"ما الذي تبقى من الواقع المادي ونحن نشهد في كل مكان حقنا هائلا ومتواصلا للواقع بالصورة والمتخيل الافتراضي؟". بودريار "لا نتوفر، إلى حد الساعة، على حاسة تمكننا من التمييز التلقائي بين المعقول والموهوم؛ بل أصبحنا، في حالات كثيرة، نفضل الوهم ونتعلق به.. ترى ما جدوى الواقعية التي ما فتئ يدعو إليها في الفكر والسلوك والتعبير والإبداع؟". عبد الله العروي (1) - هل لا يزال بإمكان الذاكرة أن تمارس وظائفها اليوم من دون تدخل الوسائط الرقمية؟ أضحى محرك البحث الرقمي غوغول Google ومثله مواقع تخزين وعرض الفيديوهات: يوتيوبYoutube ، الديليموشنDailymotion ، فيميوVimeo أو تلك الخاصة بالصور: إنستغرامInstagram وبينترست Pinterest بمثابة سند افتراضي Support virtuel لتحويل المعطيات إلى لغة تواصل بصري- تشاركي؛ ما يستدعي تصورات جديدة للمعرفة، ليس باعتبارها نتاجا فردانيا خالصا كما عهدناه من قبل؛ بل باعتبار هذه المعرفة تصير مع كل يوم لحظة جماعية تشترك في إنتاجها كل الفعاليات. جمهور اليوم لم يعد رقما سلبيا إزاء إنتاج المعلومة وذيوعها، بل صارت الجماهير تتفاعل مباشرة مع بناء المعلومة منذ لحظة إنتاجها، وتتدخل لتعديلها وتقييمها في كل لحظة وحين بما ينعكس عليها سلبا أو إيجابا. ومن ثم، لم تعد المعرفة بفضل التكنولوجيات الجديدة تتقدم الجمهور؛ بل صار الجمهور مواكب للمعرفة، فتبوأ بذلك مرتبة لم يدركها من قبل. (2) أسهمت هذه الحوامل الافتراضية في نحت مفهوم مغاير للذاكرة وللأرشفة بسبب قدراتها الخارقة على التخزين التي تفوق قدراتنا الذاتية على التذكر من جهة، وتفوقها على كل عمليات التخزين والأرشفة طيلة العصور السابقة من جهة أخرى. تحررت الذاكرة البشرية وتخففت بشكل غير مسبوق، وتغيرت من ثم علاقاتنا بالماضي حينما صار بإمكاننا استرجاع أية معلومة أو وقائع بمجرد الضغط على زر. بذلك، تفرغت كفاءاتنا الذهنية للحاضر (الإنجاز والإبداع) تاركة للآلة أن تصير وسيطا بيننا وبين استعادة ما مضى في شكل سمعي- بصري فائق التحسين. تحولت الذاكرة من جهاز عضوي معرض للتشظي والاستيهام كما في السابق إلى جهاز آلي يكتسي وظيفة مادية صرفة، فتغيرت بذلك مفاهيم من قبيل: التاريخ والتراث واللغة، مثلما تحولت وظائف التعبير التي لم تعد تعتمد بلا ضرورة المحاكاة وإعادة التمثيل. (3) أسهمت هذه الحوامل الافتراضية في نحت مفهوم جديد للحياة الاجتماعية لا يقوم على إيلاء أي اعتبار للواقعي بل ولاءه كله للافتراضي، كل فعاليات هذه الحياة الجديدة صارت تقدم نفسها اليوم ضمن شروط إنتاج مغايرة باعتبارها تراكما لا نهائيا من الصور التي تعيد تمثيل الواقع الذي أخذنا نفقد الصلة به يوما بعد يوم. لم يعد بإمكاننا استعادة هذا الذي اصطلحنا عليه سابقا ب: "الواقع" إلا عبر مضاعفاته (الصور والنسخ)؛ وهنا تتحدد قيمة "الاستعراض" باعتباره تلك العلاقة الجمالية بين أشكال راديكالية من الفنون المنفلتة التي تتوسط فيها الصور. يصطلح جي دوبور Guy Debord على نعت هذه الحياة الاجتماعية الجديدة ب: مجتمع الاستعراض La société du spectacle الذي ازددنا انغماسا فيه بعد شيوع الإنترنيت؛ بحيث لم يعد بالإمكان تصور إمكانية نسج أية علاقات اجتماعية خارج الشاشات. (4) ليس "مجتمع الاستعراض" حصرا على قارة بعينها أو مدن دون أخرى، هو بالأحرى نمط عيش جديد Un nouveau mode de vie يكتسح حياتنا المعاصرة بإفراط؛ ربما