عاشت جدتي لأبي حتى بلغت تسعين سنة. وقد كانت لالة نفيسة تجسيدا حقيقيا للشخص العاشق للحياة. كانت شديدة العناية بأناقتها، تضع أحمر الشفاه الوردي ورشات زكية من عطرها البلدي الفواح ليس فقط في المناسبات العائلية، ولكن أيضا في بيتها، وإن لم تغادره. وكانت أنفاس كما كان يحلو لي أن أناديها على سبيل الدعابة قادرة على مجابهة صعوبات الحياة وأحزانها وأتراحها ونوازلها المزلزلة للبدن والفؤاد والروح بقدر هائل من الصلابة واللامبالاة والحب الجارف للحياة. كانت لالة أنفاس تمتلك دقة قناص حربي في تحقيق الأهداف، أي أهدافها الكبرى، ومنها تزويج بناتها الأربع بسادة في غاية الوجاهة والثراء وضمان تربية وتعليم كريمين لأبنائها التسعة، حتى تدرج جلهم في أرفع المناصب وزاول نصفهم دزينة من المهن الحرة المدرة للدخل. وبقدر ما أستطيع التذكر وإعادة بناء أحداث الماضي بلمستي الشخصية، فإني لا أومن بالسيرة الذاتية المحضة، فالخيال الراقص على إيقاع السرد المشفوع بالزيادة أو النقصان في ما وقع من أحداث... هذا الخيال جزء لا يتجزأ من كل سيرة ذاتية، سواء كانت روائية واقعية أو ذهنية رمزية. كنت أرى جدتي ترفل دائما في قفاطينها الحريرية المبهجة للعيون بألوانها وتفاصيلها وزخارفها البديعة، وكان أجمل ما في وجه لالة نفيسة عيناها الضاحكتان المستبشرتان دواما وسط وجه صاف لم تنل منه تجاعيد الشيخوخة. كانت حياة لالة نفيسة حافلة بالأحداث الكبرى التي بصمت التاريخ المعاصر، أي المئة سنة الأخيرة من القرن العشرين الماضي. بالفعل، شهدت جدتي ولادة معجزات بشرية في غاية الروعة، كالإنترنت والأقمار الصناعية والكمبيوتر والتلفزيون. لكن أكثر ما أثار دهشتها الشديدة هو عندما طلبت منها أسرتنا الصغيرة ذات يوم مرافقتها في رحلة بحرية، لأنها ببساطة رفضت الفكرة بداية بذريعة أنها تجاوزت سن من يذهبون للاستجمام في البحر، وهي علاوة على ذلك تخاف خوفا شديدا من معانقة ذاك المجهول الهادرة أمواجه بسبب أو لا سبب؛ فمكوثها طوال عمرها في مدينة داخلية، على مبعدة 555 كيلومترا من الساحل قتل لديها رغبة إلقاء ولو نظرة خاطفة إلى البحر، في رحلة من الرحلات، وهذا رغم دعوات أبنائها الكثيرة. ولكن، هذه المرة بالذات، وافقت لالة نفيسة وهي تقول بصوت مشتعل بالحماس: "لم لا"؟ وعندما وقفت على ضفة الشاطئ داعبت الأمواج المتكسرة قدميها العاريتين، فانتابتها موجة هستيرية من الضحك وقالت لأمي بصوت منتش جذلان: - ليست معانقة الأمواج ما يضحكني، ما يدهشني هو جواب مقنع عن سؤال يتردد في خاطري: كم يحتاج هذا اليم اللامحدود من أكياس الملح حتى يصبح طعمه أجاجا؟ ومرت الأيام، واستدعت خالتي كنزة جدتي إلى مرافقتها في عمرة إلى المدينةالمنورة، فوافقت هذه المرة دون أدنى تردد، ولحسن الصدف كنت أرافق المعتمرتين في الرحلة على متن الطائرة، وأثناء السفر سمعت جدتي تهمس لخالتي: - لا تخيفني هذه التكنولوجيا الغريبة بالنسبة لي، ولا يخيفني البتة أن أموت في عنان السماء ونحن نحلق فوق المحيطات، على هذا الارتفاع الشاهق، لأني هنا أحسني أقرب ما أكون إلى خالقي! ومرت سنوات أخرى، أحسبها خمس عشرة أو عشرين سنة على أقصى تقدير، وكنت حينذاك في كاليفورنيا للمشاركة في مؤتمر علمي حول الميتافيزيقا، ولانشغالي بهذا الملتقى الفريد فقد أبقيت هاتفي المحمول صامتا طوال ثلاثة أيام (وهي مدة المؤتمر)، لكن رسالة نصية عجيبة قادمة من الضفة الأخرى للمحيط بدلت صمت هاتفي المؤقت بصمت من نوع آخر.. بصمت أكثر بهاء وجلالا: "ودعتنا اليوم جدتك لالة نفيسة إلى العالم الآخر، وعلى شفتيها ابتسامة هادئة مطمئنة. لقد التحقت بالرفيق الأعلى بينما كانت منهمكة في تلاوة آيات من سورة يس في مصحفها المذهب الذي لا يفارقها أبدا. كانت جدتك على متن الطائرة المتوجهة إلى الديار المقدسة لأداء شعائر حجتها الثالثة.. رحم الله لالة نفيسة وألحقنا بها مسلمين ومؤمنين. آمين..". *خبير التواصل والتنمية الذاتية