طبعا سيكون من العبث الحديث عن دراسات علمية مستقبلية، لا تستند إلى الشرعية والمشروعية، بمعنى ضرورة مساءلة نزاهة ومصداقية، البحث العلمي، وهو يتنبأ بسقوط دولة عظمى، الإمبراطورية الأمريكية، ومساءلة النوايا والخلفيات التي تجعل عالم المستقبليات، يدعي أن أمريكا تتجه نحو الهاوية، هل هو دافع الحقد والكراهية لأمريكا، وبالتالي لا نكون أمام دراسات مستقبلية، بقدر ما نكون أمام متمنيات وأحلام مريضة، مليئة بالحقد لا أكثر. لكن حين نسمع لأبرز المفكرين الأمريكيين وأكثرهم رصانة وهدوءا على غرار المفكر تشومسكي الذي يقول بأن أمريكا مثال للدولة الفاشلة التي تروج للديمقراطية والقيم الإنسانية كالحرية والرحمة، لكنها أكثر الدول إسرافا في استخدام العنف وإراقة الدماء، هنا لا ينبغي أن يكون البعض أمريكيا أكثر من الفكرين الأمريكيين. سيناريوهات الكثير من علماء “المستقبليات الأميركيين” تؤكد أن تفكّك وتهاوي أميركا مسألة حتمية، بناء على قوانين وأسباب مؤدّية إلى قيام، وأيضا سقوط الدول والحضارات. عبر السيرورة التاريخية البشرية الممتدَّة، قامت دول وحضارات وسادت، ثم انهارت وبادت، واختلفت الآراء ووجُهات النظر حول ظاهِرة سقوط الدول والإمبراطوريات، بين تصوّرات لاهوتية غالباً ما تعتبر تهاوي الكثير من الحضارات القوية، ما هو إلا عِقاب إلهي، كان قَدَراً مقدوراً. لكن ابتداء مع المُفكَّر الموسوعي بن خلدون سيبدأ تشكيل تصوّر عِلمي يبحث عن الأسباب والقوانين الموضوعية، التي تُذيب دولة ما، وتسمح بقيام أخرى، أبرزها وفق المنظور الخلدوني، تنامي القوَّة العِرقية لجماعة ما، حيث تتقوّى عصبيّتها ويتضخَّم نفوذها، فتهزم سابقتها بالقوَّة والغَلَبة، لكن انغماس الدولة الجديدة في التَرَف والبَذْخ وشيوع الفساد والاستبداد يجعلها تتساقط كأوراق الخريف. بخصوص سقوط أميركا، أنطلق من سيناريوهات الكثير من علماء “المستقبليات الأميركيين” الذين يؤكِّدون أن تفكّك وتهاوي أميركا هما مسألة حتمية، بناء على قوانين وأسباب مؤدّية إلى سقوط الدول والحضارات، وهي “تكهّنات” تنبني على رَصْدِ مختلف العوامِل والأسباب والشروط التي أسقطت إمبراطورية روما والامبراطوية البريطانية وإمبراطورية الاتحاد السوفياتي، وأميركا ليست خارِقة كي تستثنيها قوانين التاريخ الإنساني. المؤشِّرات الضمنية الخطيرة في مؤلّف جون هول وتشارلز ليندولم، تكشف أن الأميركيين يشعرون بهشاشة مجتمعهم، ومن خلال مُقارَبة تاريخية وسوسيولوجية وأنثربولوجية، هي خليط من الحقائق والمساحيق، يبرز المؤلّفان تناقضات واضطرابات المجتمع الأميركي العِرقية والأخلاقية، وسيادة العُنصرية. بطبيعة الحال يخلص الكاتبان إلى أن مسألة شعور المواطنين الأميركيين بإمكانية انهيار دولتهم راجِع إلى تنامي نزعة الشكّ الذاتي في قوَّة دولتهم، ومرضهم برهاب سقوط أميركا، جرَّاء وعيهم بصناعتها للكثير من الأعداء. المؤرِّخ وعالِم الأحياء جاريد ديامون Jared Diamond يقول بكل وضوح إن الحضارات تختفي حين يُدمِّرها أصحابها. بالرجوع إلى تاريخ أميركا الدموي نجدها قامت بإبادة شعب الهنود الحمر، واستعباد السود واستغلال البروليتاريا لصالح حفنة صغيرة من السوبر امبرياليين، واليوم لا وجود لأميركا البيضاء، أميركا جد ملوَّنة أكثر من تلوّن الحَرْباء، مع أزمات انفجار ديمغرافي وأزمات داخلية، تبدأ في عجز الحكومة الأميركية في توفير الماء الصالح للشرب في الكثير من المناطق المُهمَّشة، وتشريد الأُسَر العاجِزة عن دفع أقساط الرَهْن العقاري، وفشل إمبراطورية الإعلام الهوليوودية في مواصلة دَغْدَغة مشاعر الأميركيين بتحقيق الحُلم الأميركي. الشعب الأميركي اليوم لا يلتفت إلى الأفلام أو المؤلَّفات والكِتابات التي تتغنَّى بقوَّة أميركا. على عكس ذلك فإن الأفلام التي تحصد أكثر المشاهَدات هي التي تصوِّر النهاية التراجيدية لإمبراطورية الدم، والكُتُب التي تحصد أكثر المبيعات هي التي تحمل عنوان “هل تنهار أميركا؟” لا التي تُعنون ب"لماذا لا تسقط أميركا؟". فيما تنهار الكثير من الشركات الأميركية العملاقة وتفلس أكبرها “جنرال موتورز” فإننا نشهد تنامي المديونية للصين، بل إن الاقتصاد الأميركي اليوم مُحاصَر بالديون المالية للصين.. وهل أمريكا هي التي زرعت فيروس كرونا لتدمير التنين الصيني؟ وهذه فرضية غير مستبعدة، مادام شعار أمريكا السري في الممارسة السياسية هو "السياسة هي القدرة على اكتشاف وتدمير العدو".. وبما أن استراتيجيات الحروب المعاصرة بين الدول المتقدمة تكنولوجيا، هي استراتيجيات جد معقدة، فهي ستتجه حتما نحو التخلص نهائيا من بقايا القيم الإنسانية، والمضي تجاه "القتل الذكي" وهو قتل أكبر من ترسانة الصواريخ العابرة للقارات، بل ستعيش الإنسانية حروبا جرثومية لا تبقي ولا تذر، وأمريكا طبعا كانت ولا تزال سباقة إل هذه الحروب، سيما في لحظات صعوبة إنهاء الحرب بطرق أقل بشاعة، وبالتالي تختار البشاعة العظمى، والأمثلة من التاريخ الأمريكي كثيرة بتداعياتها المأساوية، كهيروشيما، ناكازاكي.. وهذا معنى قول الشاعر محمود درويش في قصيدة "مديح الظل العالي": أمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقودية يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون .. والطاعون أمريكا.. ولجوء أمريكا إلى إبداع الخداع الحربي، اليوم تقتضيه الظرفية الاقتصادية الأمريكية المضطربة، سيما وأن الجيش الأميركي فناهيك عن إقرار ترامب بعدم صلاحية نصف عتاده العسكري لخوض حرب، وهو عتاد صالح كديكورٍ لإخافة الأنظمة العربية، وابتزازها، إضافة إلى نقصٍ في الموظفين في وزارة الدفاع الأميركية بسبب عجز الخزينة الأميركية، هذا جعل الجماعات الضاغِطة تفرض ترامب رئيساً، رغم احتجاجات شرائح واسعة من الأميركيين ضد ترشيحه وعباراتهم التي مازالت موثّقة تحمل عبارات “ترامب ليس رئيساً”. اختيار ترامب يعني أن الأزمة الاقتصادية بلغت أوجها، لذا يجب تكليف شخص مُقامِر، يستطيع ابتزاز الدول بلغةٍ واضحةٍ من دون الاختفاء في شعاراتٍ دبلوماسية، لا تتحمّلها الأزمة الأميركية، جملة ترامب الشهيرة “لديهم الأموال عليهم أن يدفعوا”. التحوّل من نَهْب ثروات الشعوب عبر “رجال الأعمال” وصفقات بيع الأسلحة والاستثمار، إلى “التدخّل العسكري” في العراق وسرقة النفط، وفي سوريا وتموقع الجيش الأميركي في حقول النفط، وترامب يقولها علنية، لن أرسل الجنود الأميركيين، للعَسْكَرة في مناطق الرمال والخراب. لا داعي للحديث عن مناطق تواجُد القواعد العسكرية الأميركية، في معظم الدول العربية، التي تعتبرها أميركا أبقاراً حلوبة ودولاً ودودة، أما الدول التي ترفض الهيمنة الأميركية، ولا تسمح للكوبوي الأميركي بسرقة مُدخّراتها، تُعتَبر كدولٍ مارقةٍ تُخندِقها أميركا في محور الشر. لقد أفضت سياسة ترامب إلى نتائج عكسية، أهمّها رؤية الشعوب لأميركا باعتبارها قاتِلاً مُتسلسلاً، منذ أول إبادة لها للهنود الحمر، وتآمرها على الكثير من الدول بإسقاطها، وإفلاسها الأخلاقي، لأن الثابِت في السياسة الأميركية هو نَهْب ثروات الشعوب، وتخديرها بشعارات حقوق الإنسان، والدفاع عن الأقليات، والمواطنة العالمية، التي تستخدمها كأسلحةٍ ناعمةٍ تستهدف تمزيق وحدة الشعوب، لخلق التوتّرات داخلها، ودفعها إلى الاحتجاجات. كتاب “الوجه الخفّي للثورات العربية” يفضح التدخّل الخفّي لأميركا في ما يُسمَّى “الربيع العربي”، الذي وإن بدأ جماهيرياً ضد الفساد والاستبداد، إلا أن أميركا تمكَّنت من اختراقه وتوجيه مساراته، لتقوم بتثبيت وجودها من الخليج إلى المحيط، وبيع أسلحتها للأنظمة العربية، لقمع شعوبها، وهذا واضح في تصريحات المحافظين الغربيين الجدد، يكفي أن نشير إلى تصريح ألان فينكينكرولت الذي قال متهكما أن شعوبنا لا تمتلك ثقافة الديمقراطية، لآن الديمقراطية في نظرته العنصرية توجد فقط في جينات المواطن الغربي، ونحن لا نمتلك ثقافة وتقاليد الديمقراطية في جيناتنا الوراثية. اليوم السحر بدأ ينقلب على الساحِر، والكثير من عُلماء الدراسات المستقبلية الأميركيين، يؤكّدون قرب نهاية أميركا، لأنها أسرفت كثيراً في إراقة الدماء، وفقدت مصداقيتها بخصوص استنبات الديمقراطية في العالم.. وما صفعة القرن إلا واحدة من الصفعات الكثيرة التي تؤكد إمبريالية أمريكا واحتقارها للشعوب التي ترفض العبودية والاحتلال، وهذا ما يجعل الحديث عن "جدلية العبد والسيد" والتي تنتهي برفض العبودية لأن الذي يتنازل عن حريته يتنازل عن إنسانيته.