هو ريشة ساخرة ومشاكسة تهوى التهكم والسخرية، وسلاح يعري قبح الواقع ويكسر قيود الخوف؛ هو الكاريكاتير، المهنة النبيلة التي تهوى انتقاد أحوال الساسة والسياسة والأوضاع الاجتماعية، وتتحدى الألغام المدفونة وسط حقل الحريات العامة بلغة عالمية تعتمد الرسم بدل الحروف. هسبريس التقت الكاريكاتيريست المغربي عبد الغني الدهدوه، رئيس الجمعية المغربية لرسامي الكاريكاتير، وأجرت معه حوارا بخصوص واقع الرسم الصحافي بالمغرب الذي يبحث عن الهوية والاعتراف به فنا تشكيليا نبيلا وأبا للكوميديا السوداء. في هذا الحوار، يميط الدهدوه اللثام عن واقع ومعيقات ممارسة "الفن التاسع" ومستقبله. يعرف الكاريكاتير انتشارا واسعا في الآونة الأخيرة مستثمرا هامش الرقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي، ما تقييمكم لواقع الرسم الصحافي بالمغرب؟ أتاحت منصات التواصل الاجتماعي لرسامي الكاريكاتير مساحات وهوامش لم تكن موجودة من قبل، تتمثل في إتاحة مساحات لا محدودة للنشر بدون عراقيل، وأكثر من ذلك، حققت تفاعلا فوريا مع العمل المنشور من لدن القراء، إلا أن هناك فرقا كبيرا بين مادة تنشر على منصات التواصل الاجتماعي ومادة صحافية تستجيب لمعايير الإعلام وأخلاقياته. فالأعمال الكاريكاتورية التي تنشر على منصات التواصل الاجتماعي وبسبب هامش الحرية الموجود، ينفلت معظمها من عقال المعايير الصحافية، ويغلب عليه طابع الإثارة و"الشعبوية"، وأحيانا الجنوح الواضح عن أخلاقيات عامة، وأكثر من ذلك، غياب رئيس التحرير الذي يراقب المادة قبل نشرها. أستحضر في هذا السياق مقولة لأحد الرسامين عن دور الكاريكاتير مفادها أن "الكاريكاتير الجيد هو الذي يجيزه رئيس التحرير". وهناك عنصر آخر له أهميته ونجده في رسوم الصحافة أكثر من رسوم منصات التواصل الاجتماعي، وهو الجودة على مستوى الرسم والفكرة الخلاقة، على اعتبار أن رسام الجريدة هو رسام محترف، فيما يعد رسام المواقع الاجتماعية رساما هاويا. صحيح أن الانترنيت حقق مطلب النشر الفوري للفنان المبتدئ على الخصوص، لأن مجال النشر كان محصورا ومراقبا من قبل. أما الرسام المحترف، فإنه ينشر مادته على الجريدة قبل المرور إلى إعادة نشرها على مواقع التواصل لتحقق انتشارا إضافيا. الكاريكاتير في المغرب يتحرك ويحاول جاهدا تطوير أدواته، لكن تراجع الصحافة الورقية أثر عليه بشكل واضح، ذلك أن المحتضن التاريخي للكرتون كان وما زال هو الصحافة الورقية، يزدهر بازدهارها ويصاب بالنكوص إذا هي أصابتها صروف الدهر ونوائبه كما هو وضعها الحالي. هل الكاريكاتير جنس صحافي أم رسومات فنية؟ الكاريكاتير يزاوج بين العمل الفني التشكيلي والعمل الصحافي. في الصحافة يتقمص الفنان دور الصحافي، وفي عالم الفن يتواجد كفنان، والكاريكاتوريست النموذجي الناجح هو في حقيقة الأمر كاتب افتتاحية بالرسم، وهو بهذه المواصفات يتجاوز العمل الصحافي العادي، ولذلك نجد أن فنان الكاريكاتير كان ومازال عملة نادرة، بعض الإحصائيات استنتجت أنه في كل مليون نسمة نحصل على فنان كاريكاتير واحد، والمثير أيضا أن معاهد الفنون التي تطورت كثيرا على مستوى العالم لا تمنحك بالضرورة فنانين للكاريكاتير مؤهلين للعمل في الصحف. الكاريكاتير موهبة استثنائية أولا، ثم إنها تحتاج إلى صقل طويل ومضن كي يتمكن الكاريكاتوريست من إنتاج أعمال صالحة للنشر في الصحف، لذلك حين تفقد الصحيفة صحافيا يسهل تعويضه، لكن الأمر يختلف في حالة رسام الكاريكاتير، لأنه بصمة وحالة خاصة واستثنائية. هل يكون الكاريكاتير أقوى بالتعليق أم بدونه؟ توجد مستويات عديدة للتعليق على الرسم الصحافي، بعض التعليقات تكون مكملة فقط للرسم أو موضحة له، هي بمثابة عكاز له، لكن في حالات أخرى نجد عكس ذلك، بحيث يصبح الرسم مجرد عنصر ثانوي أمام تعليق مركز وقوي، الرسم لغة عالمية نلجأ إليها حين نعجز عن التخاطب بلغة الكلام، وهو بهذا المعنى يمكن أن نكتفي به وحده دون وضع تعليقات، ويصبح للرسم في هذه الحالة بعد عالمي يفهمه العالم كله، لكن العمل في الصحافة يفرض على الرسام وضع تعليقات، بين الفينة والأخرى، لأن الحصول على أفكار تخلو من الكلام التوضيحي باستمرار أمر صعب. هل يحقق الرسم الصحافي المبتغى في ظل رقابة مقص إدارة الجرائد ومطرقة السلطات؟ يتطلع رسام الكاريكاتير المغربي إلى اكتساب المزيد في مجال حرية التعبير. صحيح أن بلادنا فيها هامش حرية لا بأس به، إلا أننا نطمح إلى المزيد، كي يتمكن الرسم الكاريكاتوري من القيام بدوره كاملا في دعم قيم الديمقراطية والحرية والعيش المشترك. هناك صنف جديد بدأ في منافسة الرسم الصحافي، يتعلق الأمر هنا ب Troolls، ألا ترى أن هذا النوع من التعبير ساهم في خفوت وهج الكاريكاتير؟ ما أراه على المستوى الشخصي هو أن الكاريكاتير يستقبل بحفاوة على منصات التواصل الاجتماعي، لا أراه مهددا بهذه "الطرولات" التي تتحدث عنها، للكاريكاتير الصحافي تاريخ ممتد إلى أكثر من ثلاثة قرون، تطور خلالها ليصبح أداة تعبير بمعايير الفن، بكل الحمولة التي تحملها كلمة فن، ثم إنه اكتسب داخل فضاء الصحافة خصائص أخرى جعلته يصبح أداة تعبير مميزة، ومن غير الوارد أن تطيح به بسهولة أية وسيلة تعبير أخرى مهما بلغ علو كعبها، فما بالك ب"فن" جديد تعتريه الكثير من الهنات إلى الدرجة التي نتحفظ فيها في أن نعتبره فنا. هذه الطرولات تشبه النكتة الشعبية التي ينتجها الشارع بعفوية كبيرة كرد فعل منه تجاه أحداث ووقائع تمر به ويتأثر بها. في المغرب هناك أسماء معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة تحترف هذا الصنف الإبداعي، الشيء الذي يهدد الرسم الصحافي بالاندثار في ظل غياب الخلف، أليس كذلك؟ أتفق معك إلى حد بعيد، والمفارقة أن الشبان المغاربة الذين يتخرجون في معاهد الفنون كثر، ومتمكنون تقنيا، لكنهم، مثل معظم أبناء جيلهم، ينفرهم المجال السياسي الجامد المعمول به، وهم بدورهم يتعاملون معه بجفاء. المشكلة أنه لكي يكون الفنان رساما صحافيا، لا مناص له من الاهتمام والاطلاع ومتابعة مجالات تعد حيوية بالنسبة للصحافة، مثل المجالين السياسي والاجتماعي، ثم إن تراجع الورقي أثر على وضعية الفنان وجعل العديد من الأسماء تعيش ما يشبه العطالة الفنية. أعتقد أن الرسم الصحافي في المستقبل سيكون متحركا وبصيغة عمل جماعية، أي إن الأمر سيصبح شبيها بمؤسسات ومقاولات تعمل على إنتاج أعمال متحركة موجهة للإعلام يكون الفنان فيها مجرد أداة، لأن المهام ستصبح موزعة بين عدة أفراد كل حسب تخصصه. هكذا أتصور مستقبل هذا الفن.