"أهوى الرسم وأطمح إلى إضفاء الجمالية على الشوارع، وجعلها تنبض بالحياة"، هكذا عبر الفنان الشاب، ابن مدينة سلا، مراد الرّشندالي، عن تطلعاته من احتراف فن "الغرافيتي" أو "فن الشارع" كما يسمّيه عامة الناس، فعشق الرسم الذي رافقه منذ نعومة أظفاره، وإيمانه بأن تحقيق المتعة البصرية التي يخلقها الرسام، يجب أن تكون متاحة للجميع دون استثناء، تحكّما منذ البداية في اختياراته الفنية. وعلى هذا الأساس، قرّر هذا المبدع العصاميّ اقتحام فضاءات الشوارع ليعرض أعماله الفنية، التي حولت جدرانا متآكلة ومهملة إلى مساحات تنضح بالألوان وتبثّ الجمال في المكان، عارضة إبداعات تلامس نبض الشارع، وتنبش في ذاكرة التراث المغربي. الرّشندالي، ذو ال27 ربيعا، لم يترك مجالا مهنيا يُستخدم فيه الرسم كأداة إلا غاص في عوالمه، إذ عمل في مجال الرسم على الجلود والملابس والأحذية والحقائب، ليعود مشبعا بتجارب ومهارات وظفها في تطويع فن "الغرافيتي"، الذي عادة ما يعبّر عن التمرد والثورة، محوّلا إيّاه إلى أداة لجس نبض الشارع، وحفظ الذاكرة التراثية، وإتاحة الفرصة لعموم الناس من أجل الاستمتاع بالجمالية البصرية التي يحققها فن الرسم. لقد طمح هذا المبدع الشاب إلى جعل عالم الريشة والألوان مفتوحا أمام جمهور عريض، فنقله من فضاءات الصالونات الضيقة والمعارض المغلقة إلى فضاءات أرحب، مكسرا بذلك العرف الذي ارتبط بهذا النوع من الفنون، باعتباره نوعا فنيا نخبويا لا يهتم بتفاصيله وفلسفته إلا المثقفون. الموهبة سر الحضور يسافر الرّشندالي مع ريشته وألوانه في عوالم الإبداع، متمسّكا بالبساطة التي تميّز أعماله، التي تعرضها جدران شوارع عديدة بعدّة مدن مغربية، استضافته فأسهم في تأثيث فضاءاتها العمومية بجمال الريشة وبهجة الألوان، مما ساعده على تقريب فنه من مختلف شرائح المجتمع المغربي، جاعلا من التراث والهوية المغربيين منهلا لأعماله التي لقيت صدى طيبا وواسعا بمختلف مناطق المغرب. يقول الفنان الرشندالي، في حديث خص به هسبريس، إن "عشق الرّسم رافقني منذ نعومة أظفاري، ومنذ ذلك الحين وأنا أمارسه كهواية، عملت طبعا على صقلها أولا بالممارسة، ثم عبر منهج البحث، إلى أن تمكنت من خوض غمار الاحترافية منذ عشر سنوات تقريبا"، مشيرا إلى أنه بعد حصوله على شهادة الباكالوريا سنة 2013، تفرغ لتطوير مهاراته الفنية بولوج جميع المجالات التي توظّف الرسم كأداة. وقال عاشق "فنّ الشارع": "آخر تلك التجارب كانت العمل في الرسم على الجلود والأحذية والحقائب بدولة قطر، مضيفا "لا بأس بالنسبة إلي من ولوج أي مجال له علاقة بالرسم لخوض التجربة واكتشاف الجديد". وعن بدايته الفنية، قال الرّشندالي: "كجميع أصحاب المواهب، بمجرد ما اكتشفت موهبتي وتيقنت من أن الرسم هو المجال الذي أرتاح فيه، عمدت إلى صقله وتطويره عبر الممارسة والبحث ومراكمة المعلومات بالقراءة". وأضاف "كنت أرسم أمورا بسيطة على الأوراق، ومع مرور الوقت تطورت موهبتي إلى أن اخترت فن الشارع لكونه