقرار بما هو أطروحة مخزنية أثيرة..."، ويرى أنّ التأويل الديني للسلطة بالمغرب "موغل في الانحراف عن الأصل الوحياني، وتعمل على إنتاج رؤية دينية تغييبيّة -عبره- تصرف "المؤمنين" عن الواقع بكل إشكالاته وأعطابه". ويقول الكاتب منير الحجوجي إنّ الموجود في موقع المتحكّم الأكبر في المورد أو القرار الإستراتيجي يبدأ دائما في التفكير في آليات تأبيد الذات، وتخليد الجينات وفي طرق الابتلاع القادم للبلاد والعباد، بتحضير أبنائها لاستلام مغرب سنوات 2030. وجاء ما كتبه حجوجي تعليقا على خبر افتتاح الأميرة سكينة العلوي مدرسة فاخرة تابعة للوكالة الفرنسية بالخارج تحت اسم "مجموعة مدارس جاك شيراك"، يقتصر التعليم فيها على مستويَين هما الأوّلي والابتدائي، إضافة إلى الحضانة التي تبلغ رسوم التسجيل فيها 15 ألف درهم للسنة، و10 آلاف درهم للشهر الواحد. ويرى الكاتب أنّ "مافيا السنوات القادمة ستكون أخطر بكثير جدا من المافيا الحالية"؛ لأن "الحالية تنهب بالاستناد على العائلة، والقبيلة، بالتحالف مع أصحاب الوقت، وهي ذات طبيعة شبكويّة"، فيما "مافيات 2030 ستنهب ب"العلم"، وستمتَح شرعيّتها من كفاءتها العلمية الذاتية". والبحث عن جذور أزمة التعليم، وفق الكاتب، يجب أن يتمّ في "خوف المافيا من أن تتحوّل المدرسة إلى فضاء ينتج مزاحمين في إنتاج وتدبير والاستحواذ على المورد والقرار الإستراتيجي"، وبالتالي فإنّ "كل السياسات التربوية موجّهة نحو صناعة تلاميذ بالكاد يقرؤون ويكتبون لكنهم لا يفقهون ما يقرؤون ويكتبون، وإذا ما فقهوا يكون ذلك في حدود ما أريد لهم أن يدركوه"، وهو ما نتجت عنه "كيانات مهزوزة، وفارغة، ويائسة، ومكتئبة، بلا أيّ قدرة للوصول إلى المستويات العليا من التعليم"، الذي تحتكره "المافيا" عبر "آلية العزل والتصفية المدرسية". ويفرّق الحجوجي بين ستّة أنواع من المدارس في المغرب: المدرسة المولوية الموجودة خارج المنافسة بوصفها مدرسة خصوصية عالية أو فائقة الخصوصية، والمدرسة الخصوصية التي أوجدت لامتصاص أبناء الطبقة الثرية الذين لم يجدوا مكانا ضمن المدارس الفائقة، والمدارس الخاصّة الاقتصادية لصبية الطبقات الوسطى، والمدرسة العمومية أخيرا، التي تنقسم لأربعة أنواع، هي: مدارس مركز المدينة، ومدرسة الهوامش، ومدرسة القرى الموجودة بجانب الطريق، ومدرسة القرية المختفية في الأدغال الغابرة. ويعبّر الكاتب عن تحليله منطلقا من تصوّر أنّ "التحالف الطبقي الحاكم"، بعد حسمه للصّراع السياسي بهدم المعارضة، اتّجه إلى تنفيذ رؤيته الجذرية للمدرسة، نظرا لأهميتها الشديدة في سياق تأمين المواقع والأرباح السياسية والاقتصادية؛ وهو ما بدأ بعزل الأبناء، الورثة، داخل شبكات واسعة من المدارس النخبوية، تُلقَّن "علوم الافتراس"، فيما تُرِكَت المدرسة العمومية لإنتاج "العبيد والخمّاسة ممّن يحتاجهم أصحاب الضيعات في المركّبات الاستثمارية"، فيما وُجِّهَت مدرسة الطبقة الوسطى لإنتاج "عبيد وخماسة من نوع أعلى قليلا" علما أنّهم "ضروريون أيضا في سياق تأمين اللعبة "التنموية""". ويتحدّث ياسين كني عمّا يحكم به على المرأة من عدم تعويل عليها للقيام بثورة ثقافية تؤهّل لتغيير جذري في المجتمع، في المغرب والدول التي تشاركه الوعي الثقافي نفسه، ثم يزيد: "الحديث هنا طبعا عن السائد من النساء. إلا أنّنا لا نؤمن بتغيير دون اشتراك المرأة". ويتناول الباحث "نسق استعْهار أو استدْعار" المرأة بوصفه نسقا ثقافيا يتّسم بالجماهيرية والخطورة، وقلّما تسلم منه النساء، وتظلّ عوالقه ظاهرة في تصرفاتهن رغم الوعي الجزئي بالعطب المتفشّي في اللاشعور الجمعي للنّساء، وهو ما يساهم في تجذّره الرجل كما المرأة، وتزرعه الأمّ وجلّ إناث العائلة والمحيط، بتنشئة الطفلة وهي تشاهد ميزانية ضخمة من ميزانية أمّها تذهب في مساحيق التجميل، والملابس، والحليّ والأثاث المناسباتيّين، والمجوهرات… التي لا تلبس إلا في "مناسبات الاستعراض الجماعيّ للنساء". فيما تطرّق عبد الواحد أيت الزّين عن "المدرسة المفصولة عن الهموم الأصيلة للإنسانية"، والمتهمة بأنّ "لها أدوارا خفية، تحتجب خلف الغايات النبيلة المعلنَة"، تغزوها ألفاظ "الحزم، والانضباط، والجدّيّة، و"الخدْمَة"، و"أعلى نقطة"، و"شحال جبتي؟"، أي كم نقطتك؟، التي لا يمكن إلا أن تخلق كائنات طيّعة مسلوبة الإرادة، أو أحزمة ناسفة قابلة لأن تعبّأ بنفس الأسلوب الذي اعتمدته المدارس، التي "تستقيل من الأرض وأسئلتها، لتقبَع في السّماء ومجاهيلها.". ويرى الكاتب أن المدرسة التي من المفترض أن يكتشف فيها المتعلّمون ذواتهم المختلفة عن الأشياء، يتخرّجون منها وهم منفصلون عن قيم الوعي، والحرية، والكرامة، وقد زادوا اقتناعا ب"عبادة المال".