في الشرق الأوسط أكثر منه في أوروبا، وقد يكون بشكل متسارع في آسيا عن نظيره في الأمريكيتين؛ هو نمط حياة ينهض على أنقاض التنافسية الاقتصادية وركام هائل من الإعلانات وعبر سرعة انتقال الخبر وذيوع الوسائط الاجتماعية. ومن ثم، فالحياة الجديدة ليست استعراضية على نحو اعتباطي أو عبر المصادفة؛ بل إن الاستعراض ذاته هو ما يشكل لحمتها وما يجعلها تقاوم فكرة الخصوصية والنزوع إلى التملك والملكية: من السيلفي Selfi إلى تلفزيون الواقع، ومن التوك شو إلى Got talent، .. تصبح الشهرة العرضية التي لا تدوم سوى لفترة وجيزة بديلا للنجومية والزعامة اللتين لم يعد لهما من مكان في مجتمع الشبكات القائم على الشيوع والتقاسم. انتهت الزعامات إلى الأبد، كما أن النجومية الأبدية لا تعدو أن تكون وهما في عصر تتحدد فيه قيمتنا بدرجة استهلاكنا لا إنتاجنا فقط.. (5) الاستعراض بدون محكيات ولا سرديات هو جوهر فنون الأداء التي ليس ضروريا أن تتشكل انطلاقا من حوارات مدونة أو سيناريو جاهز؛ فالتصوير ومنتجة الصور Montage وتحسينها Traitement d'image وطرق إسقاطها Projection وابتكار حواملها Support هو الأهم؛ حيث المؤدون يحققون المرور من وإلى الصور وهم واعون تماما بأنهم محل تصوير، ما يمنعهم من أين يكونوا طبيعيين وواقعيين. يشير إيف ميشو Yves Michaux إلى حقيقة بليغة مفادها بأنه «في سنة 2001 التقطت 86 مليار صورة كان أغلبها ورقيا، وفي سنة 2012 التقطت 850 مليار صورة أغلبها ظل رقميا ولم يتحول أبدا إلى ورق، بل وضع في الشبكة وأرسل إلى الأصدقاء».. هل كان التأثير هو ذاته؟.. بالتأكيد لا، لأنه في الحالة الثانية أعطت الصور انطباعا عن واقع عابر ومعالج، مؤول ومزيف وليس كما كان عليه الأمر من خلال الفنون التقليدية كالرسم والسرد والنحت والتمثيل اللفظي والفوتوغرافيا التناظرية؛ فلقد قضى الفوتوشوب على نقطة المدى Punctum ؛ وانتقلنا بتعبير ميشو Michaux من مجتمع الندرة في الصور إلى مجتمع يرزح تحت نير وفرة الصور وسيولتها؛ وتلك هي السمة الاستعراضية لمجتمع الشبكات. (6) - أين هو الواقع إذن؟ هكذا يتساءل أكثرنا تحررا وتزمتا، ولكن ما هو هذا الواقع الذي نعتقد بأننا نراه؟ وكيف نبصر شيئا واقعيا بالعين المجردة؟.. ليس الواقع علميا إذا كنا نحصره فيما نراه ونلمسه أو نتذوقه سوى إشارات كهربائية يجسدها ويتمثلها الدماغ البشري، ومن ثم، فهو نفسه مجرد وهم كبير في مقابل الفراغ الذي يظل هو الأصل والحقيقة. في مشهد شهير من فيلم المصفوف The Matrix ، يحاول نيو Néo جاهدا تقليد طفل بوذي بثني ملعقة اعتمادا على الخاطر الذهني؛ لكنه في كل مرة يفشل. يستوضح سر هذه المقدرة الخارقة لدى الصغير، فيجيبه هذا الأخير بسؤال بسيط: هل هناك ملعقة حقا؟ أم أنها مجرد تمثل ذهني زائف، وأننا في حد ذاتنا لسنا سوى أوهام تسبح في فراغ. (7) ليس الواقع هو ما يخفي عنا الفراغ؛ ولكن الفراغ هو ما يحجب حقيقة عدم وجود واقع بالمرة. لو فهمنا هذه الحقيقة سنفهم ببساطة لماذا تعاني كل أشكال السياسي والفني من الاحتضار.. ولماذا انتهت النزعات الأصولية إلى عنف مدمر.. والأهم سندرك لماذا شكك عبد الله العروي في محاضرته الأخيرة في إمكانية قدرة المجتمعات غير الحداثية على تصور واقع افتراضي.. ما أبلغك أيها العروي، الذي ما نطق يوما عن هوى: الأمية الرقمية أسوأ بكثير من الأمية الحرفية كما ذكرت.. فلعل الذكرى تنفع المؤمنين.