مجالا أرتاح إليه، وأفضله كثيرا عن بقية المجالات الفنية، نظرا لأنه يتيح لي عرض إبداعاتي أمام العموم". "فن الشارع".. إبداعات تعانق الجمهور يعتبر الفنان الرشندالي أن اختياره ممارسة "فن الشارع" نابع من قناعته بأنه "فن يتيح لممارسه تمرير رسائل قيمة ونبيلة مباشرة، إلى جانب كونه يضفي جمالية على المدينة". وأضاف "ليس على الفنان بالضّرورة أن يعرض أعماله الفنية في معرض مغلق، يقصده قلّة من المهتمين"، مشيرا إلى أن الشارع معرض مفتوح لعامة الناس، و"أنا أفضله كثيرا، لأنه يتيح لي عرض إبداعاتي أمام جميع الفئات والشرائح الاجتماعية، خاصة أن الناس لم يعد لديهم الوقت لزيارة المعارض، وهكذا فإن بإمكانهم مشاهدة الأعمال الفنية في أي وقت يشاؤون"، يقول الرشندالي. وتابع قائلا: "المثير في تجربتي أنها تُنمّي الإبداع، وتتيح لي إخراجه إلى الواقع، وجعله مفتوحا أمام الناس ليشاهدوه خارج حدود الفضاءات الضيقة، فهكذا أُقرّب فني من جميع شرائح المجتمع"، مبرزا أن هذا الخيار يلغي جميع الموانع التي تحول دون إمكانية استمتاع جمهور عريض بالمتعة البصرية التي يعرضها الفنان التشكيلي من خلال إبداعاته الفنية. وأوضح هذا الفنان السلاوي أن "دوافعي لاختيار هذا الفن تكمن في أنني أريد إعطاء صورة جميلة للجدران، وأجعلها تنبض بالحياة". وزاد قائلا: "هناك عدّة طرق أستعملها للتحكم في لوحاتي على الجدران العالية عبر الرّافعة، وهذه الآلية تتوفر مع الممارسة المستمرة، وهذا ما يمكّن الممارس من ضبط القياسات والمساحات"، مشيرا إلى أنه يستعين بالرّافعة لحمل الصّباغات والأدوات المستعملة في الرسم، وللانتقال من مساحة إلى أخرى. أعمال تلامس التراث معظم التيمات التي تجسدها أعمال الرشندالي تستمد تفاصيلها من الموروث الثقافي المغربي، وتقاليد البلد الأصيلة، بينما يظل الإنسان المغربي البسيط الموضوع الأساسي في كل تلك الإبداعات التي انطلقت من جداريات مدينة سلا، وبدأت تقتحم شوارع وأزقة عدد من المدن، وصولا إلى الشريط الساحلي لعمالة المضيقالفنيدق بشمال المغرب. جداريات تُجسّد شخصيات تعبر عن عمق المجتمع المغربي، فبين "كرّاب" و"جبلية" و "كناوي" و"صانع خزف"... يُشكّل الرشندالي جداريات تؤثث لثقافة الجمال، مزيّنا بها الفضاءات العامة. يقول في هذا الصدد: "اخترت العمل على المواضيع المغربية المستوحاة من التراث والتقاليد التي تلامس واقع المغاربة، وتحفظ ذاكرتهم التراثية". وأوضح الرّشندالي أنه يشتغل خلال هذه المرحلة "على وجوه المغاربة، فكما نعرف، لدينا النجار، وصاحب الفرن، وصاحب الفخار، والكناوي، والمرأة التي تنسج الزرابي... وكثير من الوجوه التي يجب أن نرد لها الاعتبار". وحول شعوره عند الانتهاء من إنجاز عمل من أعماله التي لاقت استحسانا كبيرا من لدن المواطنين، يقول الرشندالي: "إنه شعور عظيم، وإحساس جميل حين تفجر طاقاتك وتترجم أفكارك إلى أعمال، وتحول أحلامك إلى واقع ملموس، وتحقق إنجازات قد وضعت حبك فيها، وصارت من أعظم الإنجازات".